الفصل الثاني
عند ذلك استوى حسن في مكانه، وجعل يروي حكايته، قال: لا يخفى عليك أن المرحوم أبي — على ما كان عليه من السذاجة والوضاعة — كان محبوبًا كثيرًا لدى حسين باشا عدلي أبي نعيمة؛ لأن أبي كان غيورًا جدًّا على مصالح الباشا، وكان يقضي له أحيانًا بعض المهام الخطيرة، وكان عدلي باشا يثق بأمانته كل الوثوق، ويعتقد بحُسن تربيته وآدابه، وهو الآن يعتقد بي أني ابن أبي في هذه الخصال.
وكانت أمي تتردد كثيرًا إلى دار عدلي باشا، وكانت لها دالة كبرى على زوجته، فمنذ حداثتي كنت أدخل معها أحيانًا إلى دار الحريم وأرى نعيمة، وبقيت أراها وأجتمع بها أحيانًا حتى في أثناء عودتها إلى البيت في الفرصة المدرسية حين كان عمرها يناهز الثانية عشرة، وأنا أكبرها بنحو السنتين، وكانت نار الغرام قد جعلت تلعب بقلبي حتى إني لم أعد أُطيق البعد عن نعيمة، وكانت أمها — إلى ذلك العهد — لا تحظر اجتماعنا؛ لظنها أننا في سن لم يقدح فيها شرر الحب بعد، كأنها نسيت عهد صباها وما كان يتحرك في قلبها من كوامن الهوى.
وما هي وحدها بغافلة عن هذه المظنة بل إن جميع الوالدين يظنون أن أحداثهم قبل الرابعة عشرة لا يحسون بنبض أفئدتهم في الحب فيَدَعونهم يختلطون بناتًا بصبيان. نعم إن الحب في عهد الصبوة أقلُّ خطرًا، ولا سيما إذا كان الصبي والبنت قد رُبِّيَا على التُّقَى والفضيلة؛ لأنه يكون روحيًّا أكثر منه حيوانيًّا حينئذٍ، ولكنهُ لا يقلُّ في حِدَّتِهِ عن الحب بعد سن البلوغ، فمنذ سن العاشرة. كنت أُحس بولوعي بنعيمة وأُلاحظ أنها تحس بشيءٍ مما أحس بهِ.
ولما كادت تتجاوز الثانية عشرة وكنت أبلغ الخامسة عشرة صارت تتحجب عني، وبالطبع كان ذلك بإيعاز أُمها؛ لأنها لم تعد تستصوب اجتماعنا. لم أدرك ذلك حينئذٍ، وأما الآن فصرت أفهمه، لم أعد أرى نعيمة إلَّا أحيانًا نادرة، وكان اجتماعي بها هنيهات، ولا يخفى عليك أن هذا التحجُّب زادني ولوعًا بها حتى إني لم أكن أستطيع أن أُحوِّل فكري عنها متى لم أكن لاهيًا بكتابي أو بدراستي؛ ذلك لأني صرت أفهم معنى الحب وأدرك سر هذا الوداد، وكنت أُسائل نفسي هل تفتكر بي نعيمة كما أفتكر بها أم أنها سَلَتْنِي؛ لأن ودها السابق لي كان ساذجًا صبويًّا، وصرت أفكر بالطرق الممكنة للاطلاع على ضميرها وقراءَة صفحة قلبها وجعلت أحاول التحرُّش بها بأي الطرق المستطاعة.
كانت — لذلك العهد — تدرس في إحدى المدارس الأجنبية الداخلية، فلا تأتي إلى البيت إلا في الفرص المدرسية، وكنت أدرس في بعض تلك المدارس أيضًا، وقد برعتُ خصوصًا باللغة الإفرنسية دون سائر رفاقي على ما هي عليه المدرسة من حطة الدرجة؛ لأني كنت مولَعًا جدًّا بقراءَة الروايات، ولا ريب أنها كانت تحسن فهم الإفرنسية؛ لأن مدرستها تتقن تعليم هذه اللغة، وكانت تفهم العربية بقدر ما يسمح به سِنُّها؛ لأن أباها أقام لها شيخًا أزهريًّا مسنًّا يدرسها القرآن الشريف وقواعد اللغة ونحو ذلك من علوم العربية، ففي الفرصة المدرسية بعد تحجُّب نعيمة عني كنت أتردد كعادتي إلى دار حسين باشا وأحاول أن أراها، لكي أكلمها ولو كلمة، فكان يعز عليَّ ذلك؛ لأني لم أعد أُقبَل في دار الحريم، ولكن كان يحدث أحيانًا أن أراها وأمها خارجتين إلى النزهة فأحييهما وأكلمهما كلماتٍ قليلةً، ولكني لا أجسر أن أرمي بكلامي إلى غرض لئلا أنبه ظنها إلى ما ينطوي عليه ضميري.
واتَّفق مرة أن لقيتُهما واقفتين في باب القصر الكبير لدى العربة وأمها تَتَفَطَّنُ لشيء فَقَدَتْهُ ثم رجعتْ إلى القصر تبحث عنه، وأظن أن المفقود كان حليةً؛ بدليل اهتمامها، فبقيت واقفًا لدى نعيمة، فقالت لي: أراك كأنك حزينٌ يا حسن أفندي، ولم أكن بالحقيقة حزينًا، وإنما كنت كالوجِل لوقوفي معها وحدنا، وكان الحوذي في مقدم المركبة ينتظر، فأُلهمت إلى جواب سريع كان فاتحة اختباري فؤادها فقلت: كنت أقرأ رواية رافائيل فتأثرت منها جدًّا، ولم تزل آثار هذا التأثير بادية على وجهي.
– إذن هذه الرواية مؤثرة جدًّا، فلا بد أن تكون بديعة.
– نعم وهي أبلغ ما كتبه لامرتين.
– أود أن أقرأها إذا لم تكن لغتها عويصة؛ لأني لست ضليعة بالإفرنسية كالواجب.
– بل هي سهلة جدًّا على ما هي فيه من البلاغة وسموِّ التصورات.
– هل تتكرم بإعارتها لي؟
– تتشرف بين يديكِ يا سيدتي.
– أشكرك.
– كيف أرسلها إليكِ؟
ففكرت هنيهة ثم قالت: مع أمك — إذا شئت.
– أليس من محظور؟
فنظرت فيَّ نظرة المستغرب وقالت: أي محظور تعني؟
– ألا ينكر عليكِ سعادة الباشا مطالعة الروايات؟
– كَلَّا، وهل في الروايات ما تُنكَر مطالعته؟
فسكتُّ عن هذا السؤال، وقلت لها: إذن تصلك غدًا.
وعند ذلك حييتُ وانصرفتُ؛ خيفة أن تأتي أمها وتوجس مني، وكنت أسمع ضربات قلبي وأنا واقف لدى نعيمة أكلمها، وأشعر باضطراب أعضائي كلها إذ أرفع نظري إلى عينيها النجلاوين، وأرى ما ظهر من خديها الأسيلين فوق نقابها التركي، وأتوسم منها السماحة والرقة على ما هي فيه من الرزانة والحشمة، ولم أقدرْ أن أستطلع سرًّا من أسرار ضميرها ولكني كنت أُحسُّ أن كل تلك الدالة التي مارسناها لعهد صبانا قد انقلبت إلى كلفة واحتشام ومحاذرة، وصار يُخيَّل لي أن كل حركة من حركاتي وكل حالة من حالاتي؛ تفضح لواعجَ قلبي وربما تسوء نعيمة، ولهذا كنت أُبالغ في التحذُّر والاحتياط.
وفي اليوم التالي زودت أمي بالرواية، وقلت لها أن تدفعها للسيدة نعيمة محاذرًا أن تطلع على شيء من أسرار قلبي، وصرتُ بعد ذلك أتوقع أن ترد نعيمة الرواية وتطلب مني سواها؛ ولهذا جعلتُ أبحث عن الروايات الجميلة المشهورة وأقتنيها وكانت نفسي المغرورة تُحدثني أحيانًا بأن نعيمة قد تكتب على بعض حواشي الكتاب كلمات توري بها معاني أفهمها.
صبرت بضعة أيام ونعيمة لم تَرُدَّ الرواية، فحرتُ في ذلك، ولم أعد أجسر أن أحاول رؤيتها لئلا تحس بقصدي فتنفر مني، فانظر يا عزيزي يوسف ما كان أسخف عقلي حينئذٍ ولكن لا، لم يكن ذلك سخافةً مني؛ فإن نوع التربية التي اختارها لي أبي والتي تربَّتْ بها نعيمة أيضًا عودتْني الجبن في مثل هذه الحال.
حاولت أن أستفهم بواسطة أمي عما إذا كانت نعيمة قد قرأت الرواية فلم أهتدِ إلى أسلوب لذلك آمنُ فيه تفطُّن أمي إلى ما أنا عليه من الشغف، ومع ذلك لم أرَ بُدًّا من أن أقول لها: سَلِي الست نعيمة هل أعجبتها الرواية؟ ولما عادت أمي سألتُها، فقالت: إنها نسيت أن تسألها فقلت لها: «سليها حتى إذا كانت قد انتهت من قراءتها تردها فأرسل لها غيرها إذا شاءَت، ولكن لا تطلبيها منها طلبًا بل اكتفي أن تسأليها عما إذا كانت قد أعجبتْها، فإذا ردتها لكِ سليها كما قلت لكِ.»
وفي اليوم التالي عادت أمي من دار الباشا، ودفعت لي الرواية قائلةً إنها منذ يومين انتهت من قراءتها ونسيتْ أن تردها، وسألتها عما إذا كانت تريد سواها فأجابت أنها تنتظر غيرها منك — بالشكر.
وفي الحال تناولت الرواية، وجعلت أتصفحها؛ لأرى فيها كلمة من خَطِّ نعيمة فلم أجد، فخاب فَأْلي واقتنعتُ بسخافة عقلي وغروري، ولكن الحب يرى الغرور ثقةً والخيبة أملًا واليأس رجاءً، فتناولت روايةً صغيرة وجعلت أتصفحها وأرسم تحت بعض العبارات خطوطًا؛ إشارة لإعجابي بها — كما يفعل بعضُ القراء المتبحرين — وكتبت بإزاء بعض الجمل عباراتٍ صغيرةً تدل على شدة تأثُّري أو عظيم استحساني. وأكثر تلك الجمل التي استوجهت النظر إليها غزليةٌ ووصفيةٌ ونحو ذلك. فعلت كذلك على أمل أن نعيمة تنتبه إلى أني أعني بالإشارة إلى تلك الجمل: حبي لها وانشغالي بها؛ فلعلها ترد لي صدى معناي بمثل هذه الطريقة.
ولَمَّا عاد الكِتَاب من عندها تصفحتُه، فلم أجد فيه قطرةً من قلمها، فقلت في نفسي: إنها لم تدرك قصدي. ففكرت مَلِيًّا بطريقةٍ أوضحَ — ولكنها خفيَّةٌ أيضًا — حتى إذا كانت نعيمة ذات شغل بي انتبهتْ وأدركتْ قصدي؛ فربما تجاوبني، فأخذتُ روايةً أُخرى صغيرة وجعلتُ أرسم خطوطًا تحت بعض الكلمات المتفرقة في الصفحة الأولى منها فقط، بحيث إنها لو قرأتْ تلك الكلمات وحدها كانت جملة قائمة بذاتها معناها: «لقد أصبحتِ موضوع افتكاري ومُلتقى آمالي ومصدر سروري.» ولما عاد الكتاب إليَّ تصفحتهُ فلم أجد فيه دليلًا على أنها فهمتْ سر رسالتي لها، فقلت في نفسي: لا بد أن تكون قد فهمتْ، ولكن ما معنى سكوتها عن الإجابة بهذه اللغة السرية، فتناولت رواية أُخرى ورسمتُ تحت بضع كلمات متفرقة في صفحتين كان مجموعها معًا على التوالي ما معناه بالعربية: «إني مشغوفٌ بك وقلق لسكوتِكِ، فأخبريني عما في ضميرك بالإشارة.» ولما ردت الرواية إليَّ تصفحتها جيدًا فعثرت في وسطها على كلمتين في صفحتين متظاهرتين تحت كل منهما خط، ومعناهما: «إني كذلك.» فتأملتُهما جيدًا خافقَ الفؤاد، وكنت تارة أتأكد أنهما الجوابُ لِما عنيت وتارة أُغالط نفسي؛ لأن الخطوط كثيفة ولكن النفس الطموع أقنعتْني بصدق ظني، فكنت أمشي مرحًا في ذلك النهار.
وكنت في خلال هذه المراسلة الرمزية أتجنبُ أن أرى نعيمة؛ لئلا أُقابلها وقد اكتشفتْ سر بغيتي فتغضب مني إن لم يكن عندها من الوجد ما عندي. فقضيت عدة أيام قلقَ القلب والجسم، سوداويَّ المزاج لا أعرف أن أبش لأحد من أهلي، وهم لا يعلمون سرَّ ما بي سوى انشغالي بالمطالعة.
ولكني لما علمت أن نعيمة فهمت رسائلي الرمزية لها، وأقرتْ بأنها مثلي في الهوى صرتُ أشوق أن أراها وانفرد بها هنيهة لكي أبث لها ما في قلبي من الحب العظيم وآخذَ منها ميثاقًا على حبنا المتبادل.
حاولتُ أن أجد طريقة للاجتماع بها — ولو بضع دقائق — فلم أَفُزْ، فخطر لي أن أكتب إليها رسالة أرسلها في رواية أبعث بها إليها، فخفتُ أن تقع الرواية بين يدي أُمها قبل أن تصل إليها فتعثر على الرسالة؛ ذلك لأن أمها اعتادت أن تقف على كل أمر يخصها. فلجأتُ إلى طريقة المراسلة الرمزية التي أستنبطها، فأخذت رواية انتقيت من بعض صفحاتها الأولى بعض كلمات متفرقة، ورسمت تحتها خطوطًا وكان معناها: «أودُّ أن أراكِ لحظةً على حدة، فكيف السبيل؟» فرَدَّتْ لي الرواية وقد أشارت في بعض صفحاتها الأخيرة إلى كلمات مفادها هكذا: «غدًا مساءً عند باب الحديقة الخلفي.»