الفصل الواحد والعشرون
عاد حسن أفندي من مقابلة نعيمة إلى مكتبه نحو الساعة السادسة فوجد بعض أصحاب القضايا ينتظرونه، فأسرع في قضاء أشغاله معهم، ثم انطلق إلى البيت وأبدل ملابسه بملابسَ نفيسةٍ ومضى إلى منزل طاهر أفندي نحو الساعة الثامنة، فوجد هناك يوسف بك وطاهر أفندي في القاعة، وعائدة جالسةٌ إلى البيانو، وهم ينتظرون وفود حمد بك الوسيط في المشروع بينهم وبين رجال الحكومة — كما علم القارئ — أما يوسف بك فكان إلى جانب عائدة يُمازحها ويلاطفها وهي تبسم له، فجلس حسن إلى جنب طاهر أفندي، وقال له: «دعني أُفاوضك بأمرٍ جوهريٍّ يخصني.»
– قل فإني أراك قلق البال، هل حدث لك أمر مقلق؟
– كَلَّا، وإنما أذكر لك أمرًا لم أذكره إلا للدكتور يوسف بك.
– ما هو؟
– لا أُخفي عليك أن عند حسين باشا عدلي الذي عرفتك به يوم كان زائري في مكتبي فتاة عرفتها منذ الصبوة إذ كان المرحوم أبي وكيل دائرة حسين باشا، وكانت أمي تتردد كثيرًا إلى دار الحريم وأنا معها، وبقيت التقى بتلك البنية حتى صرنا شابين وقضت العادة الاجتماعية أن تتحجب عني وعن سواي.
ولكن ما صرنا شابين حتى شب الحب في قلبينا، وسعينا إلى أن تقابلنا مقابلة سرية عقدنا فيها عهدًا ثابتًا على أن نكون في المستقبل زوجين، وَعَدْتُها أني لا أُبقي على حياتي إذا لم أصعد في سلم النجاح حتى أبلغ المنزلة التي أُرضي بها أباها بحيث لا يستنكف أن يزوجنيها؛ ولأجلها مضيت إلى باريس وتعلمتُ الحقوق؛ ولأجلها أسعى الآن جهدي في مشروعنا لكي يكون لي بسببه مكانةٌ بين قومي.
– نِعْمَ المسعى.
– ولكن ظهر لي منازعٌ في هذا الأمر، وهو خليل بك مجدي.
فضحك طاهر أفندي وقال: شتان ما بين أعطافٍ وأغصان.
– ولكن حسين باشا ممن يعبئون جدًّا بالمجد وشرف الأصل والجاه والثروة؛ ولهذا يفضل خليل عليَّ ألف مرة، أولًا؛ لأنه من أسرة تُعدُّ في مقدمة الأسرات الشريفة في مصر …
– يا نعمها أسرة تأكل أموال الناس.
– ولكن حسين باشا لا يعرف بهذه المناقص، وإن عرف بها لا يجعلها سببًا لاحتقار الأسرة إلى حَدِّ أن يرفض طالبًا منها لابنته، ثم إنه يحبُ هذه الأسرة جدًّا؛ لأن حامد باشا حسني أبا عزيز وخليل كان مقربًا جدًّا من المغفور له إسماعيل باشا، وقد قرب معه حسين باشا فنال بذلك مقامَه المعتبَر الذي هو فيه الآن، ولا يزال يذكر ذلك الفضل حتى الساعة.
– وهل عرف حسين باشا بميلك إلى ابنته؟
– كلَّا.
– ولا طلبت منه يدها؟
– كلَّا.
– لماذا؟
– لأني أؤكد أنه يردني خائبًا.
– إذن هو جاهل.
– ليس هو جاهلًا، ولكنه يستنكف أن يمنع يد ابنته من شاب من أسرة شهيرة عريضة الجاه ويمنحها لشاب كان أبوه من جملة حَشَمه.
– هذا هو الجهل بعينه، وإني لأستغرب كيف أن رجلًا كحسين باشا لا ينظر إلى الأشخاص من حيث جواهرهم بل من حيث أعراضهم؟ ألا يعلم — حق العلم — أن ابنته تستلذُّ الحياة معك أكثر منها مع ذلك الأحمق خليل بك.
– لا تزال التقاليد القديمة مستولية على عقله.
ففكر طاهر أفندي هنيهة ثم قال: أظنك واهمًا يا حسن، ما حسين باشا كما تظنه، اقترح عليه الأمر لترى ماذا يقول. وأية خسارة بالاقتراح؟
– لأجل هذا الموضوع أُفاوضك الآن، وبُغيتي أن تتمكن المعرفة بينكما بحيث يتسنَّى لك أن تُباحثه بهذا الموضوع، وتعرض عليه الطلب.
– أفعل ذلك بكل سرور، فماذا تريد أن أفعل توطئةً للأمر؟
– أن تزوره زيارة رسمية في بيته، وأنا أُمهد السبيل إليها، وبعد ذلك يرد إليك الزيارة، ومن ثمَّ يتسنى لك أن تُخاطبه.
– حسنٌ جدًّا، متى تريد أن أزوره؟
– غدًا إذا شئت وسأجتهد أن يَرُدَّ لك الزيارة عاجلًا؛ لأن المسألة عاجلة.
– لماذا …
– عزيز باشا طلب يد الفتاة من أبيها لأخيه، والأب وعد، وهو يحاول الآن أن يُقنع الفتاة بالقبول، وهي مصرَّة على الرفض، ولا تجسر أن تبوح بما في ضميرها قبل أن أطلب أنا يدها؛ ولذلك أود أن أعرض طلبي وإن كنتُ عديم الأمل بالنجاح، وإنما أؤمل أن يعذروها بعضَ العذر إذا عرفوا أن قلبها مولَعٌ بآخر.
– كن مطمئنًّا يا حسن أفندي؛ فإني أبذل جهدي في تحقيق أمنيتك هذه.
– إذن غدًا أبلغ حسين باشا بالأسلوب الموافق أنك ستزوره في المساء.
– نعم ونذهب سوية.
عند ذلك دخل الحاجب يُخبر بقدوم حمد بك فضل، فترحب به طاهر أفندي، واحتفى به أي احتفاء ولاطفه الدكتور يوسف بك وحسن أفندي وجاملوه جميعًا المجاملة اللازمة، وبعد ذلك جعلت عائدة تضرب على البيانو الألحان المطربة والشجية فطرب الكل وكان حمد بك أشدهم طربًا، ولا نطيل الكلام في وصف تلك الحفلة وما اشتملت عليه من مجالي الهناء والسرور وما دار فيها من الأحاديث العمومية الفكهة، ومن النكات الأدبية المستعذبة؛ فإن ذلك يتصوره القارئ من نفسه في حفلة جمعت بضعةً من الأذكياء الأدباء.
وكانت عائدة في ذلك المساء بدرَه وفي المنزل بهجته وللمدعوين ينبوعَ أُنس وسرور؛ أولًا بما أطربتهم به على البيانو، وثانيًا بما سمعوه من عذب حديثها وما تَجَلَّى لهم من بدائع جمالها، وكان حمد بك أكثرَهم افتتانًا بها، ولكنه كان كتومًا لولهه؛ لأنه رزينُ الطبع عزيزُ الذات، فصان نفسه من عوامل الهوى ما استطاع.
ولما انتهوا من العشاء خرج حمد بك إلى شرفة المنزل ليستنشق هواءً نقيًّا ويدخن سيكارة، ولم يكن البرد قارصًا فخرج معه طاهر أفندي ليُحادثه.
– لقد أطربتنا الست عايدة جدًّا يا طاهر أفندي، والظاهر أن لها هبة موسيقية نادرة.
– منذ صغرها أُولعت بالموسيقى فأطلقتُ لها العنان في تعلُّمها، فما بلغت الثامنة حتى قبضتْ على عُنق الفن.
– يظهر من فراستها أنها ذكية جدًّا ومن محضرها أنها أديبة ذات ذوق لطيف ومزاج رقيق، ولا ريب عندي أن الفضل في ذلك كله لك يا طاهر أفندي بتربيتها.
– ليس كل الفضل للتربية؛ فإن للأصل أيضًا تأثيرًا في الخلق.
فالتفت حمد بك إلى طاهر أفندي وقال على الفور: أما هي ابنة حضرتك يا طاهر أفندي؟
– كلَّا، وإنما هي ابنة صديق لي تركها يتيمة الأبوين وهي حديثة السن جدًّا، فتوليت أمر تربيتها.
– كذا كذا، إذن هي نصرانية؟
– نصرانية الأم فقط، ومسلمة الأب.
– على أي دين هي الآن؟
فتردَّد طاهر أفندي في الجواب فقال حمد بك: لا أنكر أن هذا السؤال لا يستحق جوابًا، ولكني أقصد أن أقول: لمن تنتمي أَلِأَبيها أم لأمها؟ والذي حداني إلى هذا السؤال إنما هو ما أراه من ظهورها في قاعة الاستقبال كسيدات الإفرنج، فاستغربتُ أمرها.
– لا بدع أن يحدوك استغرابُ أمرها إلى هذا التساؤل؛ ولذلك لا ندحة لي أن أقول لك إنها تنتمي لي الآن؛ إذ لا تعرف لها أبًا أو أُمًّا سواي، وما هي إفرنجية المظهر إلا لأنها رُبِّيَت في فينا، وليس هناك محجبات.
– أَمَا قطنتما بلدًا عربية قبل مصر؟
– كلَّا.
– عجيب! كيف تعلمتَ العربيةَ بحيث إنك تتكلمها مثلنا تقريبًا ولا تفرق عنا إلا بما مازج لهجتك من النبرات التركية.
– تلقنت العربية عن أمي؛ لأنها مصرية الأصل، وأبي كان يتكلمها جيدًا؛ لأنه قضى مدة شبابه في مصر أيضًا.
– وعائدة؟
– وعائدة تَلَقَّنَت العربية مني.
– تتكلمها جيدًا؟
– وتعرف الإفرنسية أيضًا جيدًا، فضلًا عن الألمانية.
– إذن تعتبر عائدة كابنة حضرتكم؟
– نعم.
– أليس لحضرتكم بنون غيرها؟
– لم يكن لي امرأةٌ قط يا حمد بك.
– عجيب! لماذا؟
– لم أعثر على فتاة موافقة من بنات ديني في بلاد النمسا، ولم أُغادر تلك البلاد إلى بلاد إسلامية إلا الآن.
– عساك تُصادف أمنيتك عندنا يا طاهر أفندي.
– إن شاء الله أنال رغبتي بحسن مساعيكم.
– إذا كان هذا الأمر يهمك فيمكنك أن تتكل عليَّ عظيم الاتكال بهذه المسألة، ولي الأمل الكبير أن تتوفق إلى عروسة جميلة ووجيهة الأصل ومتربية.
– أشكر اهتمامكم وغيرتكم يا حمد بك.
– ولكن خطر لي خاطر يا طاهر أفندي.
– ما هو؟
– أن تَزَوَّجَ عائدة نفسَها، أظن هذا هو مرادك.
– معاذ الله؛ فإن الفتاة تنظر إليَّ نظرة الابنة لأبيها.
– ولكن ألا تعلم هي أنك لست أباها الحقيقي؟
– تعلم حق العلم.
– إذن لا يصعب عليك أن تُحول إحساساتها وعواطفها نحوك من بنوية إلى حب جنسي.
– ولكني أستنكف ذلك بعد ما ربيتها كابنة لي، ثم إن بيني وبينها فرقًا عظيمًا في العمر فمن الخطل في الرأي أن تكون فتاة صغيرة كهذه زوجة كهل مثلي.
عند ذلك دخل الاثنان إلى القاعة وعادتْ عائدة إلى البيانو تُطربهم تارة، ويتحادثون أُخرى إلى أن كاد ينتصف الليل فارفضُّوا.
أما حمد بك فضل فعاد ورَسْم عائدة منقوشٌ في صفحة مخيلته، وعامل الحب يحفر موطنًا لها في فؤاده، حدثتْه نفسه أن يقترن بهذه الفتاة ولكن خشي أن يأبى عليه طاهر أفندي الزواج منها؛ لِما بينه وبينها من التفاوُت في السن؛ ولأنه بعلُ امرأة وأب صغار. ولما فكر طويلًا بهذا الأمر وافترض أن زوجته الحالية قد تكون أحد الموانع من زواجه بعائدة قال في نفسه: أطلقها؛ لأنه حسبي أكون زوج هذه الفتاة الجميلة الخلْق والخلُق.
على أن حمد بك وإن كان قد فسح سبيلًا للحب في قلبه لم يكن يزال قوي الإرادة يتغلب على هواه فصمم على أن يتأنى في هذا الأمر، ويتردد إلى منزل طاهر أفندي ليشاهد عائدة ويجتمع بها فإن شعر بازدياد حبه لها وولوعه بها نفذ عزمه، وإن فتر حبه لمصادفته ما يغير ظنه بها عدل عنه وكان حبه هذا سحابةَ صيف، اختط لنفسه هذه الخطة؛ لأن الزمان حنكه وعَلَّمَه أن الحب قد يكون أحيانًا كزهرة الربيع التي تنبت وتزهر وتذوي في فصل واحد.