الفصل الثاني عشر
في شارع من شوارع باريس الصغرى التي تَقل الحركة فيها منزلٌ متوسط الكبر، وقد وُسِمَ بابُه برقم ٢٧. هذا المنزل استأجره طاهر أفندي مدة الصيف، وأقام فيه بعد نهاية الحديث السابق، وكان عند طاهر أفندي رجلٌ يُدعى فيليب فدار الحديث الآتي:
قال فيليب: لقد دبرت الرجلين طبق المرام.
– النشال والمصور؟
– نعم، ولا يعرف أحدهما الآخر، ومن حُسن الحظ أن المصور مارس تلوين وجوه المشخصين والمشخصات في بعض التياترات.
– وهل توفقت إلى نشال يُضارعك قامةً وجسامة.
– نكاد نكون مَصُوغين في قالب واحد.
– ولكن لا يغبْ عليك أنه لا يجوز أن تكون هيئاتكما متشابهتَين، ولكن يحسن أن تكونا متقاربتَين «في التياترات مصورون أخصا شغلهم الوحيد أن يلوثوا وجوه المشخصات والمشخصين بالأصبغة المختلفة؛ لكي يجعلوا سحنتهم موافقةً لسِحَن الأشخاص الذين يُمثِّلونهم تمامًا.»
– أعلم ذلك جيدًا.
– حاذرْ أن يكون النشال والمصور متعارفَين.
– لا معرفة بينهما البتة، وإلى الآن لم يلتقيا ولن يلتقيا إلا في أول السهرة حين يرسم المصور شكلي كشكل النشال.
– أيَّ اسم سميت النشال؟
– المسيو جوزيف رينان.
– هل فهم شيئًا من هذا اللغز؟
– كَلَّا، لم يفهم إلا أنه مأجورٌ لي؛ لكي يحضر مجلسك مدة من الزمان باسم المسيو رينان التاجر.
– بأي صفة أفهمتَه أن يظهر؟
– بصفة كونه تاجرًا لم تعرفه من قبل، ولكنهُ عرفك فأتى لكي يتعرف بك على نية أن يشترك معك في الفرع التجاري الذي تبتغي فتحه.
– حسن جدًّا، يجب أن يكون هنا منذ الساعة الثامنة في هذا المساء. ومتى تجمعه بالمصور لكي يرسم سحنته في وجهك؟
– الساعة السابعة.
– هل درى أن لي علمًا بأمرٍ ما؟
– كلَّا البتة، وهو يظن أني أنصب مكيدة لك.
– أين قررت أن تجعل مكمنك؟
– في الحانة القريبة من هنا، وسأجلس بحيث يقع الظل على وجهي، فلا يُرى جيدًا.
– حسن، حسن جدًّا.
– وأين تجتمعان؟
– في منزل امرأة بَغِيٍّ.
– هل استعددت الاستعدادَ اللازم؟
– كل شيء مهيأ.
– ولَمَّا كانت الساعة الثامنة استأذن بالدخول إلى مجلس طاهر أفندي رجلٌ يُدْعَى الموسيو جوزف رينان، فاستقبله طاهر بكل حفاوة.
– أقدم نفسي لحضرتكم باسم جوزف رينان تاجر.
– على الرحب والسعة.
– أتيت من تلقاءِ نفسي غير مستوسط أحدًا بيننا؛ لأني سمعت عن كرم أخلاق حضرتكم، ما يجعلني أن أُفاتحكم بأمر قد يهمكم كما يهمني.
– خير — إن شاء الله.
– سمعت أن في نيتكم أن تفتحوا محلًّا تجاريًّا في باريس يكون فرعًا لمحلكم الكبير في فينا، فأردت أن أقترح على حضرتكم مشاركتي في هذا المتجر — إذا حسن عندكم.
– لا بأس، ولكن من أخبر حضرتكم أن في نيتي هذا الأمر؟
– المسيو جيرار.
– لا أعرف هذا الرجل.
– ربما لا تعرفونه ولكنه هو يعرف حضرتكم.
عند ذلك وَفَدَ عزيز باشا مجدي فترحب به طاهر أفندي وعرفه بالمسيو جوزف رينان، ولما استأنفوا الحديث قال طاهر أفندي: لقد ورد لي اليوم رسالة من حسن أفندي بهجت من برلين تفيد أنه وقف على إحصاءات ترام كهربائي، وأنه قابل بعض أعضاء الشركة واستفهم منهم عن الترام بالكفاية، واستفاد فوائد جمة ومما قاله: إن درسه في حواضر بلجيكا وهولاندا وألمانيا صار كافيًا، وسيعود قريبًا، ولي الأمل أن يوافق سفره إلى مصر معكم؛ بحيث تشرعون بالاستعدادت اللازمة للمشروع على إثر وصولكم.
– إن شاء الله، هل تؤذنون لي أن أراكم في مكتبكم دقيقة تستأذنون بها الموسيو رينان؟
فقال طاهر أفندي: لكم ما تريدون يا مولاي.
وفي الحال نهض طاهر أفندي واستأذن المسيو رينان، وخرج إلى مكتبه فتبعه عزيز باشا وهناك جلسا إلى المكتب فقال طاهر أفندي: هل أعددت الصك؟
– نعم.
– بخمسين ألف جنيه؟
– نعم، كما اتفقنا.
– وهل أمضاه يوسف بك رأفت شاهدًا؟
– نعم، كما ترى.
ودفعه عزيز باشا إليه لكي يقرأه، فنظرهُ طاهر أفندي، وفي الحال فتح الدرج وتناول أوراقًا مالية بالمبلغ ودفعها إلى عزيز باشا، ثم قال لهُ: أتظن هذا المال كافيًا لإرضاء ذوي الشأن في منح الامتياز ولإعداد المعدات اللازمة؟
– أظنُّها تكفي مع ما أضمه إليها من عندي، وعلى كل حال لا بد أن تصل إلى مصر في أول أكتوبر، وحينئذٍ نُتمم ما ينقص من السعي لدى أصحاب الأمر والنهي.
– وماذا قال يوسف؟ هل يريد أن يشترك معنا في المشروع؟
– قال: إنه يريد، ولكنه لا يجسر أن يجازف بماله لأخذ الامتياز، فهو يشترك معنا متى أخذناه.
– لا بأس، فلعله ضعيف الثقة بنجاح المشروع.
– أما أنا فأؤكد النجاح — إن شاء الله — ولذلك لا أخاف أن أُجازف.
– دع كل المجازفة لي ولا أُريد أن يخسر أحدٌ قرشًا في مشروع أنا أرغب فيه، ثم أذكِّرك ثانيةً بأنه يجب أن يكون لحسن أفندي ضلعٌ وحصة في هذا المشروع؛ لأنه يدٌ عاملة فيهِ، وأنا أؤكد أنه يُفيد المشروع جدًّا بسعيه.
– أعتقد ما تقول، فلا بأس أن تكون له في المشروع الحصة التي تريدها له. عند ذلك عادا إلى قاعة الاستقبال، حيث اجتمعا ثانية بالمسيو جوزف رينان، وبعد حديث قصير نزل عزيز باشا متهللًا بما احتوتْه يده من المال الجزيل، وهو يفكر في كيف يلتهم أكثره.