الفصل الرابع والثلاثون
بعد منتصف الساعة الرابعة من مساء الخميس كانت مركبةٌ للأجرة واقفة في الشارع الذي يُشرف عليه منزل عزيز باشا، وكان الحوذي كل بضع دقائق يمر أمام باب المنزل المذكور ذهابًا وإيابًا ثم يعود إلى موقفه، وما كادت تنتهي الساعة الخامسة حتى ظهرت زينبُ من باب المنزل الكبير، فدَنَا الحوذي متظاهرًا أنه عابر ولما صار قريبًا منها قال: «آجي يا ست؟» فقالت: «استنَّا» وفي الحال ركبت وقالت: «إلى شارع المناخ نمرة …» فدرجت بها المركبة من شارع إلى زقاق إلى أنْ مرت في زقاق يكاد يكون خلوا من السابلة فوقفت العربة، فانحنت زينب لترى ما الداعي لوقوفها؟ فرأت رجلًا تقدم إليها وقال: زينب، زينب، لا تذهبي إلى دليلة المحتالة وإلا وقعتِ في الفخ.
فأجفلت زينب إلى الوراء واجفة الفؤاد وقالت: رباه! من هذا؟ «سوق يا أسطى.»
فلم يطع الحوذي والرجل أجاب: لا تخافي يا زينب، أنا الرجل الذي وقف نفسه؛ لأجل خلاصك.
– مَن أنت؟
– أنا الرجل الذي طرق بابك ليلًا وحَذَّرَك من شراء طلاقك بنصف ثروتك، وشدَّدَ قلبك ووعدك بالفرج القريب، وأنا هو الرجل الذي خَلَّصَك من أيدي المؤتمرين عليك واختطف الحجة التي أُكرهت على إمضائها، ها هي انظري خط يدك فيها، وكان الوقت مساء والجو مكفهرًّا والشمس تأفل، فلا يمكن أن ترى زينب إمضاءها جليًّا فقال الرجل — وهو طاهر أفندي عفت كما يدرك القارئ — للحوذي: «تقدم إلى قرب المصباح.» فتقدم الحوذي حتى وقع نورُ مصباح الشارع الكبير على العربة فرأتْ زينب الحجة كما رأتها في تلك الليلة الرهيبة ورأت إمضاءها، ولكنها لم ترَ وجه الرجل الذي كان يخاطبها؛ لأنه كان في ظل رأسه فقالت له: ولكن دليلة وعدتني أنها تُريني الرجل الذي وعد أن يخلصني، أفما أنت الذي استوسطتَها للالتقاء بي؟
– إنها لَمُحتالةٌ ماهرة، إنها تخدعك يا زينب فإياك أن تذهبي إليها وإلا أخذتْك إلى أدنس المحلات؛ حيث يقبضون عليك، ويضطرونك أن تمضي صكًّا بمبلغ عظيم أو يثلمون عرضك.
– ويلاه، رباه، وا شقوتي، ماذا تقول؟
– كذا أقول.
– أتصدق فيما تقول أم أنت تخدعني؟
– سواء كنت صادقًا أو كاذبًا فهل يضركِ أن تعودي في الحال إلى بيت عمك حسين باشا عدلي؟ أضرع إليك ألا تذهبي إلى تلك المرأة الشريرة، عودي في الحال إلى بيت عمك لكي يخيب ظن الذين ينصبون لك شركًا دنسًا.
ففكرت زينب وقالت في نفسها: لو كان هذا الرجل يخدعني لَمَا كان يرجو مني أن أذهب إلى بيت عمي حيث أنجو من الشرك، بل كان يحاول أن يأخذني إليه، ثم قالت: يا الله، من ينصب لي هذا الشرك؟
– زوجك.
– وامصيبتاه! بربك، قل لي من أنت؟
– ليس الآن، اذهبي إلى بيت عمك «سوق يا أسطى.»
فحرك الحوذي العنان فانتهرتْه قائلة: «استنَّا» ثم قالت لطاهر: بربك أخبرني مَن أنت؟
– لا يليق بنا أن نقف في قارعة الطريق فهل تُريدين أن تقفي معي دقيقة في منزل قريب.
فترددت زينب في بدء الأمر، فقال لها: إذا كنتِ في شك مني فلا تفعلي، بل عودي حالًا إلى منزل عمك.
– كَلَّا، لا أشك بك، أذهب معك دقيقةً واحدةً.
فركب إلى جانبها وفي بضع ثوانٍ كانت المركبة لدى منزل طاهر أفندي وفي الحال دخلا توًّا إلى غرفة طاهر، وكانت زينب هالعةَ الفؤاد حياءً ومخافة أن يراها من يعرفها، ولكنها لم توجس شرًّا من طاهر؛ لأنها أنست للهجة كلامه.
وحالما دخلا الغرفة قرع طاهر جرس التلفون، وطلب نمرة ١٩٧.
فأُجيب في الحال فسأل: مَن، فقيل له: بيت حسين باشا عدلي فسأل: هل الباشا في البيت؟
– نعم، من أنت؟
– لا يهمك أن تعرف من أنا، وإنما قل لسعادة الباشا أن يذهب إلى الجزيرة في الحال إلى المكان المعهود حسب الاتفاق أمس، لا تسألني شيئًا، قل للباشا: أن يمضي في الحال.
وبالطبع لم تسمع زينب من هذا الحديث إلا كلام طاهر فخفق قلبها؛ لأنها لم تفهم معناهُ، فقالت: مَن كلمت؟
– عمك حسين باشا، قصدتُ أن يذهب إلى الجزيرة حيث ينتظر المؤتمرون قدومَه إلى هناك؛ لكي يمسكوكِ في عار، وسيذهب عمك إلى هناك فلا يجدك؛ إذ تكونين في منزله.
– رَبَّاهُ ما هذه الألغازُ التي أراها، في منزل من أنا؟
– لا تخافي يا زينب، إنك في منزل صديق قديم.
– لا أذكرك قط، ذَكِّرْنِي، متى عرفتني؟ لا أذكر أني أعرف أحدًا.
– أنا أول من عرفتِه يا زينب.
– بربك، لا ترعني يا هذا قل لي: من أنت، ما اسمك؟
– لا ترتعبي يا زينب؛ إنكِ أمام ملاكك الحارس لا تخافي، لا يجسر النسيم أن يمسَّ منك ذرة.
وكانت زينبُ جالسة على كرسي وطاهر واقفًا على بعد منها، ثم قال: أَلَا تذكرين أيام صباك يا زينب؟
فانتفضت زينب جزعًا، وقالت: تفكرني بأيام صباي؟
– يظهر أنك تُريدين أن تنسي حبيبك الأول.
– أخيالٌ أنت أم بشر، إن حبيبي الأول يطوف في عالم الأرواح الآن.
– كَلَّا، بل هو في عالم الأجساد.
ثم كشف ردنه عن ذراعه اليمنى، وأراها ساعدهُ موشومًا عليه اسم زينب وقال لها: لا بد أنك تذكرين جيدًا هذه الذراع التي وشمت باسمكِ رمزًا لهذا القلب (وأشار إلى قلبه) الذي تَطَعَّم بحبك.
فانثنت زينب إلى يسارها ورفعت كفها إلى وجهها كأنها تحجبه به، وقالت: رباه، من أرى أشاكرًا أرى؟!
– نعم، ترين شاكر بك نظمي يا زينب، فاطمئني.
– يا الله، هل قام من بين القبور؟
– لم يزل حيًّا يعيش بحبك.
– فنظرتْ إليه راجفة قائلة: رحماك يا شاكر رحماك إني أثمت إليك، ولكني عوقبتُ على إثمي قدر ما أستحق فهل تُسامحني؟
– لم أعد إلى مصر متنكرًا لكي أُدينك يا زينب، بل لكي أُخلِّصك من أيدي الظَّلَمَة، فقد عرفتُ كل حادثة من تاريخ حياتك في حينها، كأني كنت في مصر، فاعلمي أن فرجك قريب وبعده نتحاسب.
– ويلاه أتريد أن تنتقم مني؟
– معاذ الله.
عند ذلك نهضت زينب من مكانها وارتمت عند قدمي طاهر — أو بالأحرى شاكر — وقالت: إني بين يديك، فكُنْ أنت إرادتي.
– يجب الآن أن تمضي إلى بيت عمك، وتمكثي هناك حتى يعود، وبعد ذلك تحذري من عزيز ما استطعتِ، ولكن لا تُظهري أنك موجسةٌ منه شرًّا.
نزلت زينب تتنازعها عوامل الدهشة والخوف والفرح والأمل بالخلاص، وركبت المركبة والحوذي أخذها توًّا إلى أمام منزل حسين باشا عدلي عمها، فدخلت إلى دار الحريم كزائرة.
وكان قبيل وصولها أن حسين باشا ركب مركبته وقصد توًّا إلى الجزيرة وهو ينتفض من الغضب؛ لظنه أن زينب أُمسكت هناك، فلما دخل استقبلهُ عزيز باشا، فقال له: هل هي هنا؟
– لم تأتِ بعد مع أنها خرجتْ قبلي من البيت، فلا أدري أين ذهبت؟ لعلها تصل قريبًا! من قال لك أن تأتي؟
– أَمَا أنت الذي تكلم بالتلفون، وقال إنه يجب أن أعجل بالمجيء؟
– كلَّا! لعل خليل أخي كلمك، ولكنه تسرع؛ لأني كنت أود ألا تجيء إلا وهي هنا.
– لعلها ذهبت إلى مكان آخرَ.
– يستحيل؛ لأني مؤكد أنها قادمة إلى هنا.
– إذن إلى أين عرجت؟
– من يدري؟
وبعد تذمُّر قليل قال عدلي باشا: إني راجعٌ، فإذا أتتْ تستدعيني تلفونيًّا، فأحضر.
ولما عاد حسين باشا إلى منزله قيل له: إن زينب في دار الحريم فسأل: متى أتتْ؟ فقيل له: إنها أتت على إثر خروجه، فحار في أمرها، وخطرتْ له عدةُ أفكار منها أنها قد تكون بريئة ومتهمة زُورًا، وقد يمكن أنها شعرتْ بأن العيون عليها بالمرصاد، فعدلتْ عن قصدها السري ولجأتْ إلى منزله؛ لكي تُغيِّر الظنون السيئة. وحاصل القول أنه لم يُقابلْها ولا طلب مقابلتها، بل آثر السكوت.
أما عزيز باشا فلَمَّا ملَّ الانتظار في الجزيرة، ودليلةُ لم تأتِ لا بزينب ولا وحدها حَارَ في أمرهما، وخطرت له أفكارٌ متضاربةٌ، فخرج وقَصَدَ توًّا إلى منزل دليلةَ، فوجدها، فقال لها: أين أنتما؟!
– لم تأتِ زينب.
– عجيب! كيف ذلك؟ لقد خرجت من المنزل الساعة الخامسة تمامًا، فأين ذهبت؟
– لا أدري! لم أزل منتظرة إلى الآن، ولما استبطأْتُها ظننتُها لن تأتي اليوم.
عاد عزيز باشا إلى البيت وسأل عنها، فقيل له: إنها لم تعد منذ خرجت فتضاربتْ ظنونه فيها، وتَمَنَّى أن تكون قد زاغتْ لكي تُثبت دعواه عليها لدى عمها حسين باشا عدلي فيغضبه عليها، ولكن خطر له في أول الأمر أن يسأل عنها في بيت عمها فسأل: وعلم أنها هناك، فخَطَرَ له أن تكون قد عدلت عن الذهاب إلى دليلة كما تواعدتا؛ لشكِّها فيها.
سأل: عما إذا كان أحدٌ كلم حسين باشا عدلي بالتلفون من المنزل؟ فقيل لم يتكلم أحدٌ قط، ثم بحث عن أخيه، فوجده، فسأله هل خاطب حسين باشا في التلفون أن يذهب إلى الجزيرة؟ فقال أخوه «لا» فتحير عزيز وقص على أخيه ما كان، فقال: لا بد أن يكون أحدٌ قد اطلع على الدسيسة، فحَذَّرها، وأوعز إلى حسين باشا أن يذهب إلى الفندق بنفسه فلا يجدها هناك، فتثبت له براءتُها بدل خيانتها.
من يا ترى يفعل ذلك ونحن نكتم كل أمر ونبالغ في الحرص على أسرارنا؟
– إما أن زينب نفسها شعرتْ بالدسيسة، فتخلفتْ أو أن دليلة خَانَتْنَا، فيجب أن نتحقق المسألة جيدًا.