الفصل الخامس والعشرون
وصل طاهر أفندي إلى منزله نحو النصف بعد العاشرة، فوجد حسن أفندي بهجت ينتظره متقلِّبًا على مثل جمر الغضا من نفاد الصبر، فلما استقبله قال حسن له: طفت البلد كله أبحث عنك فلم أجدك.
– لماذا؟ ما الخبر؟
– ماذا ينفع الآن، لقد نفذ المقدر وصارت حياتي لغوًا في هذا الوجود.
وعند ذلك انبثقت الدموع من عيني حسن وجعل ينحب كالولد الصغير، فقال له طاهر أفندي: ما الخبر قل لي؟
– ماذا أقول لك؟ لقد سبق السيف العذل.
– لم أفهم شيئًا بعد.
وكان طاهر أفندي يتكلم باسمًا، فقال حسن: عجيب يا طاهر أفندي إنك تضحك غير متأثر لي، ولكن لا عجب؛ لأن متحمل الجلدات ليس كمن يعدها، فأعذرك؛ لأنك لا تقدر أن تدرك عظم خطبي وجلله.
فعانقه طاهر أفندي وقَبَّله ضاحكًا، ولكن دمعات قليلة انتثرت من عينيه فقال له: مهما كان خطبك عظيمًا فإني أرده.
– هل تستطيع أن تحل عقد نكاح شرعي من غير رضا الزوج؟
– ربما أقدر.
– لقد عُقد لنعيمة في هذا المساء على خليل بك فماذا تفعل؟
– من قال لك؟
– بلغ إليَّ من بعض أصحابه، وقد طفتُ المساء حول بيت حسين باشا فلم أرَ نعيمة كعادتي فاستولت عليَّ الهواجسُ، ولما قيل لي: أن سيُكتب كتابها على خليل بك في هذه السهرة طار صوابي، ورحت أبحث عنك لعلك تستطيع أن تجد طريقة لتأخير العقد فلم أجدْك. فانظر ما أسوأ بختي، كل يوم أجتمع بك وأراك ولكني لَمَّا كنت في شديد الحاجة إليك لم أرك، فيا لنحس حظي.
– خففْ عنك يا عزيزي حسن وهوِّنْ عليك؛ فلا ينال يد نعيمة سواك.
– كيف يمكن ذلك وقد كُتب الكتاب؟
– كلَّا، لم يُكتب.
– بل أكد لي أعز أصدقاء خليل أنه كُتب منذ ساعة، وأصبحتْ نعيمة حليلة خليل.
– كلَّا، لا يعرف الذي أخبرك شيئًا من الحقيقة.
– على ما تستند بهذا النفي.
– على مشاهدتي الشخصية.
– فبهت حسن، وقال: ماذا تعني، هل كنت هناك؟
– نعم.
– وهل حضرت حفلة العقد؟
– قلت لك: لم يُعقد العقد.
– إذن ماذا حصل؟
– حصل أن نعيمة لم تُجاوب المأذونَ، وأن صديقك طاهر عفت خطبها لك من أبيها نصف خطبة.
– أتمزح؟
– بل هذه هي الحقيقة التي حصلت.
– كيف كان ذلك، هل عرفت من قبل أن الكتاب سيُكتب في هذه السهرة؟
– عرفت منذ الأمس.
– عجيب، من قال لك؟
– العصفورة.
فضحك حسن وقال: اصدقني، لا تمزح، كيف عرفت؟
– إن لي عصفورة في بيت عزيز باشا تُطْلعني على كل ما يحدث فيه ويُقال، فلا يهمك أن تعرف إلا أني عرفت واستدركت الأمر وأَخَّرت كتابة الكتاب.
وجعل طاهر أفندي يقص على حسن ما جرى بينه وبين عدلي باشا، وكيف انتهت الحفلة على خيبة؟ وكان حسن يسمع ووجهه يهل بشرًا.
ولما انتهى الحديث نهض إلى طاهر أفندي وجعل يقبله كالولد الذي يقبل أخاه.
وأخيرًا قال طاهر أفندي: عليك الآن أن تُبادر بالحصول على رُتبة أو نيشان.
– أُفضِّل أن أؤجل ذلك إلى حين أستحقه.
– أنت أكثر استحقاقًا للرتبة من ألوف ممن نالها قبلك.
– ولكن ليس لي وسيلة الآن.
– عندك أفعلُ الوسائل.
– من؟ أأنت؟
– كَلَّا، بل الأصفر الرنَّان.
فأعرض حسن أفندي قائلًا: أستنكف أن أشتري الرتبة شراء؛ لأني أود أن أنالها بناءً على أني جدير بها.
– إذن لا تنالها؛ لأن الذين نالوها لجدارتهم بها نادرون فاحصل عليها كما حصل سواك، وأنت أجدر بها من السواد الأعظم من ذوي الرتب.
– أخجل أن أسعى إلى هذا الأمر.
– أنا أُدبِّرُه لك عن يد أخينا يوسف بك، ففي أول الأمر تَستحصل على الرتبة الثانية، وفي بحر هذا العام تسعى حتى تحصل على المتمايز.
فأبرقت أَسِرَّةُ حسن وتَلَهَّبَ وجهه حياءً، وقال: إن هذا كثيرٌ في عام يا طاهر أفندي.
– كثيرٌ أو قليل لا بد منه؛ لِنيل أمانينا، وكونك ذا رتبة يفيدنا جدًّا في المشروع.
– ولماذا لا تسعى أنت إلى رتبة سامية؟
– أنا نمساوي التبعية، فحصولي على رتبة عثمانية مستهجَن، فدَعْنِي من هذا الأمر، ماذا جَدَّ في مسألتنا؟
– يُقال: إن الشركة البلجيكية التي تُسابقنا إلى المشروع تَبذل النقود بالمكيال، ولكن بعض رجال الحكومة يؤكِّدون لي أنه لا يأخذ هذا الامتياز أحدٌ سوانا.
– ولكنِّي أرى أن بعض الجرائد الوطنية تُعارضنا وتُحاول أن تُثبت أن للمشروع أضرارًا تفوق على منافعه.
– ألا تعلم أن الناس في هذه البلاد يَكرهون أن وطنيًّا يفلح بأمر لحسدهم؛ ولذلك لا ينفكُّون عن مقاومته، ولكننا نحن لا نُبالي بهذه المقاومات ما دام أهمُّ رجال الحكومة متفقين معنا، ولا بد أن نرضيهم ما استطعنا.