الفصل الثالث
ولا أقدر أن أعبر لك عن مقدار سروري حينئذٍ، فإني لم أَنَمْ في ذلك الليل؛ إذ كنت أتخيل رفيقةَ صباي واقفة إلى جنبي ويدها بيدي نستعيد خلاصةَ ودادنا أيام كنا كالمَلاكين نتماشى ونتلاعب في الدار، وكروحين تتجاولان في فضاءٍ ضيق.
فكرتُ كثيرًا في ذلك اليوم، استعددت لكلامٍ كثير، وهيأتُ أساليب متنوعة؛ لبثِّ غرامي، ولإثارة أشجانها، وتحريك كوامن فؤادها، وإضرام نيران الحب فيه.
ولا يخفى عليك أن الحديقة المكتنفة قصر حسين باشا عدلي معظمُها إلى جهتَي الجنوب والغرب من القصر، وفي سورها الجنوبي بابٌ صغير ويخرج منهُ إلى خرائبَ قديمة، ومنهُ يدخل البستاني بلوازم الحديقة من سماد وغيره.
فما قارب المساءُ حتى كنت قد طفت تلك الخرائب عشرين مرَّة، وقصدت إلى باب الحديقة مثلها، ولم يشرف على تلك الخرائب من القصر سوى بعضُ نوافذ المطبخ ونحوه، حيث يوجد الخدم ولا أدري إن كان أحدهم قد رآني أطوف هناك، وكان كتابي معي ليدفع المظنة عني.
ولما قاربت الشمس المغيب كنت على الباب أُرسل نظراتي من خصاصه، فلا أرى إلا أغصانًا غضة، ولا أسمع إلا حفيف أوراقها اللطيف فكدتُ أنفجر مللًا وسآمة، وما غربت الشمس حتى ظهرتْ شمس حياتي بين تلك الأغصان، ودنت إلى الباب — بكل خفة وتحذُّر — وفتحتْه، فكنت حينئذٍ أحس أنها تفتح باب قلبي، وشعرتُ أن فؤادي ينتفض جزعًا، فتحت المصراع رُبع فتح، فلما رأتْني رجعتْ إلى الوراء مبغوتة جازعة كأَنها لا تنتظر أن تراني، وابتسمت لي ابتسامة مقرونة بالوَجَل فتقدمت بغية أن أدخل فرفعت يدها قائلة: بربك. مكانك.
– لماذا؟
– أخاف أن يباغتنا أحدٌ. فابقَ خارج الباب وأنا من داخلهِ؛ حتى إذا شعرت بقادم رددتُ الباب بسرعة واختفيتَ أنت في هذه الخرائب.
– ليكن ما تشائين.
وحينئذٍ وقفت خارجًا مسندًا الجدار بكتفي، وهي قابضةٌ على حاشية الباب. بقينا نحو نصف دقيقة صامتين لا نتكلم، وكل ما جال في خاطري من الكلام والآيات الغرامية في ذلك النهار غاب عن ذهني حينئذٍ، وشعرت أن العرق يتصبب عن جبهتي. عجيب يا عزيزي يوسف، كيف أن دالة سني الحداثة العشر زالتْ في احتجاب سنة، ولم تعد لي جسارة على مفاتحة نعيمة بخطاب، وأظن أنه لو لم أكن شغوفًا بها حينئذٍ لأمكنني أن أجتمع بها في الدار وأمام أمها بلا حرج، ولكن الحب قضى علينا بكتمه، فصرنا نتباعد دفعًا للمظانِّ.
ولَمَّا رأتْ نعيمة أني لم أنطق بكلمة هَمَّتْ أن ترد الباب قائلةً ليلة سعيدة. فرجف قلبي في داخلي وقلت: بربك يا نعيمة. ما معنى هذا؟
قالت: بحياتك. دعني؛ أخاف أن يفاجئنا رقيب.
قلت: إذن لماذا أتيتِ ولم نتكلم كلمة قطُّ؟
– ماذا تريد؟ قل.
فالتفتُّ إلى ما حولي كأني ألتمس من يلقنني وازدردت ريقي فلم أعلم ماذا أقول؟ ولكن لم أعدم موضوعًا تافهًا للحديث فقلت لها — وهي وجلة مثلي: هل تريدين رواية؟
– أرسل إن كان عندك.
– أية رواية تريدين؟
– لا أدري. أرسل ما تشاء.
– سأبحث لكِ عن الروايات البديعة.
– أشكر لطفك.
والحق أقول لك يا عزيزي يوسف إننا كلينا تبادلنا هذه المخاطبة القصيرة التي لا فائدة منها ونحن لا نكاد نفهم ما نقول، ولما سكتُّ قالت نعيمة: «بنسوار» وردت الباب فكدت أنشقُّ من الغيظ، فناديتُها بصوت خافت، فردت من وراء الباب قائلة: ماذا؟
– افتحي.
– رحماك دعني؛ لئلا يرانا أحد.
– لم نتكلم شيئًا.
– ماذا تريد أن تقول؟
– هل أراكِ غدًا مثل هذه الساعة في هذا المكان؟
– ربما.
ورأيتها حينئذٍ قد ولَّت ظهرها ومشت متلفِّتة متغلغلة بين الأشجار والأنجم، فعدت ألعن نفسي وأعض أصابعي لما تولاني من الجبن حين مقابلتها. والحقُّ أني رأيت في وجهها حينئذٍ من مهابة الحشمة وورع الأدب ما يعقد لسان بسمرك. عدت حزينًا وأنا أعلل النفس بلقاء الغد.
وقد قضيت الليل والنهار التاليين كسابقيهما، قلقَ البال مقلقلَ الفؤاد، واستجمعت في ذاكرتي عددًا عديدًا من الجُمل التي أبثُّ فيها شعور قلبي وضميري وكل عواطفي لنعيمة. ولَمَّا كان المساء التالي كنت لدى باب الحديقة المعهود أنظر من خصاصهِ إلى داخلها. بقيت أسترق النظرات تارةً وأتلفت حولي تارةً أخرى، برهة طويلة لا أَقدر أن أعلم مُدتها ومن شدة التحديق تَعِبَ نظري وجَفَّتْ مقلتاي تحت مرور النسيم.
ولما أوشك نورُ النهار أن يبهت على إثر غياب الشمس؛ رأيت نعيمة لدى الباب تفتحه، وما انفتح قليلًا حتى كنتُ أمامها، فقالت: حاذرْ أن يرانا أحدٌ من الخارج.
قلت: لا تخافي.
– بحياتك، لا تدعنا نطيل الوقوف هنا؛ لأني أخاف أن يباغتنا أحد.
– لا تخافي.
– لا تكلفني هذا الأمر مرة أخرى يا حسن؛ فإنه غير لائق بي، وإذا عرف به أحدٌ أذوبُ جزعًا.
– لا تخافي.
أدركت أني لم أتجاوز في حديثي معها لفظتي: «لا تخافي.» ولما سكتت أوشكت أن يغلق عليَّ. ضربت على وتر ذاكرتي فوجدتهُ مقطوعًا. استدعيت تخيلاتي فلم يُلَبِّنِي منها شيء فكاد ظلام الاغتمام ينسدل على ضميري. لم تعبر هنيهة حتى استدركتْني نعيمة قائلة: لماذا لم تأتِ إلى الدار في كل هذه المدة كعادتك؟ آه، ليتني لم أزل صبيًّا صغيرًا يا ست نعيمة، فكنت ألتقي بك كل يوم بلا إثم ولا حرج. أما الآن فأخشى أَنَّ أضعف حركة من حركاتي تفضح سرائري.
فرأيتها وقد عَرَتْها رجفةٌ كالعصفور بَلَّلَهُ القطرُ. ثم جعلتْ تتلفتُ كأنها تبتغي أن تُضيع الحديث، وشعرتُ أن كل ما كان لها من الجراءة السابقة في الحديث — لأن كلامها كان خلوًا من معاني قلبها — قد تحول إليَّ فعدتُ أقول: نعيمة ألا تزالين تذكرين ماضي مودتنا؟ ما كان أحلاها!
– ولكننا الآن قد أصبحنا فَتِيَّيْن، وخرجنا من عدن البساطة إلى بيداء الهيئة الاجتماعية، حيث تُقيم الشريعة الأدبية حجابًا متينًا بيننا، حتى إذا تسلقناه لا نأمن السقوط الهائل.
– ولكن هذا الحجاب إذا حال بين شخصيتينا فلا يحول بين روحينا يا نعيمة، وجُلُّ بغيتي من هذا اللقاء الذي أتوخاه أن أخبرك صريحًا أن تلك المودة الصبوية التي نبتت في عدن بساطتنا أصبحت الآن دوحة حب باسقة في فؤادي، فهل تشائين أن تسقي هذه الدوحة من غيث رضاكِ؟
فأطرقتْ حياءً وخجلًا، ثم تلفتتْ وقالت: ويلي! لو رآني أحد هنا ماذا يقول؟ بربك دعنا نفترق.
– على أيِّ حال نفترق يا نعيمة.
– نفترق كما اجتمعنا.
– ولكني أودُّ أن أسمع من شفتيك الشريفتين هل قلبي مخطئ؟ هل لي في ضميرك أثر يا نعيمة؟
– بربك دعنا من هذا الحديث. كيف تسألني هذا السؤال وأنت تعلم ما حداني إلى هذا اللقاء؟
وعند ذلك هَمَّتْ أن تقفل الباب، فتناولت يدها وقلت: إلى اللقاء. متى نلتقي؟
– لا أدري بيد أننا لا نلتقي هنا بعد. زرنا لعله يتسنى لنا أن نلتقي.
ثم خرجتُ وهي قفلت الباب وعدت أحسُّ أن الأرض مرنةٌ تحت قدميَّ فلا أمشي إلا يستخفني السرور، وجعلت — بعد ذلك — أذهب إلى القصر، وأجتهد أن أُعرِّض نفسي أحيانًا إلى دار الحريم؛ لكي تراني نعيمة، وأحيانًا كنت أدخل إلى القصر أو أخرج منه في موعدِ خروجِ نعيمة وأمها إلى النزهة أو إلى الزيارة، فأحييها وأكلمها قليلًا — ولكن بكل تحذُّر.
على أني لم أستطع الاستمرار على هذه الحالة فكنت أُحس بشوق شديد إلى لقاء نعيمة كأنَّ الحياة بالبعد عنها صارت عذابًا لي، ولقد فكرت في أن تكون زوجة لي، ولكن صنعتي كانت تُميت هذا الفكر؛ إذ أرى أن بيني وبينها بونًا شاسعًا لا أستطيع أن أعبره إلَّا بأعجوبة سماوية.
وكنت في بعض الأحيان أتخيل نفسي راقيًا في سلم المعالي حتى أبلغ إلى مرتبة وزير وحاصلًا على يدها، ولكن لم أكن لأَلبث أن أذكر ضعفي فأدرك أني أبني قصورًا وعلالي في الهواء، فتصغر نفسي وتستولي عليَّ الكآبة؛ إذ أفتكر حينئذٍ في مصير حبي هذا، وأسائل نفسي عما تكون نهايتهُ وغايتهُ. وكنت متى أغرقت في هذه الأفكار وانتهيت إلى شفا اليأس أنفض عن ضميري هذه الهواجس وأقول: «لكل وقت شأنه، فلْأُحبَّ الآن وأدع المستقبل لتدبير الله.»
تُقْتُ جدًّا أن أجتمع بنعيمة، ولم أعدْ أستطيع الصبرَ عن لقائها وبثِّ المستجدِّ من وجدي لها، وعجبتُ كيف أنها هي صابرةٌ عن مقابلتي إذا كانت تحبني كما أحبها؛ ولذلك كنت أتوقع يومًا بعد آخر أن تشير إليَّ بأن ألاقيها في الملتقى السرِّي المعهود؛ أي عند باب الحديقة الخلفي، على أن هذا التوقُّع كان يخيب كل يوم.
وأخيرًا لم أعد أطيق الصبر عن الاجتماع بها ولا سيما؛ لأني أحسستُ أنها لم تعد تهتم بأن تراني من خدرها إذ أكون في بعض رحبات القصر التي تشرف عليها مقصورتها، فاغتنمت ذات يوم فرصة خروجها مع أمها إلى النزهة وقابلتُهما في باب الدار، وغافلت أمها وقلت لها بالإفرنسية: «أود أن أراك غدًا في الملتقى المعهود.» فلم تُجبْ، فعذرتُها، ولكني رجحت أنها توافيني في الميعاد فانتظرتها في اليوم التالي أمام الباب حسب المعتاد.
لم تخلف ظني فقد وافت وفتحت الباب، وهي تتلفَّت؛ خوف مفاجأة أحد، ثم قالت: بربك يا حسن لا تغرِّر بي، فإني أشعر أني أفعل منكرًا بهذه المقابلة السرِّية، وما أتيت تلبيةً لطلبك بل لكي أقول لك أن تتجنب أقلَّ صلة بي.
– اعذريني يا نعيمة إن وجدي يجدُّ بي، ولا أستطيع الصبر عن لقائك ولو لحظة لكي أقول لك من صميم قلبي: إني أحبك حبًّا لا نهاية له، إني مستسلم للتقادير في هواك. فامتقع لونُ وجهها وبالجهد استطاعت أن تقول لي: لا تزد من هذا الحديث يا حسن أفندي فإنه غير لائق بي ولا بك ولا لزوم له.
فشعرت أن نبلةً عبرت في قلبي فشَقَّتْه شطرين، وجعلتْ ذراعاي ترتجفان فقلت لها: رحماكِ يا نعيمة هل تغير قلبك عليَّ؟ لا أقدر أن أعيش هنيهة بغير روح حبكِ، إن كنت عدلتِ عن محبتي فها أنا مائت. أموتُ حقيقة فارحميني يا نعيمة، وطفر الدمع من عينيَّ وأنا أسند الجدار وأكاد أقع على قدميها.
فنظرتْ إليَّ ولمَحَات الرقة والانعطاف والإشفاق تتموَّج على سحنتها ثم قالت: إن حُبَّنَا لَعقيمٌ يا حسن، فالأفضل لنا أن نقتصر عنه قبل أن يبلغ أشُدَّهُ ويتعذر علينا الخلاص منه، ويؤدي بنا أخيرًا إلى عقدة صعبة الحل، أو إلى ما لا تُحمد مغبته.
– بالله، ألم يبلغ أشده بعد يا نعيمة. بربك لا تجرحي فؤادي بمثل هذه النصال، لقد أصبحتُ في بحر من الحب عميق القرار وليس لي منه خلاصٌ، فبحقك لا تصادمي قلبي بهذا النهي عن الحب؛ فلم يعد في وسعي التخلصُ منه، وإن كنتِ لا تحبينني فحسبي أن ترضي عن حبي لكِ.
فتنهدتْ وقالت: آه يا حسن لماذا تغرر بي وأنت لا تجهل أن بيننا حجابًا كثيفًا؟
– إني تعس جدًّا. أنا لا أجهل أن مقامي دون مقامك جدًّا، ودون الحصول على يدك خرط القتاد ولكن قولي لي لو كنت الآن في مقام يساوي مقام أبيك فهل يكون لي حظ منك يا نعيمة؟
– أتريد بهذا السؤال أن تختبر درجة حبي لك يا حسن؟ الأفضل أن تقصر هذا الحديث لئلا يورطنا في حب عقيم لا ننال منه غير العذاب.
– أحب أن أتأكد يا نعيمة ما إذا كنت حاصلًا على نعمة في عينيكِ.
– آه يا حسن فكَّرتُ كثيرًا في أمر حبنا، فرأيت أنه يكون وبالًا علينا إذا تمادينا فيه؛ إذ لا نهاية صالحة له.
– أعلم ذلك جيدًا يا نعيمة، فما أنا إلا نموذج البائسين.
– إذن لماذا نتمادى بهذا الحب؟
ففكرت هنيهة ثم قلت: أما من وسيلة لحصولي على يدكِ يا نعيمة؟
– لو رجع الأمر إليَّ لَما كان شيءٌ أسهلَ من ذلك، ولكن أنت تعلم أن أبي ممن يُبالغون في اعتبار الأصل والجاه، فإذا لم يطلب يدي ذو وجاهة ومال طائل؛ أبقاني أبي في خدري حتى أقضي نَحبي فيه.
ففكرتُ نحو دقيقة ثم قلت: نعيمة هَبِي أني صرت ذا ثروةٍ طائلة ومقامٍ سامٍ، فهل أنال نعمة في عيني أبيكِ؟ الحصول على المال والجاه في مقدور الإنسان، ومجال السعي أمامي فسيحٌ؛ فقد أستطيع أن أرقى حتى أبلغ ذروة العُلى فهل أُرضي أباكِ إذا بلغت إلى مقامٍ يساوي مقامه؟
فتأملتْ قليلًا، وقالت: إذا كانت لك هذه الهمة القعساء، والعزيمة الصادقة حتى تبلغ مقامًا جديرًا بأن يُعتبر، فإذا شاءَ أبي أن يعرقل أُمورنا؛ نفكر في ذلك الحين بطريقة لاجتياز هذه العقبة.
– إذن ثقي يا نعيمة بأني إذا لم أبلغ في إبان شبابي المقام الذي يرضيكِ؛ أنصرف من هذا العالم الفاني.
– ماذا تعني أن تفعل؟
– سأخبرك بعد حين. عيِّني لي موعدًا آخر للقائنا وفيه نُقرر أمرنا ونفترق على اتفاق.
– غدًا هنا كالعادة.
وعند ذلك افترقنا منتعشين، ولا أُطيل عليك الحديث؛ فإننا التقينا في اليوم التالي في الموعد المعين بعد أن قضيت ليلي ونهاري أفتكر في مستقبلي افتكار الكهل الذي أحدقت به همومُ الدنيا، وإليك نتيجة ما افتكرته مستخلَصًا من حديثنا التالي.