الفصل الخامس
– إني أحس معك يا عزيزي حسن، وأدرك حَرَجَ موقفك، ولكن إذا كنتَ ضامنًا رضى نعيمة وواثقًا من عهدها، فلماذا تحسب حسابًا لمنازعة خليل إياك؟
– ألا تذكر أنه قال: إن حسين باشا وعد أباه حامد باشا حسني قبل وفاته أن يزوجها له متى عاد من أوروبا بشهادة الهندسة، وأنت تعلم أن خليل بك يعود في هذا العام معنا، فإذا أَصَرَّ عدلي باشا على أن يزوج ابنته بخليل فماذا تفعل وأي قوة لعهدها؟ هذا ما أخاف منه يا يوسف، مهما كانت نعيمة وفيَّة لي فما هي إلَّا فتاة، والفتاة تحت سلطة ولي أمرها المطلَقة، وإذا غدت نعيمة زوجة لخليل فلك بعدي العمر الطويل.
فتأمل يوسف بك برهة وهو يلاهي نفسه بتقليب كتاب بين يديه، ثم رفع نظره إلى حسن وقال: إني أشعر بحرج موقفك يا حسن وأقول: ليتك لم تعرف نعيمة؛ لأن منازعك خصم شديد وأهلهُ ناس أشدَّاء البأس لا يصلى لهم بنار، وأنت لا سلاح لك لمقاومتهم إلا حب نعيمة لك وهو سلاح ضعيف جدًّا لا يكاد يفيد، بل يُخشى أن يستعمل ضدك، فلقد حِرْتُ بماذا أنصحك وأنت في هذا الموقف الحرج؟ وكيف أقدر أن آخذ بيدك في قصدك هذا؟ على أني أقول لك: «دع التقادير تجري في أَعِنَّتِها» ومتى حان حينُ النزاع؛ ترى ماذا تفعل؟ ومع ذلك يجب أن تحذر تمام الحذر من منازعك يا حسن؛ فإنهُ أقوى منك مالًا وجاهًا ونفوذًا.
– هذا ما لا أجهلهُ يا يوسف؛ ولهذا تراني أفتكر دائمًا بمشروعات مختلفة بِنِيَّة أن أدرسها عسى أن أنفذها فأكسب منها كسبًا وافرًا يقدرني عاجلًا على أن أظهر بمظهر الكبراء، وأقدر أن أنازع خليل منازعةَ القويِّ.
– بأي شيء تفتكر مثلًا؟
– لعلك تستجنُّني إذا سردتُ لك شيئًا من الأفكار التي تخطر لي؛ لأنك إذ قابلتَها بي تجدني شيئًا حقيرًا بالنسبة إليها، ولكن إذا كانت لك ثقة الرجل الحزوم بنفسه لا ترى شيئًا عظيمًا علينا. وما الأفراد الذين قاموا بالمشروعات الجِسام إلا بشرٌ مثلنا، وإنما امتازوا عن سواهم بأشياءَ زهيدةٍ في حقيقتها عظيمة في نتيجتها، وهي الإقدامُ والثبات والاستبصار، فإذا كنت تعتقد أن العظيم لا يكون إلا ابن العظيم، وأن الحقير في دنياه حقيرٌ في عقله وعزمهِ وعملهِ، فلا داعي لأن أبسط لك شيئًا من آمالي.
– عجيب يا حسن! متى كنت أستخف بآرائك حتى تَستهلَّ حديثك الجديد بهذه المقدمة؟ ولماذا تفترض أني أعتقد بأن الرجال العظام لا يكونون إلا من سلالة عظام؟ لم يقم بين البشر أعظمُ من نابليون مع أنه من سلالة كورسيكية تكاد تكون خاملة الذكر، فهات ما عندك.
وعند ذلك كشف يوسف بك ساعتَه، فوجدها قد تجاوزت العاشرة، فقال: لقد فات موعدُ الذهاب إلى الكومدي فرنسيز، فدعْنا نقضي بقية سهرتنا هنا؛ فإني أستلذُّ البحث بالمواضيع الجدِّية، فقُلْ ما تريد أن تقول.
نحن الطلبة المصريين، نقضي في هذه البلاد وفي بعض ممالك أوروبا ردهًا من الزمان يكفي لدراستها والاطلاع على أسرار رُقِيِّهَا ونجاحها، إذا وجهنا نظرنا إلى هذا القصد، ولا يخفى عليك أن أوروبا الآن مثالُ العمران ونموذجُ التقدُّم بالرغم مما يعتور تمدُّنها من المفاسد، وسائر العالم يمشي الآن في تمدُّنه على خطوات أوروبا ويحذو حذوها بالرغم منه، رضيَ أُناسهُ أوْ لم يرضَوا، ومِصْرُنا في جملة الممالك الشرقية الجارية في هذا المجرى أيضًا، فكل ما نراه من محاسنِ المدنية ومحامد العمران سنقتبسهُ شيئًا فشيئًا على أيدي أُناس مختلفين، غالبهم من الأجانب، فلماذا لا يقتبس شيء من ذلك على يدنا نحن الذين نختبر الأحوال هنا بأنفسنا، وندرس مزايا المدنية على مهل زمنًا ليس بقصير؟ بل لماذا نقضي الوقت في باريس هذه أم الدنيا ولا ندرس جميع محاسنها، ونقتبس منها لبلادنا ما نستطيع اقتباسهُ فننتفع وننفع البلاد في وقت واحد؟
– صوابٌ ما تقول، وما هي إلا غفلة منا، ولا ريب أننا إذا بَقِينا غافلين سَبَقَنا الأجانبُ إلى جميع مواردِ الرزق ومصادر الكسب في بلادنا، وقد سبقونا إلى جانبٍ كبير فيما مضى، فلماذا ندعهم يسبقوننا إلى الباقي.
– هذا ما أُريد أن أقوله.
– وماذا خطر لك أن تقتبسهُ من مزايا المدنية التي هي موردُ كسب لمقتبسيها؟
– لا يخفى عليك أننا الآن في عصر الكهرباء، وللكهرباء مستقبل مجيد، ولسوف ترى أنها مستخدَمة في أشياء كثيرة، فلماذا لا نستخدمها نحن في بلادنا كما يستخدمها أهل أوروبا؟
– مثلًا.
– خذ النور مثلًا. لماذا لا نسعى بتأليف شركة في مصر لإنشاء النور الكهربائي فيها وتوزيعه على المنازل والحانات … إلخ؟ ولا ريب عندي أن شركة تتألف لهذا الغرض تصادف إقبالًا من الجمهور وتربح أرباحًا باهظة.
ففكر يوسف بك هنيهة ثم قال: مشروع حسن ولكن أمامهُ عقبات.
– لا أنكر أن أمامهُ عقبات، ولكن لا بدَّ من درسهِ، حتى إذا ظهر أن منافعه أوفرُ من متاعبهُ جُعِلَ في حيِّز الفعل، فما ظنك بالعقبات التي تعترضه؟
– أولًا أن شركة الغاز في مصر تنافسهُ، فلا يقدر أن يُنازعها الرواج والانتشار؛ لأنها أقدمُ منه وأقوى؛ ولأن نفقة الغاز أقل من نفقة الكهرباء فلا يمكن لشركة الكهرباء أن تبيع نورًا أرخص من نور الغاز إلَّا إذا انتشرت انتشارًا متسعًا.
فقاطعه حسن قائلًا: لا بأس دعنا من نور الكهرباء، فما قولك بإنشاء شركة لترام كهربائي في شوارع القاهرة والإسكندرية؟
– ففكر يوسف هنيهة، وقال: إن نجاح هذا المشروع أكثر احتمالًا من مشروع النور الكهربائي؛ أولًا: لأن مصر مدينة كبيرة مترامية الأطراف ولا غنًى للناس فيها عن الانتقال من طرف إلى طرف، أو على الخصوص من أطرافها إلى مركزها الأوسط؛ حيث معظم الحركة والاحتكاك والتواصل في المعاملة. والمشيُ مسافات طويلة — ولا سيما في الصيف — يكاد يكون تهلُكة، فلا ريب عندي أنه إذا جرى الترام في أهم شوارع المدينة وكانت الأجرة زهيدة، لا بدَّ أن يصادف إقبالًا، وإذا لم تكن أرباحهُ إلا ما يربحهُ الحمَّارة وأصحاب الأمنبوس وجانب من العربات فحسبهُ وكفى.
– بل إني أؤكد لك أن أرباحهُ تكون أضعاف ذلك إذا كانت الأجرةُ زهيدة، بحيث يسهل على كل فرد أن يدفعها، ولا يخفى عليك ما ينجم عن ذلك من سرعة الحركة العملية في المدينة؛ إذ يسهل على الناس التنقُّل.
– والله إنه لفكر حسن جدًّا يا حسن ولكن …
– لكن ماذا؟
– لم تدعني أن أذكر لك السبب الثاني الذي يحول دون نجاح شركة النور الكهربائي فالآن أذكره لك؛ لأنه سبب عامٌّ يحول دون كل شركة؛ وهو عدم إقبال الوطنيين على إنشاء الشركات والاكتتاب بها، فإذا أنشئت هذه الشركة لا تجد أحدًا من أغنيائنا يثق بصحة عملك لكي يشترك معك فيه مجازفًا بماله.
– هذه العقبة لم أغفل عنها يا عزيزي يوسف، ولا أجهل أن ارتقاءها يحتاج إلى عزم صادق وهمة قعساء وجلد عجيب في السعي والإقناع بحسن مزايا المشروع، ولكني إذا وقفت إلى اثنين أو ثلاثة مثلك يرعوون ويفهمون خلاصة درسي للمشروع وكانت لهم الجراءَة على بذل المال له، فإني أذكر لك أن بقية المتمولين متى رأوا الاثنين أو الثلاثة من المتمولين الوجهاء أقدموا على المشروع تبعوهم فيه — بحكم الغيرة — ولو عن غير فهم لما ينتهي إليه.
فأول خطوة أخطوها في هذا العمل العظيم هي أن أدرس المشروع جيدًا، وسأغتنم فرصة الصيف القادم للطواف في بعض عواصم أوروبا؛ حيث أزور مكاتبَ شركات الترامواي والنور الكهربائيين وغيرهما من الشركات التي يتراءَى لي أنها لازمةٌ لبلادنا، وأدرس أحوالها وأقف على كل ما يمكن الوقوف عليه من إحصائياتها. ثم اجتهد أن أطبِّق ذلك على مصرنا، فإن توسمت خيرًا بعد ذلك الدرس والبحث وضعت تقريرًا ضافيًا في المشروع وعرضتُه على كبار أغنيائنا الذين أتوسم فيهم الفِطنة والفَهم، وحينئذٍ أبذل كل ما عندي من قوة الإقناع، فإن أفلحتُ فخيرٌ، وإلا تيقنت أن الأمة في سُبات عميق ولا حياة لمن تنادي.
وكان يوسف بك حينئذٍ يتأمل حسن ويذرعه بنظره من قدميه إلى قمة رأسهِ وكأنهُ يقول في نفسهِ: أفي هذا الجسم الصغير والعمر الحديث يوجد هذا الفكر العالي وهذا الإقدام العجيب وهذه النفس العظيمة؟ وبعد ما تأمله هنيهة قال: إني أرجح فوزك يا حسن، فأقدمْ وأنا معك.
– نعم إذا كنت يا عزيزي يوسف ذا ثقة بنفسك، وتعتقد أن ما يفعله كبراء الأجانب في بلادهم — وغيرها — ليس من أعمال الآلهة وإنما هو عمل بشري في مقدور كل بشر ذي همة وإقدام وبصيرة. إذا كنت تعتقد ذلك فلا تتوقع إلا الفوز والنجاح لمشروعنا.
فنظر يوسف إلى حسن — مبتسمًا — وقال: يا لله ما أعظم فعل الحب! لَعمري لولا عهودك المقدسة لنعيمة لَما كنت أجد فيك هذه العزيمة العجيبة — على ما أظن.
– لا أنكر عليك أن حبي لنعيمة يدفعني إلى ركوب متن الشدائد والعظائم ويصوِّر لي المستحيلات ممكنةً، على أن هذا الحب الجليل لم يُفقدني عقلي بل أزكى نار ذكائي، فلا أدَّخر جهدًا في سبيل الصعود على سلم العلى؛ لكي أعجب عدلي باشا وأكون فخرًا لنعيمة، بحيث إنهما يؤثرانني على أيِّ طالبٍ آخر.
– ولكن لا تنسَ يا حسن أن مُنازعك شديد البأس بأهلهِ، فأخاف أن يفوز عليك.
– يستحيل أن يفوز إذا أصرَّت نعيمة على أنْ لا تقبل يد طالب كما عاهدتْني سرًّا، ولا سيما إذا كان حسين باشا كما نعرفهُ يحب ابنتهُ ويعقل الأمور جيدًا ويدرك عاقبة الإكراه، وقد جددت نعيمة ذلك العهد معي في العام الغابر لَمَّا عدتُ إلى مصر في فصل الصيف لكي أشاهدها وأُطْلعها على أخبار نجاحي، وإذا لم أفز بآمالي قبل ذلك الميعاد فلا أكون مستحقًّا ليد نعيمة، وفي هذه الحالة أنفي نفسي من هذا الوجود وأدعها تنعم بمن اختاره الله زوجًا لها.
– إني أفضل جدًّا أن تكون أنت نصيب نعيمة يا حسن، ولكني أخاف عليك من مُنازِعك — كما قلت لك — فأحذِّرك منه.
– لقد أثرت ظنوني يا يوسف بهذا التنبيه المتكرر، فهل هناك من سبب يوجب هذا التنبيه؟
فحاول يوسف أن يغالط حسن في ظنهِ قائلًا — بلهجة باردة: كلَّا لا شيء، وإنما أقول لك: إن التنازع في مثل هذا الموضوع يفضي — غالبًا — إلى مغبات محزنة.
– لا بد أن يكون في المسألة سر فلا تخفِ علي يا يوسف شيئًا له مساس بي؛ لئلا يحصل لي أذًى بسبب إخفائه، اللهمَّ إلَّا إذا كان الأمر سرًّا يتعذَّر عليك أن تبوح به.
– لا أخفي عليك — وأنت الصديق الحميم — أن هناك سرًّا جليلًا هائلًا قد يكون له مساسٌ بعلاقتِك مع نعيمة، في حين أن خليل بك يعد قلبه بقلبها؛ ولذلك أؤثر أن أسرِّه إليك؛ لكي تكون على بينة من أخلاق خصمك وخفيات قلبه وثبات ذوي قرباه، وأنت تعلم أن خليل بك وأهله أصدقائي، ولكني في الحقيقة لا أسكن لصداقتهم ولا أرضى عن أعمالهم الخفية، ولا أجسر — من الجهة الأخرى — أن أتظاهر بالعداء لهم، بل أداريهم؛ اتقاءً لشرهم.
– إني لا أعرف هؤلاء القوم إلا معرفةً سطحية، وإذا لم يكن بد من مناظرتهم لي فلا بد لي من الاطلاع على جميع أخبارهم وأحوالهم، واكتشاف ما يمكن من أسرارهم، فإن كنت تروي لي ما تعرفه عنهم تخدمني خدمةً جليلة يا يوسف.
– لا أضنُّ عليك بشيء، فاسمع حكاية سرِّية أُسرِّها إليك وأرجو أن تُقسم لي بأن تكتمها.