الفصل السادس
قال أقص عليك هذه الحكاية السرية يا عزيزي حسن؛ لأن بدءها يشبه بدء قصتك مع نعيمة؛ ولهذا أخاف أن تنتهي حالتُك كما انتهت الحالة في قصتي.
– هات، لنرى.
– هل تتذكر فتًى يُدعى شاكر بك نظمي بن إبراهيم باشا خيري.
ففكر حسن هنيهة، وهز رأسهُ، وقال: كلَّا لا أذكر أحدًا بهذا الاسم، فمن تَعني؟
– لا. لا أنتظر أن تذكرهُ؛ لأنك كنت صغيرًا جدًّا حينئذٍ، ولم يكن لك اختلاط بأمثالهِ، كم عمرك الآن؟
– نحو العشرين.
– عجبًا. إن الذي يراكَ يظنك في الرابعة والعشرين! فقد كنتَ إذن حينئذٍ في الثامنة من عمرك، وكنت أنا في السادسة عشرة من عمري؛ لأنه قد مضى على الحادثة نحو اثني عشرة سنة تقريبًا.
– ماذا تعني بقولك حينئذٍ؟
– أعني بها يوم فرَّ هذا الفتى الذي أكلمك عنهُ.
– ما قصتهُ؟
– كان شاكر هذا فتًى في ريعان الشباب، وكان يشبهك في بعض الأخلاق، وربما تشابهتُما في المزاج، بيدَ أنه كان أرق منك جسمًا، وكنت أعرفهُ جيدًا كما أعرفك، وكان صديقي كما أنك صديقي، وهو لا يكبرني بأكثر من سنتين أو ثلاث سنين.
كان هذا الفتى مغرمًا بزينب ابنة حمدي باشا رفعت الذي كان من بعض المقربين لإسماعيل باشا الخديوي الأسبق، وهو — كما لا يخفى عليك — ابن عم حسين باشا عدلي.
– نعم نعم، سمعت شيئًا عن الموضوع، سمعت أن فتًى طلب يد زينب من أبيها، ثم ظهر أنه مجرم ففرَّ، نعم سمعتُ أطراف هذه الحكاية في عهد حداثتي، ولكني لم أكن حينئذٍ لِأَعْبَأَ بها.
– وكان عزيز باشا نصري — وحينئذٍ كان بك — أخو خليل بك مجدي مناظرك يطلب يد زينب أيضًا لا حبًّا بها، بل طمعًا بميراثها العظيم؛ لأنها الوارثة الوحيدة لحمدي باشا رفعت أبيها؛ إذ لم يكن له بنون ولا أقارب سواها، أما زينب فكانت تحب الفتى شاكر بك نظمي؛ لأنه أجمل من عزيز باشا وجهًا وأوفر عقلًا وأرقى أدبًا. وهي — كما لا يخفى عليك — من نادرات أترابها في عقلها وآدابها وجمالها، بل هي أفضل امرأة عندنا في آدابها.
على أن أباها المرحوم حمدي باشا كان صديقًا حميمًا لحامد باشا حسني أبي خليل بك وعزيز باشا منذ حداثتهما، وكان لحامد باشا الفضل الأكبر في تقريب حمدي باشا إلى الخديوي إسماعيل باشا، وأنت تعلم أن بيت حامد باشا عريقٌ في المجد والجاه؛ ولهذا كان حمدي باشا أبو زينب يَوَدُّ أن يعطي يدها لعزيز ابن صديقهِ، ولكن زينب كانت تُجاهر لأمها بأنها لا تريد عزيز، وأخيرًا جاهرت بأنها لا تقبل غير شاكر بك نظمي حليلًا، ولما كان أبوها يحبها ويجلها جدًّا لم يشأْ أن يُرغمها إرغامًا على التزوُّج بعزيز وإنما أظهر لها استياءَهُ من استقلالها برأيها.
وقد اتخذت حينئذٍ جميع الوسائل لإقناع زينب بأن تقبل عزيز زوجًا فأبتْ بتاتًا حتى ضاق الكلُّ ذرعًا في إقناعها، ولَمَّا قلَّت الحيل على عزيز وذوي قُرباه صرفوا همهم إلى استنباط الطرق في إزاحة شاكر من السبيل، فاستعاروا ضمير إبليس وتلقَّنوا علومه ونصبوا لشاكر فخًّا مهلكًا.
فقال حسن حينئذٍ: بالله، ماذا فعلوا؟
– كان عزيز باشا مجدي من الشبان المنغمسين بالرذائل فكانت لهُ عشيقةٌ أو قُلْ: رفيقة أجنبية تُدعى كارولين، وقد زعموا حينئذٍ أنها كانت ذات صلة بشاكر بك وأنها كانت تحبه، وأن عزيز كان يستاء منها جدًّا إذا اتصلتْ بشاكر لأَقل أمر. على أني لم ألاحظ قط أن شاكرًا كان يعرفها أو أنه كان يتصل بها لنكاية عزيز، وقد علمت أن أولئك الأشرار أشاعوا هذا الزعم؛ لأنه من جملة أدوات الفخ الذي نصبوهُ لشاكر.
وفي إبان الاشتغال بمسألة استرضاءِ زينب كنتُ يومًا مارًّا وحدي بعد منتصف الليل أمام سراي حامد باشا حسني أبي عزيز وخليل، فسمعتُ السائس والحوذي من داخل الإسطبل — والباب مقفل — يتناقشان بالكلام تناقُشًا حادًّا، ولكنه خافت، وقد نبهني إليهما قول الحوذي: «لقد انقضى الأمر وقُتِلَتْ، فالأفضلُ لك أن تتشجع وتُصرَّ على الإنكار لئلا تقع التهمة علينا.» والظاهر أنهما لم يسمعا وطء قدميَّ؛ لأن الأرض لم تكن محصوبة هناك فوقفتُ قرب الباب أتسمَّع ماذا يقولان؟ فقال السايس: إن ضميري يبكتني جدًّا يا محمد، وأودُّ أن أهرب.
– إنك «عبيط» يا علي. ألا تعلم أن فرارك يثبت عليك الجناية، وإلى أين تفرُّ ولا تستطيع الحكومة أن تقبض عليك؟
– إني خايف جدًّا يا محمد.
– لا تخف يا أخي فإن الجناية لاصقة بشاكر بك نظمي؛ فقد رَبَطْنا رأسها بمنديله ووضعنا عقدته في فمها، فضلًا عن التحرير الذي وضعناه في جيبها تقليد خطه، وكل الذين يعرفونه يعرفون أنه ينازع مولانا عزيز بك هذه الفتاة الكافرة، فماذا علينا نحن؟ يجب أن نفرح ونُسر بالمكافأة العظيمة التي حصلنا عليها؛ فإن عشرة فدادين لكل منا تُعد ثروة عظيمة. أطال الله عمر البك، وإياك وأن تتظاهر بأنك صرت ذا أطيان؛ لِئلا تنبِّه الأنظار إليك.
وعند ذلك كنت أسمع نبضات قلبي بأذني من الجزع؛ ولا سيما إذ عرفتُ أن مكيدة منصوبة لصديقي شاكر، فذهبت في الحال إلى منزله وقرعتُ ففتح الباب، ولحسن الحظ لم ينتبه أحد من الجيران لي فسألت البواب: «هل عاد شاكر بك؟» فقال: «الآن صعد إلى غرفته.» فصعدت في الحال، وقرعت الباب قرعًا خفيفًا، ففتح، وإذا هو قد خلع ملابسه ولبس قميص النوم، فقال — باسمًا: أهلًا ومرحبًا، خير إن شاء الله؟
فحاولتُ في أول الأمر أن أتجنب مباغتتهُ بما يُقلقهُ، ولكنهُ لم يَخْفَ عليهِ قلقي واضطرابي وأنا أقول له: ليس إلَّا الخير.
– بل أراك مكفهرَّ الوجه، فقُلْ، ما الخبر؟
– أتيتُ لكي أُنذرك بمكيدة منصوبةٍ لك.
– أية مكيدة؟
– اسمع فأقص عليك ما عرفتهُ وما سمعتهُ مصادفة.
وجعلت أقص عليه حديث السايس والحوذي بحروفه، فاضطرب وجزع، وقال: ماذا فهمت من كل ذلك؟
– فهمت أن عزيز وأهلهُ دبروا مكيدة لقتل الفتاة كارولين بحيث تقع التهمة عليك.
– ولكن عزيز يحب كارولين.
– لا تحسبهُ يعرف معنى الحب، بل قل إنه قد استخدم هذا الحب الدنيء لغايتهِ، وقد قتلها على أُسلوب يوقع التهمة عليك؛ ليزيحك من سبيل زواجهِ من زينب.
– يا الله! أين قتلوها يا ترى؟
– لم أقدر أن أفهم ذلك من حديث السايس والحوذي.
وكان شاكر ينتفض من الجزع، فقال لي: والآن ما رأيك؟
– رأيي أن تسافر غدًا صباحًا إلى الإسكندرية في أول قطار، وفي عصر الغد تبحر باخرة إفرنسية إلى أوروبا فانزل فيها كأحد المسافرين، فإن ثبتت التهمة عليك في التحقيق بقيتَ في أوروبا، وإلا عدت.
– ولكن ألا تظنُّ أن سفري يعدُّ هربًا، فيضرني أكثر مما ينفعني؟
– كلَّا؛ لأنه ليس بصورة الهرب، بل أنت مسافرٌ كعادتك من جملة المسافرين الذين يصطافون، والوقت الآن وقت سفر الاصطياف فلا يدعو سفرك إلى الاشتباه بك؛ ما دمت تتظاهر خالي الذهن من هذه الحادثة.
– صدقت، فأسافر كعادتي ومن حسن الحظ أن تذكرتي التي سافرتُ بها في العام الفائت لم يفت موعدُها بعدُ — على ما أظن — فلْأبحثْ عنها بين أوراقي، لعلِّي أجدها.
– ابحث، ابحث عنها فإن وجدتها يكن الله قد دبر لك السفر خيرَ وسيلة للخلاص من هذه الأُحبولة المنصوبة لك.
وفي الحال نهض شاكر إلى طامور أوراقه، وبحث فيه فوجد التذكرة كأن الله سهل له طريق الفرار، فقلت له: ولك عليَّ أن أشهد بأنك قلت لي منذ أسبوع إنك تنوي السفر؛ أشهد كذلك لكي يثبت أنك لم تسافر على حين فجأة هربًا من التهمة، فإنْ قُبض عليك قبل أن تبرح الباخرة بك فلا يضرُّك عزمك على السفر شيئًا؛ لأنه ليس فيهِ صفةُ الفرار، وإن فزت بالهرب خلصت على أي حال.
– ليس لي في بدء الأمر حيلةٌ للخلاص من هذه المكيدة إلَّا ما تقول، فسأسافر غدًا قبل أن تعرف أُمي؛ لئلا يحدث بيني وبينها من الوداع غيرِ المعتاد ما ينبِّه أنظار الخدم ويدعو إلى الشبهة، ولكن عليك أن تزورها في الصباح وتُخبرها الأمر بكل حكمة وتسكِّن بالها وتحثها على أن تكون حكيمة في رواية خبر سفري، وأن تُظهر أن لها سابق علم به.
وعند ذلك تركته والأفكار الهائلة المخيفة تُقيمه وتُقعده، ولا أظنهُ نام في ذلك الليل من تَوالِي الهواجس عليه، وفي اليوم التالي الساعة الثامنة صباحًا زرتُ أمهُ فوجدتها جاهلة خبر سفرهِ، فحدثتها الحديث اللازم وحذرتها أن تفلت منها كلمة تؤَيد الشبهة.
المدموازيل كارولين
يجب أن تلاقيني في هذا المساء في الجزيرة في نصف الليل فإن لي كلامًا أقوله لكِ.
ولما تحرَّت المحافظة منزلها، واستجوبتْ جارتها وأترابها قيل لها: إن عزيز وشاكرًا يترددان عليها، ولا ريب أن عزيز لقن أولئك النساء هذه الشهادات فألقيت الشبهة عليهما، وبفحص المنديل وُجدتْ إحدى زواياه مطرزة بهذين الحرفين بالإفرنجية «ش. ن» وهما يَصْدقان على اسم شاكر نظمي.
وفي الحال بثَّت المحافظة الشرطة في المدينة للقبض على شاكر بك.
فالذين أحدقوا بمنزله سألوا الخدم عنه فقالوا: إنه سافر إلى الإسكندرية منذ الصباح، وسألوهم عن أمه فقالوا: إنها خرجت في مركبتها إلى النزهة في الجزيرة، فلحقت الشرطة بها وأتوا بها إلى منزلها فاستجوبت عن ابنها فقالت: إنه منذ الأسبوع الفائت نوى أن يسافر إلى أوروبا للاصطياف كعادته، وقد سافر اليوم إلى الإسكندرية ولا أدري في أي باخرة يبرح. على أن الشرطة أخذوا من البيت بعض مناديلهِ؛ لمضاهاتها بالمنديل الذي كان رأس القتيلة معصوبًا به.
وكانت حينئذٍ قد فاتت الساعة الخامسة، فأرسلت المحافظة تلغرافًا إلى محافظة الإسكندرية توعز إليها بالقبض عليه، ولكن من حسن الحظ أن الباخرة الفرنساوية كانت قد أبحرت به وبسائر الركاب منذ الساعة الرابعة فنجا. على أن المحافظة أرسلت تلغرافات متعددة إلى جميع الأساكل البحرية التي ترسو فيها الباخرة الفرنساوية تلتمس القبض عليه، فأخفقتْ مساعيها، ولم أدرِ كيف وصل إلى نابولي وأفلت من أيدي الشرطة هناك؟
كنت أسمع القليل من أخباره حينئذٍ، فكانت أمهُ تمده بالمال وسالم أفندي رحيم كاتب دائرته يحرس أملاكه ويتصرف بها كما يشاء بمقتضى توكيلٍ رسميٍّ منه، وهو رجلٌ أمين جدًّا له، وما مضى نحو عام حتى كانت معظم أملاكه قد بِيعت وأُرسلت له نقودًا — على ما أظن.
وبعد نحو سنة توفيت أمهُ، وفي خلال ذلك كان عزيز باشا نصري قد فاز بأمنيتهِ فزُفَّتْ إليه زينب بالرغم منها؛ لأنها كانت ترتاب بصحة التهمة التي أُلقيتْ على شاكر، وعما قليل توفي حمدي باشا فوضع عزيز يده على الثروة وجعل يستغلها، ثم تلا ذلك أن وردت أخبارٌ من إيطاليا تُثبت وفاة شاكر هذا فوضع ذوو قرباه أيديهم على النزر الباقي من ثروته.
أما زينب فإنها تقاسي الآن العذاب المر من معاملة عزيز لها — كما تعلم — لأنه يُحاول أن يَسْتَلِبَ منها ثروتها استلابًا قانونيًّا، وهي تزداد تمسكًا بها؛ لأنها تَوَجَّسُ منهُ شرًّا. هذه مجمل قصتي التي أسررتها إليك بغية أن تتعلم منها كيف تتقي مُناظرك.
– إنها لَقصة هائلة يا عزيزي يوسف، وما كنت أظنُّ هؤلاءِ القوم أشرارًا إلى هذا الحد، ولكن هل تؤكد أن شاكر بريء؟
– من غير شبهةٍ؛ لأني سمعت حديثَ السايس والحوذي القاتلين بأذني، ولا ريب أنهما صادقان في شهادتهما على أنفسهما — وهما في خلوة لا يعرف بهما أحد.
– فإذا كان الأمر كذلك أظن — بل أُرجِّح — أنه كان يمكن أن يبرأ شاكر لو بقي، وهربه أبقى التهمة ثابتةً عليه؛ إذ لم يُقم من يدافع عنه.
– ولكن فراره كان أقرب إلى سلامته وأضمن.
– أما أنا، فلا أدع لخليل مجالًا بأن ينصب لي شركًا؛ فإني سأجتهد أن أرضي حسين باشا، وإذا دبر لي مكيدة فأعرف كيف أسلم منها. ولكن لماذا لم يخطر لك أن تقوم شاهدًا على حديث الحوذي والسايس؟
– لأني لجهلي الأصول القانونية خفت أن أقع تحت مسئولية أو أن يُرتاب بشهادتي، وحينئذٍ رأيتُ أن الفرار أسهلُ طريقة، وقد نجحنا فيها — والحمد لله.
– من تظن أنه قَلَّدَ خَطَّ شاكر في تلك الرسالة؟
– أُرجح أن ديمتري ألكسيوس وكيل دائرة عزيز باشا وأخيه هو الذي كتب الرسالة؛ لأنه جميل الخط الإفرنجي ويتفنَّن به كثيرًا، فلا يبعد أن يكون هو الذي حاول في تلك الرسالة تقليد خط شاكر، ولما قابلت المحافظة الرسالة بخط شاكر في بعض الأوراق الرسمية التي كانت له في المحكمة المختلطة وجدتْهما متشابهَين جدًّا.
– وكيف اتصل منديل شاكر بالمجرمين؟
– فهمتُ من كلام الحوذي والسايس أن ديمتري هذا هو الذي اختلس المنديل من جيب شاكر؛ لأنه كان يتردد عليه كثيرًا في المدة الأخيرة، وكان أحيانًا يتثاقل عليه ويماشيه ويتحبب إليه، وقد خطر لشاكر هذا الظن حين كنتُ أروي له حديث الحوذي والسايس، وأرجح أن ديمتري هذا هو الذي زوَّر الرسالة واختلس المنديل.
– ألا تظن أن زينب عرفتْ بهذه المكيدة بعدئذٍ أو خطرتْ لها؟
– لا أدري، ولكن الأرجح عندي أنها لم تخطر لها، وليس أحدٌ سواي يعرف بخبر هذه المكيدة إلا الذين اشتغلوا بها.
– مهما يكن الأمر فإني ألوم زينب لنكثها عهدها لشاكر في حياته، فكان خليقًا بها أن تثبت على حبه حتى ينقذه الموت.
– ولكن ماذا ترجو منه بعد أن فرَّ بتهمة جنائية.
– إذا كانت لا تعتقد بصحة التهمة فكان يجب أن تصبر إلى أن يأتي الفرج من عند الله، وإذا لم ترَ بُدًّا من نبذه من فؤادها فليس من شرف النفس أن تتزوج بخصمهِ، وأظن أن العذاب الذي تقاسيه الآن هو عقابُ خيانتها؛ ولا سيما أن أباها لم يُرغمْها.
– إنك تظلمها يا حسن؛ لأني أعرف أنها أُكرهت أخيرًا إكراهًا على الزواج بعزيز؛ ولا سيما إذ احتج أهلها عليها بفرار شاكر من وجه تهمة القتل بعد ما كان مؤملها الوحيد. أما العذاب الذي تُقاسيه الآن فسببه مجرد لؤم عزيز فإنه جامع لأقبح المساوئ؛ سكير مقامر فاسق، ولا يزال إلى الآن يساكن العاهرة الواحدة ويهجر الأخرى، وقد زاد شرُّهُ هذا بعد زواجه كأنهُ كان متظاهرًا بالرشد قبل الزواج بغيةَ أن يرضي المرحوم حمدي باشا، وإني أؤكد لك أن حمدي باشا لم يرغب في تزويجه إلا اغترارًا بأصلهِ الرفيع وجاه أسرتهِ، ولم ينظر إلى شخصيتهِ بعين الاعتبار؛ فجنى على ابنتهِ أعظم جناية، وعندي أنه لو زوجها رجلًا أصغر من عزيز مقامًا وجاهًا وأرقى عقلًا وأدبًا لَفعل معها خيرًا ورحمة، ولكن هذا الغلط يرتكبه الكثيرون من أهل بلادنا.
– وهل يُعد شاكر بك نظمي أوضع من عزيز باشا مقامًا وجاهًا؟
– من غير بد؛ لأن أسرة عزيز باشا قديمة ولولا ميراث شاكر الطائل الذي جمعهُ أبوهُ وجدُّه لكان خامل الذكر، ولكني لو كنت أبا زينب لفضلت شاكرًا على مائة عزيز بقطع النظر عن ثروتهِ.
– أليس عزيز وأخوه غنيَّين؟
– لا تتجاوز ثروتُهما معًا الستين ألف جنيه الآن.
– عجيب! أهذا فقط؟
– فقط كان يمكن أن تكون أضعافها الآن؛ ولكن السكْر والميسر استنزفاها، وذلك الخبيث ديمتري المؤَمن على دخلهما وخرجهما أضعفها أيضًا حتى صارتْ له ثروة كبيرة من ورائهما.