الفصل الرابع والعشرون
بينما كان عزيز باشا يكايد زوجته زينب هانم كان حسين باشا وزوجتُه عصمت هانم يحاولان إقناع نعيمة، بأن ترضى خليل بك مجدي — أخا عزيز باشا — بعلًا لها، اتخذا كل أساليب الإقناع تارة بالوعود، وطورًا بالوعيد فلم يُفلحا وأخيرًا صمم حسين باشا أن يُرغمها إرغامًا على ذلك؛ لأنه حسب أن خليل عريسٌ موافقٌ لها، وهيهات أن يطلبها ندٌّ له، فأحب أن يغتنم هذه الفرصة، ولم يكن حسين باشا مطلعًا على شيء من دخائل عزيز باشا وأخيه ولا كان عارفًا بما لحقهما من الخسائر في البورصة؛ لأنهما كانا يبالغان في كتمه.
وفي عصر يوم من تلك الأيام كان حسين باشا في غرفته ونعيمة جالسةٌ أمامه فقال لها: «لقد كلَّ لساني من الكلام معك في ذاك الموضوع يا نعيمة وأنتِ مصرة على الرفض فحتى متى أصبر عليك وأنت تجهلين مصلحتك؟ ولذلك أرى أن لا أكترث برضاك؛ لأنك صغيرة العقل جاهلة وسأفعل ما أراه موافقًا لك، ولسوف تعلمين أني فعلت خيرًا فتندمين على عنادكِ.»
– ويلاه، ماذا تعني يا أبتاه؟
– أني أعقد عقد زواجك على خليل بك.
– بالله، هل تفعل ذلك بالرغم مني؟
– ما حيلتي فيكِ؟
– بربك، ارحمني.
– بماذا أظلمك حتى تطلبي الرحمة؟
– لا أريد أن أتزوج خليل بك.
فقال بنزق: إذن من تريدين؟
– لا أريد أحدًا.
– هذا لا يكون فإن العادة أن تتزوج الفتاة متى طلبها طالب كفء.
– رحماك، لا أريد خليل.
– قولي لي: لماذا؟ وإلا فيجب أن تقبليه بعلًا.
فتنهدت وأنَّت، وقالت: آه يا أبتاه، أنت لا تدري كم تتعذب زينب ابنة عمي في ذلك البيت؟
– اصمتي، أتذكرين زينب بفمك، أتذكرين تلك الخبيثة، إنها تستحق كل عذاب، أهي قالت لكِ أن ترفضي خليل؟
فهلع قلب نعيمة لانتهار أبيها وجعلت ترتجف من شدة الخوف، فعاد يقول لها: أظنك تعاشرين هذه الشقية، وهي التي أفسدت أخلاقك.
– معاذ الله يا أبي أن يفسد أحد تربيتك لي.
– بل أرى أن تربيتي لك ذاهبةٌ عبثًا؛ فما كنت أظنك تخالفين رغبتي.
– لا أود مخالفة رغبتِك، ولكن قلبي وجل من هذا الزواج يا أبي، فبالله أمهلني لعلي بعد حين أميل ميلك إلى خليل بك.
– إلى متى؟
– إلى عام أو عامين.
– تريدين أن تراوغيني؟ فاعلمي أني ما اجتمعت بك في هذا العصر لكي أقنعك بصواب هذا الزواج فقد شرحت لك كل محاسنه، ولكنك كالولد الصغير العقل لا تفهمين الخير من الشر، وإذا تركتكِ على هواكِ رميت نفسك في هاوية الشقاء، وما دمت أنا ولي أمرك فأشعر أني مسئول عنك. وإنما اجتمعت بك الآن لكي أخبرك أن المأذون سيحضر في هذا المساء لكي يكتب كتابك على خليل بك، فيجب أن تجاوبي بنعم متى سئلتِ عن رغبتك؟
– رحماك يا أبي لا أقدر أن أجيب بنعم.
– اصمتى يا وقحة، كذا قلت وكذا يجب أن يكون، يلوح لي أن طول أناتي أطمعتك بتسامحي وجرَّأَتك على القحة.
– بربك يا أبي لا تحملني على أن أخالف ضميري وأقهر قلبي، ويلاه، أليس للمرأة حرية التصرف بشخصيتها على الأقل؟
– كلَّا، كلَّا، ليس للمرأة شيء من الحرية ألا تعلمين أن المرأة تحت إمرة الرجل، فهي في طاعة أبيها عذراء وفي طاعة زوجها متزوجة، ولكن واأسفاه إن العلم الذي تعلمتِه لَسُمٌّ ناقعٌ أفسد تربيتك القويمة، فإني آكل أصابعي ندمًا على وضعك في مدارس الإفرنج التي استقيتِ منها هذا التعليم الفاسد بشأن حرية المرأة.
– ليس هذا التعليم فاسدًا يا أبي، بل هو حق، والدين يعلمنا أيضًا أن الله خلق المرأة مساويةً للرجل في العقل والضمير والمسئولية، وبالتالي خلقها حرة فيما يخص نفسها على الأقل، أفليس للمرأة حريةٌ أن ترفض طالبًا لا تهواه؟
– كلَّا، كلَّا، لا تُناقشيني، قلت لك: إن المأذون سيأتي في هذا المساء ويكتب كتابك.
– بالله، أمهلْني يا أبي.
– أمهلك ما تشاءين بعد كتابة الكتاب ولا تزفين قبل نصف عام.
– بل أرجو منك يا أبي وأتضرع إليك أن تؤجل كتابة الكتاب سنة واحدة فقط.
– وماذا تنتظرين أن تفعلي في هذه السنة.
– أحاسب ضميري وأسائل قلبي …
– بل تحاولين أن تُلحقي بي عارًا — على ما أظن.
– معاذ الله يا أبي.
– أتريدين أن تدبري حيلة للخلاص من تحت ولايتي.
– كَلَّا يا أبي، إني أبقى تحت قدميك.
وارتمت نعيمة على قدمَي أبيها تُقبِّلهما وتسكب الدموع عليهما فأنهضها قائلًا لها: لا تتسلحي بسلاح المرأة؛ فإنه لا يقطع فيَّ، قلت لك إن المأذون سيجيء إلى هنا في السهرة، فإن أظهرتِ الإباءَة جنيتِ على نفسك.
– ويلاه، أقسرًا تزوجني؟
– قسرًا.
وعند ذلك خرج أبوها وتركها تنحب وتندب سوء حظها، وبعد هنيهة عادت إلى غرفتها وفؤادها في بحرٍ من الأسى طامٍّ، وأول ما خطر لها أن تكتب على ورقة صغيرة هكذا: «في هذا المساء يكتب الكتاب، فتدبر، خلصني» ولما جلست إلى مكتبها رأت الساعة قد تجاوزت النصف بعد الخامسة وانتبهت إلى أن الأنوار قد أُضيئت في البيت؛ لأن الشمس أفلت، فخرجت إلى الشرفة وفتحت النافذة، فرأت أن نور النهار مولٍّ، والليل قد جعل يرخي سدوله، نظرت إلى الطريق فوجدت فيه بعض المارة ولم تسمع فيه دوي عربة فخارتْ قواها، فات موعد مشاهدة حسن، مر حسن من تحت الشرفة بمركبته ولم يرها ولم تره.
من يبلغ حسن خبر الويل القادم عليها؛ عساه يبحث عن طريقة لخلاصها، عساه يسعى لدى أبيها فيؤخر كتابة الكتاب، دخلت إلى غرفتها، خرجت إلى الرحبة، عادتْ إلى الشرفة وهي لا تدري ماذا تفعل؟ فكرت جدًّا، خطر لها أن تلتمس من أحد الخدم أن يُبلغ رسالتها إلى حسن، وأن ترشيه؛ لكيلا يُطْلع أباها على سرها، فراعها الظن بأن يخونها الخادم ويخبر أباها، لم تَعْتَدْ نعيمةُ أن تسارَّ الخدم في أمورها؛ ولذلك لم تصمم على إنفاذ هذا الفكر إلى حيز الفعل، ماذا تفعل؟ أتخبر أباها أنها تحب حسنًا؟ الويل لها إذا قالت! يقتلها. طار صوابها ضاع لُبُّها، ضاق ذرعها، عدمت الحيلة، ماذا تفعل؟ لا تدري.
مرت الدقائق والليل يهجم بجيوش الهم على صدر نعيمة، استولى عليها اليأس، طلبها الخدم للأكل إلى المائدة فاعتذرت بأن لا شهية عندها للطعام، حانت الساعة الثامنة فقدِم عزيز باشا وأخوه خليل بك وصديقان لهما، ثم قدم بعض أقرباء حسين باشا، بلغ ذلك إلى نعيمة فهلع فؤادها وجعلت تنحب، فدخلت عليها أُمُّها وأخذتْ تقبلها وتلاطفها وتقول لها: «لا تبكي يا بنيتي ستكونين سعيدة، ستكونين ملكة في بيتك الجديد، أنتِ غلطانة برفض خليل بك مع أنه أفضل الشبان وأجملهم شكلًا وأعدلهم قامة.» إلى غير ذلك من الكلام المرغب المحبب ولكن كانت كل كلمة منها وخزة في قلب نعيمة، فلم تجب ببنت شفة بل بقيتْ مسترسلة ببكائها، ولما حانت الساعة التاسعة وافى المأذونُ الشرعي، وكانت إحدى الخادمات تدخل على نعيمة كل هنيهة وتخبرها بقدوم القادمين، فلما أخبرتْها أن المأذون وافى لطمت خديها ولولا الحياء لولوتْ، على أنها صممتْ تمام التصميم أن لا تُجيب المأذون حين يسألها عن وكيلها، وقالت في نفسها: «فليكن ما يكون.»
وبعد أن تحدث الحضور هنيهة بالمواضيع العمومية تطرقوا إلى الحديث بالموضوع الذي لأجلهِ انعقدت الجلسة، وحينذاك انتدب شاهدان من أقرباء حسين باشا فذهبا معه ومع المأذون إلى دار الحريم وسأل المأذون نعيمة من وراء الباب فقبل أن يسمعوا جوابها وافت الخادمة والتمست أن تهمس في أذن حسين باشا كلمة، فدنا منها، فقالت له: «إن في رحبة الدار رجلًا يظهر أنه بك أو باشا يريد أن يكلمك كلمة في الحال.»
فخرج حسين باشا إلى الرحبة ليرى القادم، فإذا هو طاهر أفندي فاستقبله بكل احتفاء وترحاب ودخل به إلى القاعة، أما المأذون فكرر السؤال ثلاثًا من وراء الباب فلم تجب نعيمة كانت أمها تهمس في أذنها قائلة: «أجيبي، لا تضحكي الناس علينا.» فلم تجب، عند ذلك رجع المأذون والشاهدان إلى القاعة ودخل طاهر أفندي وحسين باشا وراءهما.
ولا ريب أن القارئ يتصور حالة نعيمة حينئذٍ إذ سمعت وطء أقدام المأذون والشاهدين وثم سؤال المأذون، «يتصور فؤادها هالعًا وعضلاتها منتفضة وجسمها متشنجًا» ولما رجعوا كانت تتوقع الهنيهة بعد الأخرى أن يدخل أبوها عليها ويبادرها بضربة قاضية فكانت كل ثانية تموت موتة.
وقد علم القارئ الكريم أنه كان في نية طاهر أفندي أن يزور حسين باشا، ويمكن الصداقة معهُ تمهيدًا لمفاتحته في أمر خطبة نعيمة لحسن، وقد تزاورا حتى أصبحا صديقين، ولما دخل طاهر أفندي إلى قاعة الاستقبال أكرم جميع الحضور وفادته، أما عزيز باشا فتغير لونه قليلًا بالرغم من محاولته كظم غيظه، ولا بد من أن يكون قد قال في نفسه: من أين أتى لنا هذا السخط؟
ولما استوى الكل في مجالسهم قال حسين باشا لطاهر أفندي — وهو إلى جانبه — بصوت خافت: «نكتب الآن كتاب ابنتي نعيمة على خليل بك أخي عزيز باشا أتعرفه؟»
– نعم، أعرفه جيدًا وقد تعرفت به في باريس.
وهمس طاهر أفندي في أذنه قائلًا: هل رضيت به الفتاة رضاءً تامًا؟
– أبت في أول الأمر كعادة بعض الفتيات الخجولات ولكن بعد مفاوضتها رضيت.
– هل أنت متأكد أنها رضيتْ تمام الرضى أو أنها استسلمت استسلامًا؛ لأن الأمر فوق مطلق إرادتها؟
فتفرس فيهِ حسين باشا ونظر في عينيه حدةً تُهاب كأن فيهما قوة صاحب السلطان وقال له: لماذا تسألني هذا السؤال يا طاهر أفندي ونحن الآن على أهبة أن نعقد العقد؟
– اسمح لي أن أختلي بك بضع دقائق في غرفة أُخرى قبل أن تُبرم أمرًا، فإن لي معك حديثًا مهمًّا يتعلق بهذا الأمر.
فلم يسع حسين باشا إلا أن يخرج معه معتذرًا من الجمهور، وبقوا يتحدثون وهم يظنون أن أمرًا بسيطًا عارضًا اقتضى انفراد طاهر أفندي بحسين باشا بضع دقائق، أما عزيز باشا فأوجس شرًّا وحاول أن يخرج ويتجسس، فلم يتسنَّ له؛ لأنهما اختليا في غرفة بعيدة وأقفلوا الباب.
فقال طاهر أفندي: قد يتراءى لك أني أتداخل في أمر من أمورك العائلية تداخل الفضولي، ولكن متى استوفيت حديثي معك تعلم أن لي شأنًا بهذا التداخل.
– ماذا تريد أن تقول يا طاهر أفندي؟
– قيل لي: إن الفتاة غير راغبة بهذا الزواج، وإنها مكرهة عليه.
– من قال لك؟
– لا يهمك أن تعرف من قال لي، وإنما يهمك أن تعرف أني عرفت وربما عرف بذلك غير واحد أيضًا.
فنظر حسين باشا في طاهر أفندي نظرة المستغرب وقال: سواء كانت راضية أو مكرهة فليس ذلك من شأن أحد سواي.
– بل للفتاة الشأنُ الأولُ وإرادتُها يجب أن تُقدم على إرادة سواها.
– ربما كان الأمر كما تقول، ولكن ليس لأحد غير ولي أمرها أن يتفق معها على ما فيه مصلحتها.
– ولكن ولي أمرها لم يفعل بحسب رغبتها.
– عجيب يا طاهر أفندي! هل أقامتْك مدافعًا عنها؟
– لا تستأْ يا حسين باشا لم آتِ لأناقشك مناقشة الخصم للخصم، بل لأفاوضك في الأمر مفاوضة الصديق للصديق، فكن حليمًا واقبل اعتراضاتي؛ لأني مخلص النية فيها.
– لا شك عندي بحسن قصدك يا طاهر أفندي فقل بصريح العبارة ما تريد أن تقوله.
– أقول: إن الفتاة لا تحب خليل بك البتة بل تحب فتًى آخر حبًّا شديدًا …
– فتًى آخر! من هو؟
– تحب فتًى آخر ستعرفه، وهذا الفتى يحبها جدًّا أيضًا، وهو انتدبني أن أحتجَّ عنها على هذا الزواج الذي لا رضًا لأحد الزوجين فيه، وبالتالي ترى أني أحتج بحق بالنيابة عن ابنتك.
– من هو هذا الفتى؟
– قبل أن تعرفه أود أن أعرف، هل يجوز لك أن تُزوج ابنتك من فتًى لا تحبه، بل بالأحرى تكرهه؟
– إذا كنت واثقًا تمام الثقة أن الفتى الذي يخطبها خير كفء لها أُحاول أن أُقنعها بمحاسنه وكفاءته وموافقته لها، فإن اقتنعت فخير وإلا فأتجاوز عن إرادتها وأفعل حسب إرادتي؛ لأني أَخْبَرُ منها بمصلحتها، وبعد نفاذ الأمر تقنعها الأيام أني أصبت فيما فعلتُه بالرغم منها، وتشكر غيرتي عليها، ولكني إذا فعلت حسب هواها لا يبعد أن تندم بعدئذٍ ولات ساعة مندم؛ لأَنها لا تعرف ما أعرفه من أحوال هذه الدنيا ومما يوافق مصلحتها.
– ربما كنت أَخْبَرَ منها بمصلحتها ولكنَّ ميلها القلبي أقدسُ من إرادتك فيما يتعلق بشخصيتها، فهبْ أن من تريده بعلًا لها أفضلُ الأكفاء لها ولكنها تكرهه، فهل تظن أنها تكون سعيدةً بمُساكنته وقلبُها نافِرٌ منه؟
– أؤمل أنها تميل إليه بعدما تعاشره وتجد فيه المحاسن والمحامد التي لا تعرفها الآن، وهي لو يمكنها أن تعرف خليل بك كما أعرفه لكانت تحبه أكثر مما أحبه أنا.
– إن ما تؤمله يا حسين باشا قليل الاحتمال، ويحتمل أن تزداد نفورًا منه كما يحتمل أن تحبه في المستقبل، فماذا تفعل لو صح الاحتمال الأول وكان عيش ابنتك مرًّا مع خليل بك؟
– تكون جاهلة وغرة ومرارة عيشها عقابًا لجهالتها.
– ولكن الجهالة ليست ذنبًا يستحق هذا العقاب الشديد، فكيف قلبت المسألة تجد أن تزويجها بمن لا تحب عسف، بل ظلم، بل غدر.
– ولكني لا أتوقع طالبًا ليدها أفضل من خليل بك ولا مساويًا له في وجاهته ونسبه وغناه وشمائله الشخصية.
فابتسم طاهر أفندي لهذا البرهان وقال: كل هذا الذي تستحبه أنت في زوج ابنتك لا يضمن السعادة لها بل لا يلافي شيئًا من نغصتها إذا لم تكن تحبه، وليس ما يضمن سعادة الزوجين إلَّا حبهما المتبادل.
– ولكن لا يخفى عليك أن بنات المسلمين لا يتزوجنَ بناءً على حب، بل بناءً على استحسان أهلهنَّ، وأي فتاة مرباة تربية حسنة تعرف فتًى فتحبه فتؤثره على سواه؟
– نعم إن تحجب النساء عندنا لا يؤذن بذلك، ولكن إذا كانت الفتاة لا تحب طالب يدها بل تكرهه فلا يجوز بأي شرع كان أن تُكرَه إكراهًا على الزواج منه؛ ولذلك يجب أن تعلم أن إرغامك ابنتِك على التزوُّج من خليل بك وهي تنفر منه؛ جرمٌ عظيم لا يُغتفر، فضلًا عن أنه مُخالفٌ للشريعة.
– إذن ترى أن أَعدل عن هذا الزواج؟
– بالطبع.
– وأدعها بتولًا؟
– بل تُزوجها بمَن تهوى.
– بالله، لماذا تحملني على التلبُّس بهذا العار؟
– أي عار؟
– تزويجها بمَن تهوى، هل جرت العادة أن بنات المسلمين تُحب؟
– جرت أو لم تجر، هذا هو الواقع في أمر ابنتك ولا أرى قط عارًا في تزويج الفتاة بمن تحب؛ لأن قاعدة الزواج الحب الطاهر، بل العار وكل العار في أن تُكره الفتاة على الزواج بمن لا تحب؛ لما في هذا العمل من اختلاس حرية نفسٍ بشرية خلقها الله حرة القلب والضمير كما خلق نفس الرجل.
– أود أن أعرف من هذا الذي تحبه ويحبها؟ وكيف عرفتْه وعرفها وأحبتْه وأحبها، في حين أنها محصنة مخدرة؟
– لا تخفْ، لا تزال بنتك كما ربيتها محصنة وليس في حبها هذا عار وشين، ولكن قبل أن أجيبك على ما سألت أود أن أعرف هل عدلت عن تزويجها بمن تكرهه سواء كان الذي تحبه موافقًا وكفئًا لها أو لم يكن؟
– لقد حصرتَني في دائرة ضيقة يا طاهر أفندي، ولا أظن أن غيرك يجسر أن يتمادى معي بهذا الموضوع الذي هو من شئوني الشخصية.
– لا بأس يا حسين باشا؛ فإني أنوي لك كل خير، والأمرُ الجوهري الذي يجب أن نقرره أولًا هو أن لا يُعقد العقد لعدم رضا أحد الزوجين؛ بقطع النظر عن كون الطالب الثاني موافقًا أو غير موافق.
فحكَّ حسين باشا جبهته مفكرًا، ثم قال: إن العدول أصبح صعبًا جدًّا؛ لأني وعدت ووَعْد الحُر دين، وقد جاء العريس وأهله والمأذون سأل الفتاة ولم يبق إلا كتابة العقد.
– وهل رضيت العروس؟
– تركتُ المأذون يُسائلها، فلا بد أن تكون قد أجابتْ بالإيجاب.
– مهما يكن الأمر فإنَّ إرادتها الحرة أساسُ العقد، ووعدك للعريس بيدها مشترط فيه ضمنًا ملء رضاها، فإذا كانت ترفض فلا عيب في انتقاض عهدك؛ لأنك لا تنقضه أنت بل نقضته ابنتك ذات الحق الأول في الرضا، وإذا لم يكن رضاها أهم من كل رضًا فلماذا توجب الشريعة الغراء على المأذون أن يسألها عن وكيلها الذي فوضتْه بالإجابة عنها؟ ولذلك لا أرى عارًا قط في أن ترد العريس وأهله قائلًا لهم: إن الفتاة عادتْ إلى ترددها الذي تعهدونه، فأرجو منكم إمهالنا إلى حين ترضى الرضا التام، وأظن أن الذين يعرفون بذلك يمتدحونك على هذا العمل الحميد.
– هَبْ أننا استطعنا تأجيلَ العقد، فمن هو ذلك الفتى الذي يحبها؟
– الفتى الذي يحبها وتحبه قد لا يرضيك لأول وهلة، ولكني أؤكد لك أنه بعد عام يعجبك جدًّا وتفخر بمصاهرته، بل أؤكد لك أنك بعد شهر ترى خليل بك دون ما تراه الآن وتعدل من نفسك عن تزويجه.
– لماذا؟ أَلَعَلَّك تعرف خليل أكثر مما أعرفه.
– لا تعرف شيئًا عن خليل مما أعرفه. ولكني أرى أن لا تسألني عما أعرفه بل ألتمس منك أن تنتظر برهة قصيرة، والأيام تكون أصدق مخبِر لك عنه.
– أظنك تُكنُّ أُمورًا يا طاهر أفندي.
– إني كما تظن، فأرجو منك أن تطاوعني وتتمهل بضعة أشهر فقط، وبعدئذٍ لك أن تفعل حسب رغبتك المطلقة، فماذا يضرك أن الذي تريد أن تفعله الآن تفعله بعد أشهر قليلة؟
– اقتنعت بما تقول، فقل لي: مَن الفتى؟
– الفتى هو حسن أفندي بهجت.
فارتعش حسين باشا إذ سمع هذا الاسم وقال: بالله ماذا تقول؟ حسن بهجت ابن أحد حَشَمي يُحب ابنتي.
– نعم، ولكن بعد قليل يُصبح حسن بك بهجت، وهو الآن في مقدمة المُحامين، وبعد برهة يكون من جملة المثرين الوجهاء، فماذا تقول إذا صار كذلك ألا ترضى به صهرًا؟ فتأمل حسين باشا هنيهة وسورة الغضب بادية في أسارير وجهه، ثم قال: متى كان بدء هذا الحب؟ وكيف بَثَّ لها حبه وبَثَّتْ له حبها؟
– لا يسؤك ذلك يا حسين باشا، فقد قضت به طبيعةُ الحال إذ كان ذلك الفتى يتردد إلى بيتكم منذ حداثته، وكان وابنتك ينموان والحب ينمو معهما حتى صارا شابين، فكانا إذا اختليا تفاهما بلغة الهوى وتَعاهدا على ثبوت الولاء.
– ويلاه، ما هذا العار الذي ألبستْنيه ابنتي؟
– ليس في ذلك من عارٍ يا حسين باشا؛ لأنه لم يحدث بين حسن وابنتك وزرٌ يُعابان عليه ويُلحق بك عارًا.
– حسبي عارًا أن ابنتي تُحب وتحب فتًى كهذا.
– أما الحب فقد ساقتْ طبيعةُ الحال إليه، فلا تُلقى التبعة فيه على أحد ولا أحسبه عيبًا أو وزرًا كما تحسبه أنت، وأما أنها تحب حسن أفندي بهجت فأنا أؤكد لك أنها أحبت أميرًا.
– مهما يكن من أمر هذا الفتى فإنه وضيعُ الأصل، وكان أبوه أحد حاشيتِنا، وكفاني عارًا أن يُقال: إن ابنة حسين باشا عدلي أحبتْ ابن من كان مستخدَمًا في دائرة أبيها.
– ليس في ذلك عارٌ يا حسين باشا؛ لأن العقلاء في هذا الزمان لا ينظرون إلى الأصل بل ينظرون إلى شخصية المرء ويكرمونه بقدر ما تستحق شخصيتُه لا بقدر استحقاق آبائه وأجداده، وهبْ أن حقارة الأصل نقيصةٌ فنبوغ هذا الفتى وارتقاؤه السريع في سلم الوجاهة والنفوذ يرفعانه من مكانته الحقيرة ويستران وضاعة أصله، وبعد عهد قصير تراه في جملة كبراء البلاد.
– أراك تُقدر هذا الفتى بشيء عظيم يا طاهر أفندي.
– لأني أَعْرَفُ الناس به، ولي علائقُ شغل معه، عرفتُه في باريس جيدًا، وهناك عقدتُ معه اتفاقًا على مشروع مهم أظنك عرفتَ به.
– سمعتُ أن في نيتك أن تأخذ امتيازًا بتسيير تِرام كهربائي في شوارع هذا البلد، فهل لحسن أفندي علاقةٌ بالمشروع؟
– لحسن أفندي ما لي فيه؛ لأنه هو القائم بأعماله الابتدائية وبهمته ومساعيه سنحصل على الامتياز.
– هل ترجح حصولكم عليه؟
– أصبح الحصولُ عليه في حُكم المقرر؛ لأن حمد بك فضل صاحب النفوذ العظيم والتأثير الشديد على رجال الحكومة وعدنا الوعد الصادق بذلك.
– وهل تؤمل خيرًا من هذا المشروع؟
– أؤمل خيرًا عظيمًا جدًّا؛ قياسًا على ما نراه في حواضر أوروبا، وقد درس حسن أفندي هذا المشروع جيدًا في تلك الحواضر، واستدل على أن أرباحه في مصر قد تتجاوز العشرة في المائة، وربما ارتفعت إلى العشرين؛ ولهذا يؤمل الإقبال العظيم على الأسهم وارتفاع أثمانها في عهد قصير، وحينذاك يكون لنا أرباحٌ وافرةٌ جدًّا.
فتأمل حسين باشا عدلي في هذا الكلام وأدرك خطارته، وجعل ظنه في حسن أفندي بهجت يتغير شيئًا فشيئًا، على أنه شَقَّ عليه جدًّا أن يسلم بكفاءته لابنته فقال: مع ذلك لا أزال أفضل خليل بك مجدي زوجًا لابنتي على حسن أفندي؛ نظرًا لما لخليل من كرم المَحْتد، وشرف الأصل؛ ولِما هو عليه من الجاه والنفوذ والغِنى.
– وسترى حسن أفندي بهجت أرفع منزلة من خليل بك وأوفر ثروة وأقوى نفوذًا، وهو منذ الآن قد حصل على شيء من النفوذ، وبنفوذه سنحصل على الامتياز، هذا فضلًا عما صار له من المكانة المعتبَرة في عيون القضاة ورصفائه المحامين، ثم إن مكاسبه بدأت تتزايد، ومع كل ذلك لا أُحرضك على أن تُصاهره؛ فأنت حر من هذا القبيل، ولكنك لستَ حُرًّا في أن تزوِّج ابنتك من فتًى لا تحبه، وأحتج عليك في ذلك باسم الإنسانية وبالنيابة عن ابنتك أيضًا، بل إني أحتج عليك بالشريعة الغراء التي تحظر الإكراه في هذا الأمر.
ففكر حسين باشا هنيهة بهذا الكلام وما سبقه، ثم نظر إلى طاهر أفندي وقال: تركت المأذون والشاهدين يستجوبان الفتاة فلا أدري ماذا أجابتْ؟ فإن كانت قد أقامتْني وكيلًا عنها فقد قُضي الأمر وإلا نؤجل هذا العقد إلى حين، وثم نرى ما يكون؟
– مهما يكن الأمر فلا يجوز أن تعقد العقد ما لم تتثبت من رضاها وإلا فتكون قد جنيت عليها أعظم جناية وارتكبتَ إثمًا لا يُغفر، فإذا كانتْ قد أجابتْ بالإيجاب فلأنك قد قضيت الأمر بالرغم منها ودُستَ حريتها؛ ولذلك يجب أن تخلو بها وتسألها عن مطلق مشيئتها.
ولكني لا أدري كيف أعتذر للذين دعوتُهم إلى منزلي لأجل كتابة العقد؟
– قلت لك: إن الاعتذار بسيطٌ جدًّا؛ فليس عارًا أن تقول: «إني وعدت ولست مخلفًا بوعدي ولكن الفتاة بعدُ ما رضيت؛ عادت تتردد، وفي هذه الحالة تحرِّم علينا الشريعةُ الغراء كتابة العقد، فمتى زال تردُّدُها نكتبه.» فكيف ترى هذا الاعتذار؟
– حسنًا.
– هل صممت عليه؟
– صممت.
وعند ذلك نهضا وخرجا من مجلسهما فرأيا عزيز باشا يتمشى في الدار وعيناه تَتَّقِدَان غيظًا وغضبًا فلما رآهما خارجين دخل إلى القاعة، ولما دَنَيَا منها سمعا الحضور يلغطون، ولكنهم سكتوا في الحال إذ دخلا، ولما استوى كلٌّ في مكانه رأى حسين باشا الوجوه مكفهرة فافتتح المأذون الحديث بقوله: سألتُ الفتاة ثلاثًا من وكيلها فلم تجبْ فاستدللت على عدم رضاها ولم أَعُدْ أزدها سؤالًا.
فأجاب حسين باشا: فعلتَ حسنًا في اقتصارك على الثلاث؛ لأن الفتاة كانت مترددة في أول الأمر، ولما فاوضتُها في الموضوع رضيتْ، والظاهر أنها قبلتْ إكرامًا لي، لا عن طيب خاطرها، فلما حان موعد الجواب الباتِّ وحاسبتْ ضميرها عادت إلى ترددها، وبما أن الشريعة الغراء تحظُر علينا أن نعقد العقد إلا برضا العروسين المتبادَل فأرجو تأجيلَ الأمر ريثما نُقنع الفتاة.
فقال عزيز باشا: ولكن لم يكن منتظَرًا أن يرد حسين باشا عدلي مدعوِّيه خائبين.
– لم يكن ذلك قصدي يا عزيز باشا — وأنت تعلم أني صادق الوعد — ولكن إرادة الفتاة فوق كل إرادة، والخلافُ منها والتي تماثلها تعذر، ومثل هذا يجري كثيرًا فليس الأمر فريًّا. ومع ذلك ألتمس منكم المعذرة.
أما عزيز باشا فبقي يغلي غيظًا وحقدًا؛ لأنه أدرك أن في الأمر دسيسةً، وأن لطاهر أفندي يدًا فيها، فلم يشأْ أن يتطرف في اللوم بل كتم غيظه، وآثر أن يُحافظ على مسالَمة حسين باشا، وطوى النية على أن يحارب طاهر أفندي بالدسائس.
ولذلك سكت عن هذا الموضوع، وفتح الحضورُ حديثًا في مواضيعَ أخرى عمومية، تكلموا فيها بضع دقائق ثم ارفضوا كلٌّ إلى منزله.