شهادة على العصر!

بقلم: محمد عودة

سوف يكون هناك ألف شهادة وشهادة على هذا العصر العاصف الذي نعيشه، ولكن تبقى شهادة محمود السعدني في رباعية الولد الشقي، متميزة فريدة غير أي شهادة أخرى.

ويُمكن أن تعيش الثورة العرابية في مذكِّرات أحمد عرابي، أو أشعار محمود سامي البارودي، أو في يوميات ويلفرد سكاون بلنت، ولكن لن نغوص في قلبها وتسمع نبضاته ودقاته، وبعد مائة عام، إلا من شهادة عبد الله النديم.

ويُمكن أن نعيش ثورة ١٩١٩م في مذكرات سعد زغلول أو مصطفى النحاس، وفي نثر وشعر عباس محمود العقاد، أو في حوليات الرافعي وشفيق باشا، ولكن لن نتغلغل في ثنايا روح وقلب مصر يومئذٍ قبل أن نقرأ أزجال بيرم التونسي مثلًا.

وسوف تُخلِّف ثورة يوليو تلًّا عاليًا من الشهادات بأكثر مما خلَّفه أي حدثٍ آخر، وسيكون منها العلمي والموضوعي، أو الرسمي والشكلي، أو الزور والزيف يخلفه طابور الشهود الذين لم يروا شيئًا، أو رأوا ولم يفهموا شيئًا، ولكن تبقى شهادة محمود السعدني، وثيقة وحدها، صادقة أصيلة تفيض حيويةً، ومصرية، شهادة ابن الشعب والحارة الذي قامت له الثورة وعاشت بصموده.

والولد الشقي لا يشهد الأحداث عن بُعد، ولا يتجنَّبها أو يتَّقي شرها، ولكنه يندفع ويُشارك ويزجُّ بنفسه ويحشر أنفه في كل مشكلة، ويُقحم نفسه في كل مظاهرة أو خناقة، ولا بدَّ له أن يتكعبل أحيانًا وأن يدفع ثمن شقاوته.

وينتمي السعدني إلى الجيل الفريد في تاريخ مصر الذي عاش أربعة عصور مختلفة، والذي غيَّر تاريخ وكيان مصر، وكما لم يفعل جيلٌ قبله.

نجح هذا الجيل كما لم ينجَح أحد، وتعثَّر وفشل كما لم يحدُث لأحد، ونهض من عثرتِه كما لم يتنبَّأ أحد، ويُقاتل اليوم مستميتًا ليجعل من ربع الساعة الأخيرة، خاتمة مجيدة!

ويشهد السعدني على هذه العصور الدرامية وأحيانًا المأساوية شهادة ابن البلد الذي لا تفوته شاردة أو واردة ولا يستطيع أحد أن يخدعه أو يُضلله، والذي لا يحكمه في البداية والنهاية سوى حب البلد وأهله الغلابة.

عاش السعدني العصر الملكي، عصر الثورة، والثورة المضادة، واستأنف الشقاوة في عصر النقاهة الحالي الذي يتقلَّب بين الصحة والنكسة.

وكان من حظي الكبير أن رافقتُ السعدني عبر هذا المشوار المُضني، ومنذ تتعرَّف إلى السعدني، يدخل حياتك ويأسرك، ولا يخرج أبدًا، ربما تلعنه أحيانًا، وتنصبُّ بالسخط عليه أو تقسم بأغلظ الأيمان أنك لن تراه بعدئذٍ، ولكن تصحو لكي تهرع إليه، ودائمًا تجده في منتصف الطريق قادمًا، وفي الأوقات الحالكة العصيبة، لا بدَّ أن تجده هناك قبل أيِّ أحد آخر، وفي الأوقات المَرِحة السعيدة لا بد أن يكون السعدني؛ لأنها لا تكتمل بدونه.

وفي البداية وخلال العصر الملكي كان يجمعنا حلم واحد دائم لم يكن لنا سواه، يُؤرقنا ويُضنينا، ونسأل أنفسنا عنه، كل يوم، طرقْنا كل السبل إليه، وحدَّدنا أدوارنا، وبَلْوَرنا البرامج والمناهج والمطالب. ولكن اكتشفنا أن علينا أن ننتظر الثورة.

كان الهرم الذي ترزح تحته مصر ثقيلًا، بكل ثقل أهرامات مصر. كان هناك ملك وأمراء ونبلاء وباشوات وبكوات وأفنديات، وفوق هؤلاء جميعًا هرم أكبر من الخواجات كل ألوان وأنواع ودرجات الخواجات، وتحت هؤلاء جميعًا كان يرزح الشعب، مُستنزَفًا مسحوقًا، يبدو بلا حول ولا طول.

•••

وفي غمرة اليأس فاجأَنا الفجر، وانقشع الظلام الدامس، وكشفت مصر عن إحدى كراماتها، وتحوَّل الحلم إلى حقيقة، وقامت الثورة، وأنجبت البطل، وقادَنا إلى الخلاص.

ولأول مرة شعرنا أننا استرددنا أنفسنا وانتهت غربتنا ولم نَعُد مواطني الدرجة الثانية أو الثالثة المُستبعَدين، واستعدنا حقنا الشرعي في أن نملك ونحكم بلدنا.

ولكن الثورات ليس حفلات سمر أو عشاء، وليست مهرجانات أفراح فحسب، وهي لا بدَّ أن تُفجر الصراعات والمتناقضات، خاصة إذا كانت التركة ثقيلة والطريق غير معبَّد، والبوصلة غير محدَّدة.

ولم يكن ممكنًا للولد الشقي أن يسكت وأن يُمسك لسانه أو يحدَّ من قلمه، ولا بد له أن يشاكس ويعاكس، أليست ملكه ومن حقه أن يُقوِّمها، ولذا كان لا بد له في النهاية أن يقع في المحظور.

وبعض الثورات تأكل أبناءها وأحيانًا تلتهمهم. ولأن ثورتنا كانت إنسانية بيضاء اكتفت بالنسبة للأولاد الأشقياء بفرك آذانهم، ولم يكن ذلك عقابًا بقدر ما كان سوء فهم وحظ، وإن كان يؤلم أشد الألم؛ لأنه ليس أقسى من أن يصطدم الثائر بثورة يؤمن بها وأن يرتطم بفكرٍ ينتمي إليه!

ولم يغير ذلك شيئًا في ثقة السعدني أو سلامة نفسه، كان يملك سلاح المصري العنيد، وتعويذته التي تحفظه في كل العصور من كل الشرور، وهي حاسة الفكاهة العريقة التي يُحول بها المصري مآسيه إلى مرحٍ وضحكات مُجلجلة، ولا بد لكل ثورة أن تبثَّ عبقريتها وأصالتها بأن تُنجب كاتبها الساخر يُسجل ويُفسر مفارقاتها، وكان محمود السعدني، ابنها البار ولسان حالها النابض، وأيضًا أصبحت رباعية الولد الشقي ملحمتها الشعبية الأولى.

•••

ولم يُقدر — مع هذا — للحلم أن يطول، وكان لا بدَّ أن يُصيبه ما أصاب أحلامًا كثيرة، ووقعت الكارثة، ورحل المخلِّص فجأة، وسقط الظلام على كل شيء بين صدمة وذهول الجميع، وبدت مصر كأنما حكم عليها ألا تُحقق نفسها أبدًا.

انقضَّت القوى المضادة على الثورة بعدما فُتحت لها الأبواب، وانكفأت في حقدٍ محموم تُعيد كل عقارب الساعة، وتُجهِز على كل شيء.

وبدأت سنوات المحنة، وكان لا بد أن يكون الولد الشقي بين أولى ضحاياها، وحينما قرَّر له أن ينجو، جمع أوراقه وحمل عصاه وقرَّر أن يرحل، أن يهجر معشوقته ومحور حياته مصر، ولم يكن وحده. لقد ذهب معه موكب عريض من صفوة الكتاب والصحفيين والأساتذة ممن لم تعُد تسعهم مصر.

رحل الولد الشقي ولم يكن ذلك مجرد سفر، ولكن اقتلاع من أرض، لا يمكن أن يعيش أو يترعرع إلا فيها.

وفي المنفى لم يشأ السعدني أن يعثر على برج وثيرٍ من العاج يلوذ به، ولم يبحث عن بلاط أو نظام يحتمي في كنفه، وغلب الطبع التطبُّع، واختار منفاه في لندن.

ومن تقاليد الإمبراطورية التي ما زالت حية، أنه يُمكن قهر الشعوب، ولكن يجب حماية الثوار والأحرار بشرط أن يلجئوا إلى لندن. واحتمى السعدني بالقاعدة، وقرر أن يمارس الشقاوة هناك، أن يشرع قلمه ويقاوم، وأن يُصدر مجلة يثأر فيها لخيانة الثوار وإهدار حقوق أولاد البلد.

وبدا المشروع حلمًا من أحلام اليقظة يعيش به زمنًا رغدًا، ولندن مهما كانت غابة كثيفة تحفل بالأخطار، وكان الرئيس السادات قد أصبح برغم كل شيء نجمًا في الغرب، بل وصنعوا منه سوبر ستار، ولن يسمحوا لأحد بأن يخدش الصورة التي شحذوا جهدهم وأنفقوا الملايين لاختراعها. وقد يحمي البريطانيون الأحرار ولكنهم يُقدسون مصالحهم، وليس لهم أعداء أو أصدقاء، ولكن لهم دائمًا مصالح!

وترنَّحتُ — وهو يروي لي المشروع — بين الحذر والانبهار، تذكرتُ أحد العرابيِّين المجهولين، دوس محمد رحل إلى لندن بعد هزيمة الثورة، ولا يعرف شيئًا أو أحدًا، وأقام في قلعة الاستعمار خلال ذروة الإمبراطورية ليُدافع عن عرابي، وليُصدر نشرة بالإنجليزية يوزعها بنفسه. ثم كتب كتابًا لا يزال إحدى شهادات العصر.

وتذكَّرت إمام المنفيِّين جمال الدين الأفغاني ومجلَّته العروة الوثقى في باريس، التي أصدرها بعد أن نفاه الخديو، وتسلَّلت إلى كل الأراضي العثمانية، وتذكَّرت أديب إسحاق الذي بعث به رجال الحزب الوطني العرابي ليُصدر جريدة الحزب في باريس، ثمَّ يُهرِّبها إلى مصر لكي تُباع سرًّا، وأحيانًا بجنيه ذهب للنسخة الواحدة.

وتذكرتُ يعقوب صنُّوع الذي بدأ ذلك حينما نفاه الخديو إسماعيل، وظل مثابرًا على إصدار المجلة حتى مات، بعد عمر طويل، يُضيف محمود السعدني صفحة أخرى إلى هذا التراث، ويُثبت استمرار مصر وصمودها.

ولدهشة الجميع صدرت المجلة وحملت اسم ٢٣ يوليو، ولم تلبَث أن بهرت الجميع وأصبحت حديث العرب. أصبحت مكاتبها في حي إيرلز كورت مجمعًا سياسيًّا ثقافيًّا لكل الأحرار والمعارضين والكتَّاب والفنانين والسياسيِّين، أصبحت من معالم بريطانيا بالنِّسبة لكل عربي. وكان روحها والدينامو الذي يُديرها هو محمود السعدني، ويُمكن أن تسمع ضحكاته تُجلجل عن بُعد، وخلال أربع وعشرين ساعة كل يوم.

كانت تصدر أسبوعيًّا وتتسلَّل بأعداد كبيرة إلى مصر، وأصبحت تتصدَّر قائمة المهرَّبات التي يدسُّها كل مصري بين ملابسه أو في قاع حقائبه، وتضخَّم توزيعها في العالم العربي، وفي أقصى أطرافه وحيث لم يتوقَّع أحد أن توزع، وكانت تُصيب المسئولين في ذلك الحين بنوبات أسبوعيَّة من الصرع، واستبسلوا في حصارها أو تقويضها أو إغلاقها، ولكن بلا جدوى.

ومهما كان نجاحها، إلا أنها كانت سباحةً ضد التيار، ولم يكن تيارًا أو إعصارًا واحدًا ولكن طوفانًا، وسبحت فيه تماسيح وأسماك قرش كثيرة، وكان على السعدنيِّ أن يقف مُتصديًا وأن يتَّقيها من كل اتجاه.

•••

ولم يلبَث الكرب أن زال، وقد جاءت النهاية مأساوية مُروِّعة.

وفي الصباح التالي على الفور أعدَّ السعدني حقائبه … لم يعُد هناك معنًى للبقاء لحظةً أطولَ خارج مصر، ولم يعُد هناك معنًى أو طعم لأي شيء في لندن، لا العشاء في الكازانوفا كلوب ولا التسكُّع في مقاهي بيزوتر ولا المشتريات من أوستن ريد ولا حتى مُشاغبة العرب في بلاي بوي.

ولم تُجدِ النصائح بالتروِّي والتمهُّل وإلى أن تتَّضح الأمور، وأصبحت العودة حُمى تستبدُّ به، وانهالت الخطابات والبرقيات والمكالمات في كل ساعات الليل والنهار، لا يهمُّ أي شيء ولا بدَّ أن يعود ولو ليجلس على باب السيدة أم العواجز، واستغرقت مراجَعة المحاضر والملفات بعض الوقت، ولكن في النهاية عاد محمود السعدني إلى الجيزة.

وفي اليوم التالي، بدا كأنه لم يُغادرها قط، ولم يخرج من حارة رابعة.

وتوافَدَ المُهنِّئون على قهوة المعلِّم حسن — مقرِّه المختار — وأصبح الغداء والعشاء وكل الوجبات طواجنَ مع المعلم إبراهيم نافع، وكل ليلة وسهرة لا بدَّ أن تنتهي بالشيشة العجمي في مقاهي الحسين.

عاد الولد الشقي رافع الرأس إلى الحارة وأهل الحتَّة. وجلس ليرويَ بالتَّمام والكمال كل ما جرى له في بلادٍ لا تركب الأفيال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥