الفصل الثامن
أما حسن فكان أشد من رفيقَيه افتكارًا بأمر طاهر أفندي وما هو عليهِ من الخلُق الغريب، والمسلك العجيب والتحرُّز النادر، ولكنه أدرك أنه رجل عمل ذو همة وإقدام وحزم، فخطر له أن يسعى في الاستعانة بهِ على مشروعاتِهِ، وبعد أن تردد قليلًا في مفاوضتهِ قصد إليهِ ذات صباح في فندق الكونتيننتال، وطلب مقابلتَه فاستقبله بكل بشاشة ولطف، وجلسا في قاعة الاستقبال وحدهما. وبعد مجاملة قصيرة دارت بينهما كما تدور بين كل المستجدين في الصداقة قال حسن: إني أعتقد فيك رجل جدٍّ وعمل، تعبأ بالجوهر دون العرض؛ ولهذا لا أرى داعيًا للتمهيد بالمجاملات والمقدمات توصُّلًا إلى الموضوع الذي أود أن أفاوضك بهِ، فلا أخفي عليك إني قصدتك لكي أباحثك في مشروع مهم فهل تؤْذن لي بذلك؟
– أسمع حديثك بكل ارتياح وسرور، وأود أن أستطيع خدمتك في كل أمر.
– إنني ممتنٌّ للطفك العظيم على أن موضوع حديثي هو مشروعٌ النفعُ فيهِ متبادَل؛ ولهذا أجرأ أن أكاشفك به.
– إذن المسألة مسألة شغل، وقد زدتني رغبة في السماع؛ ولا سيما لأني أتوسم فيك فتًى نبيهًا يعدك الزمان رجلًا من رجال الأعمال، فهات ما عندك.
– لا يَخفى عليك أن مصر سائرةٌ بسرعة في سبيل العمران والمدنية الحديثة؛ بسبب ما دخل إليها من الأجانب الذين ينقلون معهم معالم مدنيتهم؛ وبسبب قابليتها لذلك لوفرة غناها وخصب أرضها، فلاحَ في بالي بعضُ مشروعات، لو أنشئتْ لها شركات في مصر لأتتْ بأرباح باهظة؛ ولذلك أهتم في أن أستنهض همم بعض الوطنيين عندنا لإنشاء شركة ما حتى لا تكون كل الشركات المالية في أيدي الأجانب وأرباحها لهم وحدهم؛ لأنهم ابتدءوا يتنبهون إلى ذلك، وقد خطر لي أن أستعين بك في هذا الأمر؛ لأني أعتقد أنك تكون للشركة الوطنية خيرَ مُعين.
– إني مُصغٍ إلى كلامك بكل لذة وسرور يا حسن أفندي، فأي المشروعات تراه قابلًا للنجاح.
– خطر لي أولًا نشرُ النور الكهربائي في مصر وإسكندرية، ولكني رأيت هذا من الكماليات التي لا يُضمن رواجُها والإقبالُ عليها. ثم خطر لي إنشاءُ بنكٍ لتسليف النقود لفئةِ الفلاحين بطرق سهلة؛ لتخليصهم من براثن المُرابي الذي يمتص دماءهم، ولكن لم يَنْجَلِ لي هذا المشروع مضمون النجاح؛ لاحتمال أن البنوك الأُخرى تُسابق هذا البنك وتُنازعهُ النجاح والرواج، ثم خطرتْ لي مشروعاتٌ أخرى لم أرجح نجاحها إلى أن انتبهت إلى مشروع الترام الكهربائي فتأملتُهُ جيدًا؛ فتراءى لي أنه قابل النجاح جدًّا؛ لأنه أصبح من الضروريات في بلد مثل مصر يزيد سكانها على نصف مليون نسمة، وهم في ازدياد مستمر فالأقدام تتزاحم في شوارعها، وضواحيها تترامى، وحركة الإشغال فيها تستلزم تجاذُب الناس بين أطرافها ومركزها.
فتأملَ طاهر أفندي كلام حسن هنيهة ثم رفع فيه نظره وقال: أُرجح جدًّا أن مشروعك الأخير ينجح إذا تألفت له شركة قوية؛ لأني اختبرت هذا المشروع عرضًا في بعض مدن أُوروبا ولاحظت أنه ناجح وافرُ الأرباح.
– على أني لا أكتفي في تحقُّق المشروع بمجرد الفروض والتخمينات، بل صممتُ على أن أجول في بعض مدن أوروبا وأطلع على إحصاءات كل شركة من هذا النوع — إن أمكن.
– تريد أن تدرس المشروع درسًا فعليًّا.
– نعم.
– هذا ما لا بد منه ويدلني على أنك تأخذ الأمور بالاختبار الفعلي الشخصي، ولهذا أطمئن إلى عملك ورأيك وسعيك، وعليه أعدك وعدًا صادقًا بأني أمدُّ يدي مع يدك إلى العمل في هذا المشروع، وإذا كان يقتضي لك نقفةً كبيرة لدرسهِ فلك مني كلها أو ما تشاء منها.
– لا أُخفي عليك إني لستُ ذا مالٍ ولا يد لي في هذا المشروع إلَّا يدُ السعي والعمل بهمة ونشاط، والاهتمام في دعوة الناس إلى الاشتراك في الشركة.
– حسبنا ذلك ولك مني أن أُقدِّم جانبًا كبيرًا من المال لتأسيس الشركة، فادرس المشروعَ جيدًا، ومتى انتهيتَ من دراستهِ نتباحث مليًّا فيه.
– إني كبيرُ الأمل بالنجاح أيها الصديق، وقد فاوضت قبلك صديقي يوسف بك رأفت فوافقَني عليه، ووعد أن يشترك معي بهِ، وها أننا قد صرنا الآن ثلاثة.
– وهل يوسف بك غني؟
– نعم، تبلغ ثروته نحو أربعين ألف جنيه.
– فقط؟
– ألا تكفي لكسب الثقة في مشروع كهذا؟
فسكت طاهر أفندي عن هذا الموضوع، وسأل: وخليل بك أليس غنيًّا؟
– لا تربو ثروته وثروة أخيه على ستين ألف جنيه، ولكن زوجة أخي خليل بك غنية جدًّا تبلغ ثروتها نحو مئتي ألف جنيه أو أكثر — على ما أظن.
– لا تؤاخذني على هذا السؤال يا حسن أفندي، فإنه يتراءَى لك فضولًا مني، ولكنَّ له سببًا أُسِرُّه إليك؛ لأني أتوسم فيك كتم السر.
– ثقتك في محلها يا طاهر أفندي، فقلْ — إذا شئت.
– رأيت خليل بك يتردد على محلات القمار الكبيرة، وقد التقيت به في بعضها غير مرة، إذ أكون برفقة بعض أصحابي الأخِصَّاء الذين يختلفون أحيانًا إلى تلك المحلات بغية التسلية، ومع أن الواحد منهم يَملك ثروةً تساوي مائة ضعف من ثروة خليل بك فقد وضعوا قانونًا لأنفسهم من مقتضاه، أن لا تتجاوز المجازفة الواحدة ١٠ جنيهات ولا الخسارة في لعبة واحدة ستة جنيهات، ولكني رأيت خليل أول أمس ينافسهم في المجازفة حتى خسر نحو ألف جنيه واقترض مني لَيْلَتَئِذٍ نصفَها، وأمس أتى إليَّ والتمس مني أن أقرضه ٨ آلاف جنيه فوعدته، والتمست منه أن يُشهدك ويوسف بك على الصك؛ لأني أعرفكما وتعرفانهِ.
– ليتك يا طاهر أفندي لا تقرضه؛ فتصنع معه رحمة من جهة ولا تجازف بنقودك من جهة أخرى؛ لأنه سيقامر بهذه الآلاف، والأرجح أنه يخسرها.
– لم يسعني إلَّا أن أعده يا حسن أفندي، ولم يعد في طوقي أن أنكث بوعدي معه، ولو تأكدتُ أني طارح هذه الآلاف في البحر، وهَبْنِي لا أستردها فلا تهمني قط؛ لأني — والحمد لله — في سعة.
فتأمل حسن هذا الكلام، وقال في نفسه: إذن كم تبلغ ثروة هذا الرجل؟