الفصل الثالث والثلاثون
في ذلك المساء توجه عزيز باشا إلى حسين باشا عدلي، واختلى به في قاعة الاستقبال وبادأه بالكلام قائلًا: لي معك يا عدلي باشا عدة أحاديثَ في هذا المساء.
– خير — إن شاء الله.
– ليس إلا الخير إن شاء الله، أرأيت كيف أخفق أصحابنا في مشروع الترام؟
– قيل لي إن بعض الأهالي عاكسوهم في المشروع، وأصحاب الأمر والنهي مالوا إلى الشركة البلجيكية؛ لأنها أسخى في العطاء.
– قد يكون لما بلغك شيء من الصحة، ولكن الأمر الأساسي أن الحكومة وجدتْ شركة أصحابنا ضعيفة جدًّا لا تضمن نجاح المشروع ولا هي أهلٌ له؛ ولهذا حفظت أوراقها كما حفظتْ أوراق غيرها قبلها، ولَمَّا قدمت الشركة المقتدرة على هذا العمل الخطير طلبَها قبلتْه الحكومة في الحال.
– كنت أود أن تفوز الشركة الوطنية دون البلجيكية.
– ولكن مؤسسي الشركة الوطنية أولهم أجنبيٌّ نمساوي، والثاني ولد مغرورٌ فقير، والثالث فتًى بسيطٌ، فبالطبع لا ينجحون ولكن لو كان المؤسسون من رجال البلد المهمين المقتدرين في ماليتهم وعقولهم؛ لَفازوا لا محالة. ولا أدري كيف أن غلامًا كحسن بهجت هذا المعروف أصله وفصله تُزين له نفسه أنه أهلٌ للقيام بهذا المشروع الخطير؟
– مهما يكن الأمر فكنت أود أن يساعده مواطنوه ورجال الحكومة؛ لأنه أبدى همة قعساء وغيرة متقدة.
– ولكنه جاهل غر، عديم التدبر، متهور جدًّا، فلا ينتظر منه أن يفلح في عمل.
– قيل لي إنه حصل على الرتبة الثانية ولقب بك.
– نعم حصل عليها، ولكن بالمال.
– وأي رتبة تنال الآن باستحقاق، أفلا ترى أن الرتب والنشانات أصبحت كالسلع تباع وتشرى، فله منها أسوة بسواه، وعندي أنه أجدرُ بها من أُلوف ممن نالوها بغير اسحتقاق؛ لأنه مجتهد وزكي.
– لا تغترَّ به يا حسين باشا؛ فإنه لولا مساعدة طاهر أفندي عفت له ماليًّا وأدبيًّا لَما كان شيئًا مذكورًا.
– ولكن قيل لي إنه يكسب كثيرًا، وقد أصبح ذا شهرة في صناعته حتى إنه ربح في قضية واحدة نحو ألف جنيه.
فهز عزيز باشا رأسه ضاحكًا وقال: يقول عن نفسه ما يشاء، والحقيقة أن طاهر أفندي هو الذي صيَّرهُ إنسانًا، ولا أدري ما بغية هذا الرجل من تعضيده.
– لعله يريد أن يزوجه من ابنته.
– أستغفر الله، لا يزوج طاهر أفندي غلامًا كهذا، ولكنه خطب ابنته للدكتور يوسف بك رأفت.
– يعجبني هذا الفتى.
– الفرق بينه وبين حسن كالفرق بين الثريا والثرى، وعلى حديث الزواج أقول لسعادتك إن جل مهمتي الآن أن آخذ منك الكلامَ النهائيَّ بشأن نعيمة، وأرجو أن يكون قولًا باتًّا لا خلف بعده؛ لأني لم أنسَ الفشل الذي لحق بنا في المرة الفائتة.
– لقد باحثتُ الفتاة مرارًا في الموضوع، فلا تزال مُصِرَّة على رفض خليل بك.
– ألم تزل متعلقة بهذا الجاهل الطائش حسن بهجت؟
– كذا يلوح لي مع أنها تظاهرتْ أنها سَلَتْه لَمَّا أخبرناها أنه أخفق في مشروعه.
– وأخيرًا؟
– وأخيرًا، حتمت عليها أن تطاوع إرادتي؛ لأني أَخْبَرُ منها بمصلحتها.
– بالطبع، إذا تُركت الفتاة تفعل على هواها تهورت لا محالة.
– أي نعم، ومع ذلك نحن لا نودُّ أن نُخالف عادات أجدادنا التي جرَوا عليها بعد الاختبار الطويل، وعرفوا أنها أضمنُ العادات لصيانة العفاف؛ ولذلك لا أود أن يكون لابنتي رأيٌ في أمر زواجها؛ لأنها لا تفهم خيرها من ضرها.
– فإذن متى تريد أن نأتي لكي نكتب الكتاب؟
– أيان تشاء.
– أنأتي في آخر هذا الأسبوع مساء الخميس؟
– بعد ثلاثة أيام؟
– نعم.
– لا بأس.
– ليس من الضروري أن تكون الحفلة حافلة.
– كلَّا دعنا في البساطة، ولك حين الزفاف أن تفعل ما تشاء.
وبعد سكوت هنيهة قال حسين باشا: كيف أنت وزينب في هذه الأيام؟
– زينب مرمرت عيشي يا حسين باشا، ولولا الحياء لطلقتها.
– منذ عهد طويل لم تأتِ إلينا؛ لأني في المرَّة الأخيرة وبختها بعنف ولم، أسمع لها كلمة.
– وماذا تجسر أن تقول؟ وأي الأعذار تتمحل؟
– هل تلاحظ عليها أمرًا الآن.
– منعتها عن الخروج مدَّة، وفي الأسبوع الفائت حدث حادثٌ حيرني.
– ماذا؟
– استدعيتها في السهرة إلى المكتب لكي أطلعها على حساب، فما استوت حتى دخل علينا ثلاثةٌ متنكرون مدججون بالسلاح، وجعل زعيمهم يتهددني ويتوعدني بالقتل إذا كنت أواظب على منع زينب من الخروج؛ فجزعت لمباغتتهم الهائلة، ولما خرجوا عدت مع زينب إلى غرفتها وجعلت أستجوبها عن هؤلاء الثلاثة، فأنكرت أنها تعرفهم أو تعرف أحدًا منهم، فحيرني أمرهم وإلى الآن أخاف من غدرهم.
– إن قصتك لهائلة يا عزيز باشا، من كان يظن أن زينب تتصل إلى هذا الفساد.
– كدت أذوب غمًّا يا حسين باشا، فإن هذه المرأة تجرني شيئًا فشيئًا إلى الردى والعار في وقت واحد، تتغفلني بعض الأحيان وتخرج من البيت، ومتى عادتْ أسألها: أين كنت؟ فتقول: في زيارة فلانة أو فلانة، وقد تحريت أقوالها فوجدت بعضها كاذبًا، فأكدت أنها تمضي بعض الأحيان إلى محلات سرية.
– الويل لها هذه الشقية، إنها عارٌ لنا، لا أدري ماذا أفعل بها متى رأيتُها؟ ألا تقدر أن تكتشف سرها مرة فنفاجئها ونقبض عليها متلبسة بالجريمة، وحينئذٍ نعرف كيف ننتقم منها؟
– لقد خطر لي هذا الخاطر فبثثتُ بعض الجواسيس، ومتى اكتشفتُ سرها أُخبرك؛ لكي تبادر معي إلى مفاجئتها، ويغلب في ظني أنها تذهب إلى بيت في الجزيرة فيه غرفٌ سرية.
– يا للهول، سمعت بوجود محل كهذا هناك.
– فكن على استعداد حتى إذا أبلغتُك أنها في ذلك المحل توافيني إليهِ فنقبض عليها.
– وحينئذٍ ليس ينجيها من غضبي شيءٌ، قاتل الله هذه الشريرة الشقية، لا أدري كيف انقلبتْ هذه المرأة، مع أنها كانت مثال الطهارة والعفاف.
– إني أقاسي في عشرتها أمر العذاب يا عدلي باشا، ولا أدري كيف أسلك معها؟
– كن صبورًا فلا بد أن أُذلها تحت قدميك.