الفصل العاشر
انتهت السنة المدرسية وأقفلت المدارس والكليات، ونال أصحابنا الثلاثة كلٌّ شهادته، حسن أفندي بهجت شهادة محامٍ، ويوسف بك رأفت شهادة طبيب، وخليل بك مجدي شهادة مهندس. أما حسن فبرح باريس إلى بعض مدن أوروبا في مهمته التي عرفها القارئ، وأما يوسف وخليل فبَقِيا في باريس؛ ليقضيا فصل الصيف فيها.
في ذلك الحين برح إلى أوروبا عزيز باشا نصري أخو خليل بك؛ لكي يصطاف حسب عادته فوصل أولًا باريس حيث التقى بأخيه على نية أن يطوفا معًا في بعض حواضر أُوروبا الجميلة.
وكان لأول التقائهما أن خليل جعل يقص على أخيه أخبار صداقته وعلاقته بطاهر أفندي عفت التركي، وما نالهُ من صداقتهِ من الفوائد، وما يؤمله في المستقبل وكان أهم حديثهما ما يلي:
سأل عزيز: مَن طاهر أفندي هذا؟
فقال خليل: الذي استفدناه من خلال أحاديثه أن أباه تُرْكِيُّ الأصل، من أهل الأستانة، وقد هاجر في صباه إلى مصر وتزوج فيها امرأة مصرية وعادا معًا إلى الأستانة حيث رُزقا طاهرًا هذا، وما كاد يبلغ سن الشباب حتى فُجع بأبيه أولًا ثم بأُمه، ولم يكن له من الميراث ما يستحق الاعتبار فجمع مالهُ القليل، وتنقَّل في بعض مدن البلقان وهو يشتغل في التجارة إلى أن وصل إلى فينا عاصمة النمسا، وهناك أنشأ محلًّا تجاريًّا نجح فيه شيئًا فشيئًا حتى أصبح أخيرًا من أكبر البيوت التجارية في تلك الحاضرة العظيمة، وقد ساعدهُ التوفيقُ في بعض عمليات في البورصة فربح أرباحًا طائلة جدًّا.
– كم تظن أن تبلغ ثروته؟
– الله أعلم، ولكني أظن أنها فوق المليون جنيه وربما كانت مليونين أو ثلاثة أو أكثر؛ لأني لم أستطع أن أعرف داخلية هذا الرجل؛ فإنه كثيرُ الكتمان لأخباره عن نفسه، على أني أؤكد أنه غنيٌّ جدًّا؛ لأنه ينفق عن سعة ولا قيمة للألف جنيه عنده أكثر من قيمة الجنيه عندي وعندك.
– وأي فائدة جنيت من صداقتهِ؟
– أسر إليك أني استدنت منه ثمانية آلاف جنيه بغير فائدة.
– يا الله، ثمانية آلاف جنيه! وما حاجتك إليها؟
– كنت مديونًا بمعظمها، وقصدت أن ألعب بالفضلة.
– وهل تحسب هذا الاقتراض خدمة قدمها لك صديقك هذا؟
– من غير شك؛ لأني لولاه لكنت وقعت بين براثن الدائنين وأوسعوني إهانة، واضطروني أن أكتب إليك بأن تبيع من عقاري وتبعث لي بالثمن لأوفي ديوني.
– إنك جاهل غرٌّ؛ لأنك لا تدري أن صاحبك هذا بإقراضه إياك مبلغًا عظيمًا من المال سهَّل لك طريق القمار، فإذا خسرت فماذا توفيه من غير ثمن عقارك بعد هذا؟ قل لي هل ربحت أم خسرت؟
– خسرت.
– فإذا كنت بلا بخت في اللعب أوْ لا تعرف جيدًا، فلماذا تورِّط نفسك؟ وماذا توفي صاحبك هذا غير ثمن قسم من أطيانك؟
فضحك خليل بك قائلًا: لا تخفْ؛ قد مُحي هذا الدين من دفتر صاحبنا.
– هل أبرأك منه؟
– كلَّا، بل وقع الصك بين يدي فحفظته، وهاك هو.
وعند ذلك مد خليل يدهُ إلى جيبه وتناول حقيبة واستخرج منها ورقة ودفعها لأخيه، فتأملها عزيز باشا قائلًا: كيف اتصل بك؟ أَبِرِضاه؟
– كلَّا، بل اختلاسًا.
– كيف حصل ذلك؟
– كنت معه ذات يوم في حانة نشرب ونطرب بأحاديثنا، وقد تمكنت الصداقةُ بيني وبينه تمكُّنًا متينًا، ولَمَّا أوشكنا أن ننطلق استدعى بخادم الحانة ليدفع له ثمن الأشربة، وفتح حقيبتهُ وأخذ منها ورقة بنك ودفع منها المطلوب، وحينئذٍ لمحتُ هذا الصك بين أوراقهِ، ولَمَّا خرجنا طلب إليَّ أن أمضي معه إلى الفندق الذي ينزل فيه؛ لأن سؤرة السكر شديدة فيه فصَحِبْتُه، ولما وصلنا إلى غرفته خلع ملابسه ولبس لباس النوم وخرج لقضاء حاجة، فحدثتْني نفسي حينئذٍ أن أغتنم الفرصة لاختلاس الصك، فغافلتُه، وفي الحال فتحتُ الحقيبة التي في جيبه واختلستُه منها، ولما عاد قلت له: الأفضل أن تنام الآن فقال: استدعِ لي فتاتي من الغرفة المجاورة؛ لأنها مع جارتها فاستدعيتُها وودعتُهما ومضيت.
– إنك لَشيطان يا خليل، فيجب أن تُتلف هذا الصك — ومَزَّقَهُ عزيز باشا — ولكن قل لي: من هي فتاته هذه؟
– هي فتاةٌ في فجر الشبيبة، لا تَزيد سنها على أربع عشرة سنة، جميلة بقدر ما يمكن أن يكون الجمال. أما ما هي نسبتها إليه فالله أعلم؛ لأنه يعاملها شبه معاملة المخدرات، ونَدُرَ أن جَمَعَنا بها، وإذا اجتمعنا كان هو في غاية الرزانة؛ لكي يضطرني أن أكون رزينًا معها جدًّا، وإلى الآن لم يكلمْها أكثر من عشر كلمات أمامي، ولم أعلم اسمها، ولكني أكاد أقع في حبها.
– إياك أن تفعل يا خليل؛ فإنه لا أفضل لك من نعيمة؛ لأنها ذاتُ ميراث كبير وهي كالنعجة تتصرف بها كما تشاء، وتلعب بها لعب الصبية بالأكر، فإياك أن يخطر لك فِكْرُ الزواج بفتاة غير نعيمة، ولا أظن تلك الفتاة أجمل منها وإن كانت أجمل منها في عينيك؛ فلأنها قريبة ونعيمة بعيدة، والرجل هوائيٌّ ينجذب إلى الجميل القريب.
– وهل قررت مسألة نعيمة؟
– من غير بُدٍّ؛ فقد وعدني بها أبوها حسين باشا الوعد الصادق، ولم يبقَ إلا أن تعود إلى مصر وتعقد العقد.
– ولكني أخاف أن نعيمة ترفض.
– لماذا؟ أتنتظر أفضل؟
– لا أدري، وإنما أدركت هذا مرة في الصيف الماضي إذ كنت في مصر، وسمعت بعض الأقاويل بهذا المعنى.
– لا تهتم بهذا الشأن، فلا بد أن تقبل بالرغم منها إذا لم تشأْ برضاها.
– ندع هذا الأمر إلى حينه إذن.
– نعم، لكن يجب أن تصرف فكرك عن كل أُنثى غير نعيمة، ولنعدْ إلى حديث صاحبك. أما ذكر لك أمر الصك؟
– كَلَّا البتة، كأنه لم يسرق منه، ولا ظهرت عليه علامات الاهتمام!
– أتظنهُ لم يعلم بعد أن الصك مفقود؟
– لا أدري، ولكنه يفتح تلك الحقيبة دائمًا؛ تارة لإيداع الأوراق المالية فيها، وطورًا لأخذها، ولعلهُ لَمَّا افتقد الصك في الحقيبة ولم يجده ظن أنه نقله إلى محفظة أُخرى فاطمأن باله، أو أنه نسي أنه في محفظة الأوراق المالية الصغيرة.
– ومهما يكن الأمرُ، فأظن أنه إلى الآن لم يعلم.
– وماذا تظنه يفعل إذا علم؟
– لا أظنه يكترث، وجل ما هناك يقول لي: إنه مفقود.
– وحينئذٍ ماذا تفعل؟
– حينئذٍ تنتهي صحبتنا؛ لأني إما أن أنكر دينه أو أدعي أني أوفيته إياه؛ لئلا يستشهد علي بيوسف بك رأفت وحسن بهجت اللذَين وَقَّعَا بشهادتهما على الصك، ولكن لا أظنه يفاتحني بهذا الحديث إذا علم أن الصك مفقود، بل يتركني أوفيه من تلقاء نفسي.
– خطر لي يا خليل خاطر، أود أن أنتهز الفرصة لتنفيذه قبل أن يعلم صاحبك بفقد الصك.
– ما هو؟
– أن أستدين منه مبلغًا طائلًا.
– وأنا أسرق الصك منه؟
فضحك عزيز باشا لجواب أخيه ضحكة المؤمِّنِ على قوله، وقال: أخاف أن تقع في فخ يَنْصبه لك الرجل بسكوته.
– لا. لا. ظنك في وادٍ والحقيقة في واد؛ فأولًا أن طاهر أفندي هذا يودني جدًّا ويعتقد بي اعتقادًا حسنًا، وثانيًا أن النقود لا قيمة لها عنده البتة، وقلبي يُحدثني أنه لو علم بفقد الصك لَتناساه.
– إذن لا خوف من تنبيهه إذا التمست منه قرضًا بعد ما تُعَرِّفُني عليه.
– لا أظن. كم تريد أن تقترض منه؟
– لا أقل من عشرين ألف جنيه.
– بأيِّ داعٍ تلتمس منه هذا المبلغ؟
– بداعي أني اشتريتُ في مصر عزبة كبيرة، ولا أزال أحتاج من ثمنها إلى هذا المبلغ، وبالطبع لا أجسر أن التمس منهُ قرضًا كبيرًا كهذا إلَّا إذا توثقت الصداقةُ بيننا جدًّا، وكانت صداقته لك شديدة — كما تقول.
– سأجمعك به وسترى.
– وماذا يفعل هنا؟
– يتنزه، ويقول إن في نيته أن يذهب إلى مصر؛ لكي يؤسس محلًّا تجاريًّا فيها، أو أن يشتغل أشغالًا مالية.
– حسن جدًّا؛ إذا كان يريد الذهاب إلى مصر فقد سهَّل علينا سَبْك الحِيَل عليه. متى نجتمع به؟
– في هذا المساء.