الفصل الثامن والعشرون
إلى الجهة الغربية من منزل عزيز باشا حديقةٌ صغيرةٌ، وفي مقدمة الحديقة الشمالية بنايةٌ صغيرةٌ ملتصقةٌ بالمنزل، في القسم السفلي منها بعضُ غرف يُقيم فيها كَتَبة الدائرة، والقسم العلوي منها يُقيم فيه خليل بك، وباب ذلك القسم السفلي إلى الشارع، وله بابٌ يخرج منه إلى الحديقة أيضًا، ولكنه مقفل دائمًا.
في تلك الليلة التي كان يُنتظر فيها أن تموت عائدة مسمومةً في منتصف الليل تقريبًا كان عزيز باشا في إحدى غرف المكتب الداخلية التي تجاورُ الغرفةَ ذات الباب المؤدي إلى الحديقة، وكان معه ديمتري ألكسيوس، ومحمد أفندي حفيظ الذي كان منذ عدة سنين حوذيًّا عندهُ، وعلي أفندي حامد الذي كان سائسًا. وكان أمام عزيز باشا بعضُ الأوراق.
وكان قد استدعى زينب أن تَقْدَم إلى المكتب من طريق الحديقة، فظَنَّتْ زينبُ أن الغرض من استدعائها موافقتُها على أمر يختصُّ بغِلَال أملاكها، أو على صَكِّ إيجار أو نحو ذلك. فنزلت من غرفتها بناءً على بلاغ خادمتها ومشتْ في الحديقة مطمئنةً؛ ولا سيما أن عزيز باشا كان قد عَدَلَ عن سياسة العنف معها، وكان يُحاسنها بعض المحاسنة.
ولكنها دهشت إذ دخلت فرأتْ شبه مؤتمر مؤلَّف من الأربع السابق ذكرُهم، فأوجستْ شرًّا واستطار فؤادُها، وهَمَّتْ أن تعود، فانقض عليها عزيز باشا، وقبض على ذراعيها، وقال: تعالي أمضي هذه الحجة البسيطة.
– من كتبها؟
– كتبها علي أفندي حامد كما أمليتُها عليه.
– ما هذه الحجة؟
– حجة بيع منكِ لي عن بعض العِزَب، وإذا شئتِ فاقرئيها قبل أن تمضيها.
– لا داعي للقراءَة؛ لم أَبِعْ ولم أشترِ.
– بعتِ واشتريتِ أمضي الحجة حالًا.
وكانت زينب ترى شرر الغضب يتطاير من حُمرة عينيه، ورائحة الخمر تنبعث من فمه، والثلاثة الباقون قد أحاطوا بها، فجزعت جدًّا، وقالت: أتُريدون أن تُرغموني على إمضائها؟
– نعم، فأمضيها إذن عن طيب خاطر؛ لأن ما تشتمل عليه لا يبلغ ثلثَ ثروتك.
– وهب أني أمضيتُها وادعيتُ — بعدئذٍ — أني أُكرهتُ على إمضائها.
– هنا شهودٌ ثلاثةٌ يشهدون أنك أمضيتيها بملء رضاك.
– وهب أني لا أمضيها.
فتناول عزيز باشا مسدسًا، وقال لها: لا تُناقشيني طويلًا أمضيها في الحال أو أني أُبعثر دماغك برصاص هذا المسدس؛ لقد أخذ مني اليأس وتولاني القنوط، فما حياتُك عندي أعزُّ من حياتي، وما لحياتي قيمةٌ وأنا في هذا الإفلاس، فأمضي الحجة ولا تبطئي، وإلا كنا كلانا صريعي هذا الرصاص.
فهلع فؤادُ زينب وأدركتْ أن شرًّا عظيمًا محدِقًا بها، وأنه لا يستحيل أن ينفِّذ زوجها قوله وهو في سورة سكر.
خَطَرَ أولادُها في بالها وماذا تكون حالهم إذا هلكت، مرَّت في مخيلتها في تلك اللحظة ألوفٌ من الأفكار، فتناولت القلم بيدها وابتسمتْ ابتسامة الوجل وهي تنظر إلى عزيز وهو شعلة غضب وجذوة شر، وأمضت إمضاءَها الصريح.
ثم تَقَدَّمَ البقيةُ واحدًا واحدًا، وتناولوا القلم، وسألوها: «هل بعتِ وقبضتِ الثمن؟» إلى غير ذلك من الأسئلة القانونية، فكانت تُجيب بالإيجاب، فأمضوا شهادتهم.
وما كاد ينتهي الأخيرُ منهم من توقيع شهادتهِ حتى انقض ثلاثةٌ متزيُّون بزي الأعراب، ومدججون بالسلاح، وفي يُمنَى الأول منهم مسدسٌ وفي يدي كل من الاثنين الآخرين مسدسان، فتدافع الأربعةُ المتآمرون إلى الجانب الثاني من الغرفة وراء المائدة الكتابية، وزينبُ وقعتْ عند قدمَي زوجها.
وحينئذٍ صَوَّبَ المباغتون مسدساتِهم إلى المتآمرين، وتَقَدَّم الأولُ منهم إلى مائدة الكتابة وخطف الحجة والمسدس الذي كان في يد عزيز باشا، وقد تركه على المائدة في أثناء التوقيع على الحجة، وقال في الحال بصوت خشن منخفض: لا يَفُهْ أحدٌ منكم بكلمة وإلا خطفتُ رُوحَه، لا مطمع لنا إلا بهذه الحجة، ونحن شهودٌ على الإكراه الذي حصل فيها، إياكم أن تُجدِّدُوها بعدُ؛ لئلا تقوم هذه دليلًا على الإكراه في تلك أيضًا.
تكلم هذه الكلمات بلهجة غريبة كذي سُلطة على السامعين، وكان الأربعةُ ينتفضون من الخوف ويحجبون أفواه المسدسات المسدَّدَة إليهم بأَكُفِّهِمْ، ويخبئون وجوههم ورآهم ولا يفوهون ببنت شفة.
ولما انتهى المتكلمُ من كلامه انقلب الثلاثةُ راجعين، وبعد بضع ثوانٍ اعتدلَ الأربعةُ وجعلوا ينظرون بعضُهم إلى بعض وغبار الموت على وجوههم كأنهم يتساءَلون! ثم شعر عزيز باشا أن زينب منطرحةٌ عند قدميه كجُثَّة لا حراك بها فأنهضها وأجلسها إلى الكرسي فانتعشت، وقالت: رَبَّاهُ ما هذه المخاوف التي أرى يا عزيز؟
عند ذلك خرجوا واحدًا واحدًا وهم يخافون شرَّ كمين في الحديقة، كانت الحديقة صغيرةً جدًّا، فتفرقوا فيها فلم يجدوا فيها أثرًا، اختبروا بابها الخلفيَّ الذي يخرج منه إلى الزقاق فوجدوه مقفلًا بإحكام كما كان، كيف دخل هؤلاء الثلاثة، وكيف خرجوا؟ ومَنْ هم، وما غرضُهم؟ ومَنْ أَبْلَغَهُم بما هو جارٍ في نصف الليل في ذلك المكتب؟
كل هذه المسائل خطرتْ لكُلٍّ منهم، وتهامسوها فيما بين آذانهم، فلم يَلُحْ لهم جوابٌ مقنِع على واحدٍ منها حتى إنهم كادوا أخيرًا يشكُّون في حقيقة ما رأوا ويعدونه من قبيل الرؤيا. وبعد لغط قليل في وسط الحديقة خشوا أن يفيق الخدم على لغطهم، فخرجوا كلٌّ إلى منزله على موعد اللقاء، وعزيز باشا أخذ زوجته بيدها ودخل بها من باب المنزل الذي يؤدي إلى الحديقة، ثم صعد بها إلى غرفتها، ولما جلس وهي لا تزال تنتفض من الخوف والجزع سألها: من هؤلاء؟
– تسألني؟
– أسألك، من هؤلاء؟
فنظرت فيه نظرة المستغرب ثم قالت: لا أدري.
– لا تدرين؟ لماذا إذن أخذوا الحجة وتَهَدَّدُونا بأنْ يكونوا شهودًا على الإكراه فيها؟
– أكذا قالوا؟
– تتجاهلين؟
– ماذا أتجاهل، أليسوا لصوصًا؟
– أما سمعتِ ما قالوا؟
– لم أسمع شيئًا؛ لأني منذ دخلوا عددتُ نفسي في عداد الموتى، ولم أعِ على شيء إلا وأنا في الحديقة متشبِّثَة بك.
– يستحيل إلَّا أن تعرفيهم.
– أعرفهم؟
– نعم لا بد أنك تعرفيهم وبعلمكِ أتوا وإلا فلماذا يدافعون عنكِ؟
– يدافعون عني؟
– حتى متى تمكرين؟
– ويلاه، لا أفهم شيئًا من كل هذا الذي تقوله.
– متى كنتِ تُحسنين المكر والدهاء.
– أتعتقد ما تقول يا عزيز؟
– ليس الآن وقت مزاح.
– لا أفهم شيئًا من كل ما رأيت في غلس هذا الليل من المشاهد الرهيبة.
– إذن لماذا أخذ ذلك الشرير الحجة وحَذَّرَنا أن نُعيد كتابتَها وإمضاءها ثانية، وأنَّى له هذه الغيرة عليك، مَن هذا الذي له صلة بكِ ويدافع عنكِ؟
– والله لا صلة لي بأحد، ولا أعرف الجد من الهزل من كل ما حصل، وما همي الآن إلا أن أحمد الله على السلامة.
بعد كل هذا الحديث لم يثبت ظن عزيز بتواطؤ زوجته مع أولئك المفاجِئين أولًا؛ لأن كل نبرة من نبراتِ صوتها الخافت وكل خلجة من خلجات بدنها المقشعرِّ كانت تُثبت سلامة نيتها، وما يعرفه من سكونها وخنوعها في الماضي كان ينفي هذا الظن، فتركها في غرفتها ودخل إلى غرفته.
أما زينب فتجسمت هواجسها في كل ما رأتْ، وشعرت أنها أصبحتْ تحت خطر في منزل رَجُلِها، وأدركتْ أنه أصبح خصمها.
لا يرتاب القارئُ في أن أول ما يخطر لزينب بشأن هؤلاء الذين بتروا دسيسة زوجها، هو أن واحدًا منهم هو الذي جاءها مرة في الليل وحَذَّرَها من أن تشتري طلاقَها بنصف ثروتها، فانقلب هولُ تلك الحادثة في قلبها إلى استئناسٍ، وتأكدتْ أن ذلك الطارئ يسعى إلى خلاصها، وأنه يحرسها من شرور زوجها فأَنِسَتْ لهذا الفكر وتَقَوَّى قلبُها على عصيان بعلها وعدم الاستسلام له.
ولكن من هو ذلك الطارقُ؟ وما بُغيته، وكيف يعرف بدسائس زوجها؟ أسئلةٌ حَيَّرَتْها ولم تهتدِ إلى حلول لها، وأنَّى لها أن تهتدي.
لم يذق جفنها الكرى إلا في وجه الصباح نحو ساعة.
لا يُستبعد أن يدرك القارئ — من نفسه — أن أحد أولئك الثلاثة هو طاهر أفندي ومن يكون رفيقاه الآخران غير الدكتور يوسف بك رأفت وحسن أفندي بهجت؟ ولا يغرب عن فطنة القارئ أن يوسف مرقس أحد خدم عزيز باشا الذي أقامه طاهر أفندي جاسوسًا له في منزل خصمه هو الذي عرف بالدسيسة قبل وقوعها؛ إذ كان المؤْتمرون مجتمعين في غرفة عزيز باشا وَحْدَهم عند المساء يكتبون الحجة، وقد فهم أن موعد التنفيذ في نصف الليل في المكتب من بعض كلماتٍ تَبادَلَها عزيز باشا ووكيله ديمتري ألكسيوس بالإفرنسية.
وكان يوسف هذا قد توقع هذه الدسيسة منذ سمع حديث ديمتري وعزيز باشا إذ دَسَّ السم في الدواء الذي أخذ لعائدة — كما يذكر القارئ في الفصل الأسبق — إذ قال عزيز لديمتري بالإفرنسية: «برافو، إذن نجحنا في المهمة الأولى.» فأجابه ديمتري: «وسننجح في الثانية — إن شاء الله.» فمن ذلك فهم يوسف أن هناك دسيسةٌ قريبةٌ فتَوَقَّعَها وبحث عنها، فعرف بها وأبلغها إلى سالم أفندي رحيم الصديق الأمين لطاهر أفندي، وسالم نفحهُ عنها خيرَ الجزاء وأبلغها لطاهر أفندي، فتَزَيَّا هذا في الحال مع الدكتور يوسف بك رأفت وحسن أفندي بهجت بزي الأعراب، وتدججوا بالسلاح ومضوا قبل منتصف الليل إلى ما وراء الحديقة.
وحسب الاتفاق السابق؛ أدلى يوسف مرقس مفتاح باب الحديقة الخلفي لهم من شِبَّاكٍ في رواق الطبقة العليا من المنزل، ففتحوا الباب، وكمنوا في الحديقة حتى لاحظوا أن إمضاء الحجة قد انتهى فانقضُّوا على المكتب — كما علم القراء — ولما خرجوا أقفلوا الباب كما كان، وفي الحال عَلَّقُوا المفتاح في الخيط المدلَّى فانتشله يوسف مرقس ورَدَّهُ إلى مكانه، وعاد إلى مرقده.