الفصل الرابع
بادأتُها بالكلام قائلًا: فكرت أمس واليوم يا نعيمة بأمر مستقبلي، وكان حبك يشدد عزيمتي ويرفع همتي وينير ذهني، وافتكرتُ أني إنسان كامل الجسد والعقل كسائر الناس، وأن أولاد الكبراء لا يمتازون عليَّ بشيء سوى المال، وأن الذين نبغوا في الدنيا نبغوا بجهدهم وسعيهم، فماذا يمنع من أن أنبغ وأبلغ درجة الكبراء؟
– لا شيء يمنعك إذا صمَّمتَ وكنتَ صادق العزيمة، فماذا عزمتَ أن تفعل؟
– افتكرتُ بكل المهن والحرف، وتأملتها بنفسي فتراءى لي أَنَّ لصناعة المحاماة مستقبلًا زاهرًا. أما سمعتِ أن محاميًا كسب في قضية لأحد المُثْرِين ألفَي جنيه دفعة واحدة، وأن هذا المحامي يجمع الآن ثروةً طائلة؟ فمكاسب هذه الصناعة وافرةٌ جدًّا إذا كان صاحبها نابغًا فيها، وإني أرى الناس يُجِلُّون المحامين في هذا الزمان كأهم أعضاء الهيئة الاجتماعية؛ ولذلك افتكرتُ أن أمضيَ إلى أوروبا، فأدرس المحاماة، وأعود أُجاهد بين أهل هذه الصناعة، فإن أفلحتُ وارتقيت شأنًا وجمعت مالًا؛ أقدمت على طلب يدك بقلبٍ قويٍّ، وإلا آثرت الموت على الحياة.
– أرى أنه فكرٌ حسنٌ جدًّا يا حسن، وإنفاذهُ ميسور.
– أما أنهُ حسن فلا أظن أنهُ يوجد أحسنُ منه، وأما أنهُ ميسور فلا. لأنك تعلمين أن أبي ليس مثريًا ولا له موردُ رزق غزير لكي يتسنَّى له أن ينفق عليَّ في مدة دراستي في باريس، إلا إذا باع العقار الزهيد الذي اقتناه بعد جهد طويل في خدمة أبيكِ. هنا العقدة.
– فماذا تفعل إذن؟
– سأجتهد بأن أُقنع أبي بأن يبيع عقاره ويعلمني، وإلا فأبحث عن طريقة أُخرى.
– أتظنه يوافقك على هذه الفكرة؟
– إني ضعيف الأمل جدًّا يا نعيمة؛ لأن أبي من أهل الجيل الفائت، قَلَّما يدرك أهمية مشروعي، ولا يعتقد أني أهل له؛ لأنه يظن أن عملًا كهذا لا يليق إلا بأبناء الذوات. وزِيدي على ذلك أنه لا يثق بفَلَاحي إلى حد أن يجازف بعقاره القليل الذي صرف معظم حياته في العمل حتى اقتناه.
– إذن لم تزل أمامنا كل العقبات يا حسن، وهِمَّتك التي علَّقْت عليها كل الأمل لا تكاد تفيد شيئًا فما العمل؟ إنك علقتَ قلبي ورميتني في بحر اليأس.
– ثقي بي يا نعيمة إني أفرغ كل قواي وأطرق كل باب من أبواب النجاح، فعِدِيني أن تُحافظي على حبي وعلى قلبي ولا تنبذيه مهما غَرَّكِ جاهُ غيري وغناه، وأنا أعدك أني إذا لم أُبلغك أمنيتك في عهد شبيبتي فلا أُبقي على حياتي. أنا الآن في السابعة عشرة وأنتِ تدنين من الخامسة عشرة وصبر بضع سنين ليس أمرًا جليلًا لحديثين مثلنا. فهل تعاهديني يا نعيمة على الحب الثابت والوفاء؟ فأطرقت خجلة ولم تنبس ببنت شفة.
فقلت لها: هاتي يدك يا نعيمة وعاهديني، إن كنتِ واثقة بصدق عزيمتي لا أدعكِ تصبرين على هذا العهد طويلًا، بل يمكنك أن تعرفي طوالع مستقبلي وصدق آمالي في منتصف هذا الأجل. بعد بضع سنين تقدرين أن تحكمي من نفسك على ما إذا كان في وسعي أن أحقق أملك أو لا. ثم تناولت كفها بكفي وهي ترتجف وعلمت من عدم ممانعتها لي أنها راضية بالعهد، فقلت: إني لك يا نعيمة كل حياتي ولأجلك لا أدخر جهدًا في سبيل الفلاح والسعي إلى العلى، فهل تعاهدينني أن ترفضي أي طالب غيري قبل أن ينقطع الأمل من نجاحي؟
فتمتمت قائلة: إني لك كل حياتي.
وعند ذلك افترقنا وكلانا كتلةُ آمال عجيبة.
ولا أخفي عليك أني كنت إلى ذلك الحين أتعلم في المدرسة بالرغم من إرادة أبي؛ لأنه كان — رحمه الله — لا يرى للعلم قيمةً أو فائدة إذا خرج عن دائرة العلوم الدينية، فتعلمتُ في المدرسة بعض العلوم الابتدائية وشيئًا من الإفرنسية بحيث صرت أفهمها وأعبر عن أفكاري البسيطة فيها، وكان في نية أبي أن أترك المدرسة عامئذٍ وأتوظف كاتبًا في دائرة حسين باشا بماهية جنيه أو أكثر قليلًا، أو أن أتعلم صناعة كالنجارة أو الخياطة أو نحوهما، وكان يحسب أن المزيد من تعلُّمي أصبح بلا فائدة وما هو إلَّا إضاعة وقت.
ولأجل ذلك تعذَّر علي جدًّا أن أُكاشفه رأيه في مشروعي الجديد؛ أي العزم على دراسة الحقوق؛ لأني كنت متأكدًا تمام التأكُّد أنه يستجهلني. على أني لم أرَ بُدًّا من مفاوضتهِ بهذا الأمر؛ لكي يكون على علم بما أفعل، فجرَّأتُ نفسي وباحثتهُ، فأبى أن يسمع تفصيل الأمر لما علم بخلاصته وقال: «ما نحن أبناء باشاوات حتى تدرس في أوروبا وما نحن أهلًا لتقلُّد المناصب العالية» فرجوت منه أن يَدَعَنِي أفعل ما أشاء إذا أبى أن يمد لي يد المساعدة، فأبى أيضًا قائلًا لي: «يجب أن تكتفي بالذي تعلمتَه؛ فإنه أصبح كثيرًا عليك، وينبغي لك الآن أن تشتغل، وها إني أترجى سعادة الباشا أن يقبلك بين موظفي الدائرة، فتكون فيها كاتبًا معزوزًا مكرَّمًا يحسدك جميع رفاقك على وظيفتك.»
فقلت له: دعني يا أبتِ لنفسي سنتين أو ثلاثًا، فإذا وجدتَني ضالًّا عن سواء السبيل فتولَّ قيادتي؛ فأنت في غنًى عن عملي — والحمد لله — فاتركني لتدبيري، فأدار وجهه مستاءً مني، وبعد ذلك تعبت جدًّا في استرضائهِ، ورجوتُ منه أن يمهلني برهةً، فإن لم يعجبْهُ مسعاي فعلت ما يري. وبعد اللُّتَيَّا والتي تركني لنفسي راضيًا عني بعض الرضى.
أما ما عزمت على أن أفعله بعد ما تفكرت مليًّا فهو أن أُستخدم في مكتب محامٍ، وقد أمَّلتُ أن أعجب المحامي فيدفع لي راتبًا لا تدفعه لي دائرة حسين باشا عدلي ولو قضيت فيها عشر سنين، وأن أدخر راتبي في سنتين أو ثلاث وأنفقه على تعلُّمي المحاماة، هذا من جهة النفقة. أما من جهة التعلُّم فعزمت على أن أدرس في أوقات الفراغ، وأمارس الإجراءات؛ لكي تسهل عليَّ دراسة الفن، وقد نبَّهني إلى هذا الأَمر ما كنت أعرفه عن شاب مُستخدَم عند محامٍ فكان راتبُه في السنة الثانية نحو ستة جنيهات، فقلت في نفسي: ما يمنع أن أكون كهذا الفتى في المستقبل القريب؟ وقد عملت ميزانيتي هكذا:
جنيهات | |
---|---|
٠ | في الستة أشهر الأولى أُستخدم مجانًا |
٦ | في الستة أشهر التالية يكون راتبي جنيهًا كل شهر |
٣٦ | في السنة الثانية يكون راتبي ثلاثة جنيهات شهريًّا |
٧٢ | في السنة الثالثة يكون راتبي ستة جنيهات في الشهر |
١١٤ | |
١٤ | أنفق منها نفقات نثرية |
١٠٠ |
يبقى لي مائة جنيه أنفقها في سنتين في باريس على درس الحقوق، فانظر ما أجهلني، كنت أظن أن خمسين جنيهًا تزيد على نفقتي هنا!
وقد جريت على هذه الخطة، فقدمتُ نفسي إلى أحد المحامين فقُبلت مجانًا، وجعلتُ أجتهد في إتقان كل عمل أُكَلَّف به، ومن حسن التوفيق أن ذلك المحامي صادف في ذلك العام إقبالًا غريبًا، فكان يحتاج إلى خدمتي في أكثر الأحيان، فكنت ألبِّيه حتى أعجبته جدًّا. وفي الشهر الثالث عَيَّنَ لي جنيهًا راتبًا شهريًّا، ففرحت جدًّا بالنجاح العاجل الذي لم أكن أنتظره، وتوسمت خيرًا. وفي الشهر السادس وجدت أني أنفع المكتب بأعمالي فطلبت زيادة المرتب، فزادني المحامي جنيهًا، وحينئذٍ رضي عليَّ أبي؛ إذ شعر بنجاحي، وبدأ يُدرك حسن مستقبلي، وصرت أُحسن بسهولةٍ إقناعَه بأن يساعدني في الإنفاق على تعلُّمي المحاماة، وكنت أصرف أوقات الفراغ بدرس الإفرنسية وإتقانها استعدادًا لدراسة الحقوق.
وما انقضى العام حتى أُصيب أبي بحُمَّى شديدة قضت عليه عاجلًا، فحزنتُ عليهِ حزنًا شديدًا — بالرغم من وقوفهِ عثرة في سبيل مستقبلي — ولَمَّا كنت وحيدًا له ورثتُ الأفدنة القليلةَ التي اقتناها في حياتهِ وبعتُها من دون أن أستأذن أُمي، وتركت لها نفقتها وأتيت إلى هنا لكي أدرس الحقوق — كما تعلم — وها أنا الآن في السنة النهائية لدراستي.
وقبل أن آتي إلى هنا اجتمعت بنعيمة وأطلعتُها على مشروعي وما نويتُ أن أفعلهُ في المستقبل فَسُرَّتْ جدًّا، وجددتْ عهدها معي، وأقسمتْ أنها لا ترضى بسواي مهما كانت حالة من يطلب يدها حسنةً. هذا مجمل قصتي مع نعيمة أيها العزيز يوسف، وأنت تعلم أن نعيمة من نوادر أترابها، فحصولي على نعمة رضاها توفيقٌ غريب، فإذا كان خليل بك مجدي يُنازعني إياها فكأنه ينازعني حياتي.