الفصل السابع
كان يوسف بك رأفت وخليل بك مجدي في حانةٍ نحو الساعة الثامنة مساءً، ينتظران قدوم حسن أفندي بهجت؛ لكي يذهبوا جميعًا إلى الكوميدي فرنسز، فاستبطآه، فقال خليل بك: هَلُمَّ نسبقه فيوافينا متى جاء ولم يجدنا هنا.
– لا يليق بنا أن نسبقه بعد ما وعدناه أن ننتظره هنا، وإذا سبقناه فلا يوافينا كما أؤكد؛ لأنه عزيز النفس جدًّا.
– هَبْهُ لا يوافينا، فماذا يكون؟
– يكون أننا زغنا عن قاعدة الأدب.
– إني لأتعجب منك يا يوسف بك؛ فإنك تعبأ بفتًى مثل حسن في حين أنك لا تجهل أنه ابن رجل كان من حاشية حسين باشا عدلي، وعندي أنك باكتراثك بمثل حسن تحطُّ من مقامك.
– لست من رأيك يا خليل بك؛ لأنك تَعتبر الأشخاص بالنظر إلى أصلهم وجاههم الدنيوي، وأنا أعتبرهم بالنظر إلى شخصيتهم وأهليَّتهم، نعم إن حسن ابن رجل من العامَّة، ولكنه سامي العقل والنفس، ولو كان في بيوت كبرائنا وذواتنا كثيرون مثله لَكانت بلادُنا في جملة البلاد الراقية.
فقزَّت نفس خليل بك واشمأز من هذا الموضوع وأحب أن يقفل بابهُ؛ لأنه من جهة لا يسلم بهِ، ومن جهة أُخرى لم يدع له يوسف بك مجالًا للرد، فقال: لا يهمني حسن ولا سواه وأنت وشأنك معه، على أني أستعظم انتظار فتًى كحسن، وماذا يضرنا لو سبقناه فلحق بنا.
– إذا حان موعد قدومه ولم يأتِ جاز لنا أن نسبقه، وحق لنا أن نلومه على إخلافِه. أما وميعاده لم يحن بعد فلا حق لنا أن نسبقه بعدما وعدناه أن ننتظره بل يحق له أن يلومنا.
– وهبهُ لامنا فماذا يكون من أمره؟
– يجب أن نراعي إحساساته؛ لأنه إنسان ذو مقام معتبر مثلنا.
فتبرَّم خليل بك من هذا الكلام وسكت، وبعد هنيهة قال: الحق أقول لك: إني لا أستحسن علاقتك الودادية مع هذا الفتى؛ لأنك أرفع منه مقامًا ولكنك حرٌّ فافعل ما تشاء.
وبعد هنيهة وفد عليهما حسن، فاستقبلاه — ولا سيما خليل بك — بالبشاشة والترحاب كأن لم يكن شيءٌ من حديثهما السابق.
ولما حان الموعد ركبوا مركبة درجت بهم إلى الكوميدي فرنسز.
ولَمَّا كانوا واقفين لدى نافذة التذاكر يشترون تذكرة مقصورة ويدفعون ثمنها وافى رجلٌ طويلُ القامة معتدل الجسم عليه كل دلائل النعماء والجاه والثراء، يتجاوز عمرُه الثلاثين ومعه فتاةٌ لا تكاد تُناهز سن المراهقة، ولكنها ممتلئة الجسم مفتولة العضل شفافة الطلعة صافية الرواء صبحة الملامح خصيبة الشعر. تقدم هذا إلى النافذة وطلب تذكرة مقصورة فقال له صاحب النافذة: إن تذاكر المقاصير قد نفدت ولم يبقَ إلا بعض الكراسي الأولى. فأحجم صاحبنا كأَنه يأبى أن يحضر التمثيل إلا في مقصورة، وكان يوسف بك حينذاك لم يزل لدى النافذة يدفع ويقبض، وحسن وخليل بك إلى جانبه، ثم قال لبايع التذاكر: أما من طريقة للحصول على مقصورة ولو بضعف الثمن؟ فإني لا أستطيع الإقامة إلا في مقصورة لا لكِبْرٍ مِنِّي، بل لأن أمرًا خاصًا يحملني على ذلك.
– أتأسف يا سيدي على أنه ما من وسيلة لذلك، فلو سبقْت بضع ثوانٍ لكانت لك هذه المقصورة التي بِيعت الآن.
فالتفت يوسف بك إليه وقدم له التذكرة وقال: «هل تشاء يا سيدي أن تقبل هذه التذكرة من رفيقيَّ؟ فإنهما يقدمانها إليك بكل سرور ويكونان ممتنَّين لك بقبولها.» ونظر حينئذٍ يوسف بك إلى رفيقيه كأنه يطلب إليهما الموافقة على تقدمته والتأمين على قوله، فحَنَيَا رأسهما معًا، وقال حسن: تفضلْ يا سيدي بقبولها، وقال خليل بك: «لنا الشرف يا سيدي أن تقبلها.»
فقال الرجل: لا يليق بي أن أحرمكم ليلة أُنس اجتمعتم لأجلها.
فقال يوسف بك: كَلَّا يا سيدي فإنا نأخذ كراسي.
فقال: نحن أولى بالكراسي وأنتم بالمقصورة؛ لأننا أتينا متأخرين.
فقال حسن: نرجو منك يا سيدي ألا ترد تقدمتنا؛ لأننا شرقيون يصعب علينا جدًّا رفض التقدمة.
فتناول ذلك الرجل التذكرة وحنى رأسهُ شاكرًا ودفع ثمنها ودخل بفتاته إلى رواق المقاصير، وعند ذلك اشترى أصحابُنا ثلاث تذاكر كراسي ودخلوا فاتفق أن كراسيهم كانت قريبة من المقصورة التي جلس فيها ذلك الرجل وفتاته، فكانت أبصارهم تتلاقى بأبصاره وأبصار فتاتهِ فى خلال التمثيل.
ولما وافت فترة التمثيل التقى أصحابنا بذلك الرجل في منتصف الملعب، وتساقوا بعض الخمور وتعارفوا وتصادقوا.
وفي اليوم التالي دعا طاهر أفندي أصدقاءه الثلاثة الجدد إلى مأدبة فاخرة في أعظم مطعم أنيق في باريس، وأكرمهم لقاء مجاملتهم التي لقيها منهم في ملعب الكوميدي فرنسز، وكانت فتاتهُ معهُ، ولكن لم يعرفهم بها ولا عرفها بهم فخاطبوها وخاطبتهم من غير تعارُف، ولم يدع طاهر أفندي لهم مجالًا للتعرف بها والتساؤل عنها، بل كانت رزانتُها في معاملتها وفي كل أمر يخصها تصدهم عن أن يسألوه عنها.
ولم تطل برهة تلك الوليمة كثيرًا؛ لأن طاهر أفندي كان كمن يتحذَّر من التمادي في مصادقة القوم، ولكنه — مع ذلك — لم يتركهم إلا وقد ترك في أنفسهم ولعًا به؛ لِما صادفوه من علوِّ نفسهِ وكرم أخلاقهِ، وحُسن أدبه واستقامة مبادئهِ، ولُطْف ذوقهِ وعشرتهِ، ولِمَا تركتْهُ فتاتهُ في قلوبهم جميعًا من ثورة الهوى.
وفارقوه وهم يتقوَّلون في حقيقة أمر فتاتهِ، فبعضُهم ظَنَّ أنها ابنتُه، وبعضهم حسبها يتيمة وأنه يربيها لكي يقترن بها متى بلغت السن الموافقة، ولم يجسروا أن يسألوهُ في شيء من ذلك؛ لأن نسق معاشرتِهِ إياهم لم يسمح لهم بمثل هذا السؤال، وجُلُّ ما دار من الأحاديث بينهم الحديث عن مصرَ ومحاسنِها وحركة الأشغال فيها، وما يُنتظر من رواج التجارة فيها، وقد دعَوه إلى زيارة مصر وأظهروا استعدادهم لاستقبالهِ فيها بالحفاوة، فأظهرَ رغبته الشديدة في ذلك، وقال إن في نيتهِ الذهاب إلى مصر لتأسيس محل تجاري فيها.