الفصل التاسع والعشرون
في صباح اليوم التالي اجتمع عزيز باشا وأخوه خليل بك والخواجه ديمتري ألكسيوس في غرفة خليل بك، وجعلوا يتحادثون بما داهمهم في الليل السابق، فقال عزيز باشا: سؤالان حيراني كل الحيرة؛ الأول من هُمْ هؤلاء الذين باغتونا ومَنْ أخبرهم بمكيدتنا؟
فقال ديمتري: لم أَزَلْ إلى الآن متحيِّرًا، أما فهمت شيئًا من الهانم؟
– سألتُها واحْتَلْتُ أن أستخرج كلمة منها فلم أجد أن لها علمًا بشيء، ولا ريب عندي أنها تجهل كل شيء ولا صلة لها بأحد.
– أنت لا تعلم مكر النساء يا عزيز باشا!
– أعلمهُ جيدًا، ولكني أعرف هذه المخلوقة بسيطة القلب جدًّا، ولا جسارة لها على إتيان أبسطِ الدسائس.
فقال خليل: ألا يمكن أن يكون طاهر أفندي وبعض أصحابه تَنَكَّروا وباغتوكم أمس، فقال عزيز: خطر لي أن يكونوا هم، ولكن الفكر الأرجح أنهم لا يفعلون شيئًا، وإن كانوا يفعلونه، فما غرضهم؟
– مِن قبيل المعاكَسة والمكايَدة؛ لأن العداوة بيننا وبين طاهر أفندي أصبحتْ علنية.
– ربما يكونون هم الذين فعلوا، ولكن مَن أخبرهم حتى إنهم أتَوا في الميعاد المعيَّن وكيف دخلوا؟
فقال ديمتري: لا بد أن يكون بعضُ الخدم مواليًا لهم.
– ليس ذلك ببعيد، إذا لم يكن أحدٌ منا خائنًا!
– كيف يجسر أحدُنا أن يخون ونحن تَجْمَعُنا جامعةٌ واحدةٌ مهمة، يستحيل علينا حل عراها؟ وهي جامعةُ الاشتراك ببعض الجرائم الرهيبة.
– في نيتي أن أتحرى المسألة من بعض الخدم.
– إياك أن تفتح حديثًا مع أحد الخدم أو تسأله شيئًا؛ لأنك تُنبِّه ظنونهم وتنشئ بينهم لغطًا في مسائلنا.
– أرى أن نُخرجهم من الخدمة ونأتي بخدم أجداء.
– كلَّا كلَّا؛ لأنهم متى خرجوا من هنا فإذا كانوا يعرفون شيئًا أذاعوه وفضحونا، فالأفضل أن يبقى كلٌّ في خدمته، وألا نبحث معهم بأمر من الأمور حتى إذا كان أحدهم يعرف شيئًا من أعمالنا الماضية يبقى ما يعرفه محصورًا فيه، وعلينا أن نتحذَّر كل الحذر في جميع مؤامراتِنا المستقبلة، ويجب أن نقتصر فيها على التكلم بالإفرنسية.
– يظهر لي أن جميع مساعينا مخفقة يا خواجه ديمتري؛ لم نسمع شيئًا مِنْ نعي عائدة.
– لا أدري، لقد حيرني هذا الأمر، لم يكن في العلبة سوى ٨ برشامات، فأبدلت نصفها، فإن كانت قد تناولتْ شيئًا منها أمس واليوم فلا بد أن تكون قد تناولتْ برشامة سامة، والبرشامة الواحدة كافية لأنْ تقضي عليها في الحال؛ لأن فيها مقدارًا كبيرًا من الزرنيخ.
– أَلَا يمكن أن يكونوا قد لاحظوا أن في العلبة برشامات غريبة؟
– هيهات أنْ يلاحظوا ذلك؛ لأن الفرق بين الصنفين غيرُ جَلِيٍّ.
– ألا يُمكن أن يكونوا قد أوجسوا شرًّا وسألوا الخادم فأخبرهم أنك أحرزت العلبة هنيهة.
– لا داعي لإيجاسهم حتى يسألوا الخادم إذا لم يكن الخادم نفسه قد أوجس مني، والخادم لا يوجس مني؛ إذ لا علم له بما بيننا من التناظُر، ولا أظنه يعرفني.
– إذن هل يُمكن أن الفتاة لم تتناول برشامة سامة حتى الآن؟
– إذا لم نسمع خبرها اليوم فيكون السبب أن الطبيب عدل لسبب طبي عن تجريعها البرشامة، ويكون القدر قد حَفِظَها.
– أخاف أن تنفضح هذه الدسيسةُ يا ديمتري.
– لا تخف؛ لأني لا أظن أن الخادم يعرفني، وقد ظهر لي أنه يحسبني رجلًا غريبًا، وأما أنا فقد عرفتُه خادمًا عند طاهر أفندي؛ لأني رأيته خارجًا من منزله.
– مهما يكن من أمر هذه الدسيسة فلا نعتمد على نجاحها وحده؛ لأنها قد لا تغير خاطر حمد بك، بل ربما زادتْه انعطافًا لطاهر أفندي.
فقال خليل: هذا هو الأرجحُ، والذي أراه أنْ نهتم بمعاكسة مشروع الترام الكهربائي من الوجوه الأُخرى أيضًا؛ فأولًا يجب أن نُقيم الجرائد كلها ضده، بحيث تُبيِّن أخطارَه في البلد وتغرس في الأذهان أنه مشروعٌ جهنمي، فلعل بعض الموظفين المساعدين في استخراج الامتياز تفتر عزيمتهم، وإذا لم نحصل على هذه النتيجة من جراء طعن الجرائد على المشروع فحسبنا أن ننفِّر الناس منه، بحيث لا يُقبل أحدٌ على الاكتتاب في أَسْهُمِهِ.
فقال عزيز: أراك تفتكر حسنًا اليوم، صدقتَ، كفانا أن يعتقد الناس أن المشروع غيرُ مضمون النجاح، فيُعرضون عن شراءِ أسهمهِ وحينئذٍ يسقط من نفسه.
فقال ديمتري: صوابٌ ما تقول، ولكن لا يجوز أن نكتفي بذلك.
– لا، لا نكتفي بذلك فلا بد من التداخُل مع بعض الموظفين، ويقال: إن شركة بلجيكية مستعدة أن تشتغل بهذا المشروع، فسأتحرَّى هذا الخبر، فإنْ صحَّ سَاعَدْنا الشركةَ البلجيكية لكي تنجح قبل طاهر أفندي وحسن.
وعندي أن الوسيلة الفَعَّالة للمقاومة هي أن نأخذ لنا حزبًا كبيرًا من الوجهاء وكبار الموظفين، ونندِّد أمامهم بالمشروع حتى نكرِّهَهم به، وقد جرَّبت هذه الطريقة فكلمت بعض الأشخاص ونجحت؛ ذلك لأن محاربة مشروع كهذا بالطرق الأدبية تنجح في هذه البلاد ما دام داء التحاسُد فاشيًا في الأهالي، على أنه مهما يكن الأمر فلا بد لنا من بذل المال لكي نستطيع المحاربة، ولا سيما لشراء أقلام الكُتَّاب.
فقال خليل: إني أضحي بالبقية الباقية التي عندي.
فقال عزيز: لا بأس ضَحِّ؛ فإن كل غرضنا من هذه التضحية أن لا ينجح هذا الغلام حسن ويفوز عليك، ويظفر قبلك بيد نعيمة التي تبلغ ثروتها نحو مئتي ألف جنيه، فضحِّ بثروتك الزهيدة في سبيلِ الحصول على هذه الثروة الطائلة، ولقد ضحيت أنا بكل ما عندي ولم يبقَ لي إلا الزهيدُ وما أطمع به من ثروة زوجتي، ولكن يَلُوح لي أني لا أقدر أن أستولي على شيء من ثروتها قبل القبض على رُوحها.
فقال خليل: لا تلجأْ إلى هذه الطريقة إلا متى نفدت الحيل كلها.
– لقد نفدت يا أخي.
– كَلَّا لم تنفد، فقد خطر لي أمس خاطرٌ حسن جدًّا.
– ما هو؟ أراك اليوم ذا خواطر حسان.
– لا يخفى عليك أن زينب من النساء اللواتي يرتعبنَ ويترفعنَ عن كل ما ينافي الحشمة والأدب، وأصعبُ شيءٍ عليها أن يُقال عنها قول يمس آدابها أو عِرْضها، وتكاد تموت لو اتُّهمت تهمة مخجلة …
فقال عزيز مقاطعًا: فهمت فهمت ما تريد أن تقول، بالحق إن فكرتك بديعة جدًّا، أتُريد أن تتهمها بأمر؟
– دعني أكمل كلامي، افتكرت أمس بحيلة لطيفة جدًّا وهي أن نسلط امرأة من القَوَّادات على زينب، بحيث تظهر تلك القوادة بصفة كونها دلالة تبيع لوازم السيدات، وندعها تتردد على زينب حتى تصيرا صديقتين، وتحتال عليها أن تَجُرَّها إلى المكان السريِّ المعلوم في الجزيرة.
– بأي الطرق تقدر على ذلك يا ترى؟
– على القوادة أن تخترع الطريقة المفلحة.
فقال ديمتري: يمكنها أن تقول لها: «إن بعض الثلاثة الذين أفسدوا دسيسة زوجك تلك الليلة يريد مقابلتك لغاية حميدة تهمك فلا بد أنها تطاوعها على ما أظن.»
فقال عزيز: فكرة حسنة جدًّا.
فعاد خليل يتمم حديثه قال: ومتى قادتْها إلى ذلك المكان تكون أنت هناك، فتدخل عليها شاتمًا مهينًا بحيث تُفهمها أنها في محل دنس وتتهددها بأن تستدعى عمها حسين باشا عدلي لكي يراها في عارها فتجزع جدًّا، وحينئذٍ تقترح عليها أن تستر عارها بما تهبك من مالها، ويجب أن تعد قبلًا صكًا بمبلغ كبير وتحملها على أن تُوقِّع عليه، وإذا استطعت أن تستكتبها إياه كله تفعل حسنًا، فأبرقتْ أَسِرَّة عزيز باشا جدًّا، وقال: إنها لفكرة بديعة يا خليل، ولا ريب أنها ناجحة لا محالة؛ لأن زينب لا يروعها شيء مثل ثلم صيتها، فقد عرفت من أين تؤكل الكتف وسأغير سلوكي معها وأحاسنها؛ لأُمَهِّد السبيل لدهاء القوادة عليها وأما القوادة …
فقال ديمتري: أنا أدبرها، كُونا مطمئنين، إن هذه الحيلة أنجح الحيل — على ما أظن.