الفصل السابع والعشرون
في صباح اليوم التالي سمَّى ديمتري باسم إبليس الرجيم، وتوجه إلى صيدليٍّ صديقه، وقال له: أرجوك أن تبيعني قليلًا من الزرنيخ؛ لأني أبتغي أن أصنعه طعمًا للفار، فباعه بضع غرامات منه، ثم انتقل إلى صيدلي آخرَ فطلب منه بعضَ برشامات فارغة مختلفة الحجم وأن يصنع له بعض حبوب مُلَيِّنَة، فأعطاه ما طلب، ثم اختلى في غرفته ومزج بعض الزرنيخ بشيء من الكينا وقسمها في بعض برشامات مختلفة الحجم، ثم عجن تلك الحبوب، ومزج فيها شيئًا من الزرنيخ وقسمها حبوبًا مختلفة الحجم أيضًا، ثم مزج ما بقي من الزرنيخ في قليل من الماء ووعاه في زجاجة صغيرة، ثم وضع هذه الأجزاء الصغيرة في جيوبه ومضى إلى قهوة قريبة من بيت طاهر أفندي.
وقَعَدَ يترقب خروجَ أحد الخدم من المنزل؛ لكي يتتبعه لعله يذهب، وكان يظن أن الخدم لا يعرفونه، قضى ديمتري الشرير يتردد إلى تلك القهوة ويحوم حول المنزل، وبينه وبين الأجزاخانة القريبة منه عدة ساعات؛ عساه يُصادف أحدَ الخدم المشار إليهم خارجًا من البيت أو داخلًا إلى الأجزاخانة أو مارًّا أمام تلك القهوة التي هي على الطريق بين الأجزاخانة والبيت فلم يصدق ظنه.
صار وقت الظهر ومرت الساعة الأولى فالثانية فالثالثة ولم يمر أحدٌ من الخدم فضاق ذرعه وجعلت نفسه تُحدثه أن يؤجل هذه المهمة إلى اليوم التالي، وما صمم على التأجيل حتى رأى الخادم المنتظَر فراقبه حتى رآه يدخل الأجزاخانة فانتظره في قهوة قريبة حتى عاد وفي يده علبة برشام وزجاجة كبيرة فاعترضه قائلًا: بحياتك يا هذا، خذ هذه الرسالة إلى بيت التلغراف وأرسلها؛ فإنها معجلة وأنا مشغول هنا لا أقدر أن أذهب فأرسلها.
فتردد ذلك الخادم قائلًا: ليس عندي وقت؛ فإن الدكتور ينتظر هذه الأدوية ليعطي الست منها.
– لا بأس، إن المسافة قصيرة جدًّا فتذهب وتعود في خمس دقائق، وهذا ربع ريال لك، اذهب يا حبيبي لأجل خاطري؛ فإن هذه الرسالة ضروريةٌ وأنا مشغول، أَوْدِعْ هذه هنا.
ثم أخذ منه الزجاجة وعلبة الأدوية وربته على ظهره قائلًا: اذهب يا أخي اذهب.
فلما رأى الخادم في كفه ربع ريال قال في نفسه: «من الحماقة ألا أقوم بهذه المهمة الصغيرة في مقابل هذا الأبيض الناصع» وفي الحال ترك الزجاجة والعلبة مع ديمتري ومضى، وما توارى حتى كان ديمتري قد انزوى في القهوة حيث لا يراه أحدٌ وفَكَّ العلبة؛ إذ كانت ملفوفة بورقة مخططة ومربوطة بخيط، وأخذ منها أربعَ برشامات، ووضع بدلها أربعًا من البرشامات التي أَعَدَّها تساويها حجمًا وتُشابهها شكلًا، وعاد فلَفَّ العلبة، وربطها كما كانت.
بعد قليل عاد الخادم يقول: لم يقبل موظف التلغراف الرسالة؛ لأنك لم تذكر فيها اسم البلد الذي تُريد أن ترسلها إليه، ففتحها ديمتري ونظر فيها، وقال: صدقتَ، نسيت أن أكتب اسم البلد، لا بأس، ربما تكون مستعجلًا فخذ أدويتك وامض فسأرسلها مع آخر أو أمضي بنفسي فأرسلها.
فلم يتردد الخادم في تناوُل العلبة والزجاجة ومضى.
أما ديمتري فذهب إلى بيت عزيز باشا فصادفه في رحبة الدار.
فقال له عزيز بالإفرنسية: ماذا عملت من الصالحات؟
– نجحت.
– هل تم ما دبرت وتوفقت؟
– على غاية ما نروم.
– هل أبدلت الدواء؟
– أبدلت السم بالدسم.
– ما هو نوع الدواء؟
– برشام، فأخذت أربعًا شافية، ووضعت بدلها أربعًا قاتلة.
– برافو، إذن نجحنا في المهمة الأولى.
– وسننجح في الثانية — إن شاء الله.
جرى هذا الحديث بينهما بالإفرنسية، وهما لا يدريان أن يوسف مرقس السفرجي في غرفة قريبة، يسمعه ويفهمه كما تفاهماه.
وصل الخادم إلى بيت طاهر أفندي، فتناول الدكتور يوسف بك رأفت الزجاجة والعلبة منه، وفَضَّهما ثم دنا إلى غرفة عائدة، فقيل له: إنها نائمة، فقعد ينتظر في القاعة وهو يقرأ بعض الجرائد، وبعد قليل قيل له: إنها صَحَتْ، فدخل عليها باسمًا، وجلس إلى جانبها باشًّا، وقال: أتُريدين الآن يا حبيبتي أن تتناولي برشامة؟
فأجابت عائدة بصوت خافت: لا طاقة لي الآن على تناوُل شيء، فأمهلْني حتى المساء.
– لقد دنا المساءُ يا عزيزتي، وما هي إلا برشامة صغيرة، ولا بد لك من تناوُلها؛ فإن فيها شفاء لك — إن شاء الله.
– أُفٍّ! لا أقدر.
– يجب أن تُكرهي نفسك على أَخْذِها يا حياتي، وليس في البرشام ما يُشمأَزُّ منه، ضعيها في فمك الحلو واشربي جرعة ماء، فتبتلعيها مع الماء من غير أقل عناء.
ثم ناولها برشامة، وطلب إلى الممرضة أن تُقدِّم لها كأس ماء، فأمسكت عائدة البرشامة بإصبعيها والكأس باليد الأخرى وهي جالسة في سريرها، وجعل يوسف بك يُحرِّضها على تناولها وهي تقول: «أشعر أن نفسي تجيش في صدري وأكاد أتقيأ، دعني منها الآن.» وهو يقول لها: «بل خذيها الآن يا حبيبتي؛ إذ لا مناص من أخذها لشفاك.» وبينما كان الدكتور يوسف بك يُحاور عائدة ليحملها على تناوُل البرشامة وكان طاهر أفندي في مكتبه يكتب؛ قُرع جرس التلفون عند أُذنه، فتناول السماعة ووضعها على أُذنه.
– من؟
– أنت من؟
– طاهر.
– أنا سالم رحيم.
– ماذا؟
– الدواء الذي وصل إليكم الآن مسمومٌ، فعَجِّل امنعْه.
فترك طاهر أفندي التلفون، وبأسرع مِنْ لَمْحِ البرق كان في غرفة عائدة، فرآها وقد وضعت البرشامة في فمها والكأس على شفتيها، فقال: ابصقيها في الحال ابصقيها، فارتاعت عائدة وبصقت البرشامة في الكأس، وقالت: ويلاه، لماذا؟
فنهض الدكتور في الحال مرتعبًا وقال: ماذا ماذا؟
وكان طاهر أفندي قد تناول الكأس من يد عائدة وقال: هل تناولتِ غيرها؟
– كَلَّا، ما الخبر؟ لقد أرعبتَني يا أبتاه!
– الحمد لله، أين علبة البرشام؟
فتناولها الدكتور وفتحها، فتناولها منه طاهر أفندي وجعل يقلِّب البرشامات، فأعرب منها ثلاثًا، وقال ليوسف بك: انظر، ألا ترى أن هذه الثلاثة برشامات تختلف عن البقية بقليل ما فيها من العقاقير؟
– وما سبب ذلك، وما معناه؟
– معناه أنك كنت تجرع عائدة سمًّا.
– ويلاه! لو تجرعت هي تلك البرشامة لتجرعتُ أنا هذه الثلاث، كيف حصل هذا؟
– عدوٌّ دَسَّ هذا السمَّ.
ثم تناول الدكتور البرشامة التي في الكأس والماء يوشك أن يحلها، فانحَلَّت بين أصابعه فرأى المادة الزرنيخية ضمن الكيناء، ثم هَمَّ أن يفتح البرشامات الثلاث، فمنعه طاهر أفندي قائلًا: دعها كما هي. ثم أقفل العلبة ووضعها في جيبه، فقال الدكتور يوسف: بالله من هذا العدو، أَخْبِرْني عنه؛ لكي أمزقه؟
– كلَّا كلَّا، اكتُموا الأمرَ الآن؛ لأن وقت الدينونة لم يأتِ بعد، اطمئنُّوا واحمدوا الله على السلامة.
أما عائدة فكانت مُصْفَرَّة الوجه مرتعشة البدن من شدة الوجل، فقالتْ بصوت مضطرِب: من هذا الذي يريد قتلي يا أبي؟ أي ذنب جنيت؟ رحماك يا أبي ارحمني.
فقَبَّلَها طاهر أفندي وقال: لا تخافي يا بنتي، طِيبي نفسًا وقَرِّي عينًا، لا يصل إليكِ أذًى قبل أن يصير عليَّ.
– من ذا الذي يريد بي شرًّا؟ ولماذا؟
– لو كان الذي يُريد بك الشرَّ عارفًا بحقيقة أصلك لَربما عض أصابعه ندمًا إن كان من البشر فاطمئني ولا تبحثي.
ثم عاد طاهر أفندي إلى غرفته واستدعى بالخادم وسأله: من أين أتيت بالدواء؟
– أجزاخانة (…)
– مَنْ رَكَّبَه؟
– الأجزجي الشاب الذي يُدعَى الخواجه جاك.
– أَمَا كان أحدٌ سواه هناك؟
– كَلَّا البتة.
– هل أعطاك بيده العلبة؟
– نعم.
– هل أمسكها أحدٌ سواك؟
فتَرَدَّدَ الخادمُ قائلًا: نعم.
– مَن؟
– الخواجه الذي في دائرة عزيز باشا نصري.
– أي خواجه؟
– الخواجه الرومي لا أعرف اسمه.
– لماذا؟
– اعترضني في الطريق وكَلَّفَني أن أُرسل له تلغرافًا.
– وهذه العلبة.
– استودعتها معه إلى أنْ عدت.
– لماذا قضيتَ مهمته وأنت في خدمة غيره؟
فجعل الخادم يرتجف قائلًا: أَلَحَّ عليَّ أن أفعل فاستحيت منه.
– اخرج، وإذا التفتَّ بعدُ إلى أحد وأنت سائرٌ في مهمة تخصني أنزلت بك أقصى عقاب.