وكما شاء الرئيس!

أنا أولًا وقبل كل شيء لم أحلم في حياتي بأنني سأُغادر يومًا ما أرض مصر وأن أترك مصر! أنا، الذي سقَط رأسي على شاطئ الريَّاح المنوفي، الذي بلعط في مياه ترعة سبك، وهي ترعة ليس لها مثيل في الكون؛ لأن فيها من الطين ضِعف ما فيها من الماء. ونشأتُ وترعرعت في حواري الجيزة، وعشقتُ تراب الحسين، وبِرَك المدبح، وتلال زينهم، وعيون فم الخليج، وقضيتُ أعوامًا من حياتي عائمًا على سطح مياهِ النيل، وعشتُ سنوات طويلة من حياتي في سجون مصر.

ولعلِّي الكاتب المصري الوحيد الذي تربطه صلة صداقة متينة مع عشرات الحرفيِّين والمهنيِّين من أبناء مصر، وزراء ومُديرين ومثقَّفين وجُهلاء وموظَّفين وصيَّاع وأصحاب ملايين وأصحاب ديون وفلاحين وإقطاعيِّين وفنَّانين وأغنياء وموهوبين ومدَّعي الموهبة!

وأنا أعتبر نفسي، فنيًّا، ابنًا بارًّا لبيرم التونسي وكامل الشناوي ومحمد التابعي وزكريا الحجاوي ومأمون الشناوي، وسياسيًّا أنا وفديٌّ في البداية، ناصري منذ عام ١٩٦٤م وحتى أُبعث يوم القيامة، ثم أنا في مصر مشهور شُهرة أهرام خوفو، وخلال أيام الصياعة وأيام الشُّهرة لم أُغيِّر أصدقائي ولم أنتقِل من الجيزة إلى الزمالك، وكانت قهوة حسن عوف هي مكاني المختار حتى عندما كان الوزراء في مصر يخطبون ودِّي، ودكان أحمد الحلاق كان هو النايت كلوب الذي أقضي سهرتي فيه مع الحاج إبراهيم نافع، والحاج سيد مخيمر وسرور أبو هاشم وأحمد عبد العال ومحمد حوالة، وجميعهم تجار وفلاحون، ولا علاقة لهم من بعيد أو قريب بالصحافة أو السياسة، وعندما ألقي القبض عليَّ في عام ١٩٧١م نتيجة مؤامرة لإزاحة الجناح الناصري في السلطة المصرية، اعتُبرت أنا رأس الحربة في هذا الجناح، لم يغفر لي الدور الذي لعبته على المستوى الشعبي في صف الحكم الوطني أيام عبد الناصر، كان هيكل هو السفير الناصري في الدوائر العالَمية والدبلوماسية، وكان العبد لله — بدون تواضُع — هو السفير الناصري إلى مصاطب الفلاحين ومصانع العُمال ومقاهي الصياع وقعدات فتوَّات المدبح وجدعان الحسنية.

كان بريدي في روزاليوسف هو أضخم بريدٍ عرَفه كاتب مصري في الستينيات من هذا القرن؛ ولذلك أنفق الدكتور حاتم عشرات الألوف من الجنيهات لبعض الصحف المأجورة في بيروت لتشتمني بينما كنت رهنَ الحبس وقيد الأغلال.

والحق أقول: إنه حدثت وساطات من أجلي وشفاعات تقدَّم بها بعض الرؤساء، منهم على سبيل المثال العقيد القذافي. ولقد قال لي العقيد عند لقائي به عام ١٩٧٥م: لقد قلت للرئيس السادات إن وجود محمود السعدني في المؤامرة هو مجرَّد نكتة. وردَّ السادات على القذافي: لقد سبَّني يا معمر وسب بيتي، وأنا لستُ حاقدًا عليه، ولكني غاضب عليه فقط، وسأُعاقبه بأن أشدَّ أذنه. وضحك العقيد القذافي وهو يروي لي القصة وقال: لقد صدق الرجل فيما وعد به. لقد كان الحكم عليك مطابقًا لوعده.

والحقيقة أنني لم يكن لي دور فيما يُسمَّى بالمؤامرة، ولم أعلم بهذه المؤامرة إلا عندما بدأ النائب العام استجوابي، كانت كل جريمتي أنني رويتُ أكثر من نكتة على رئيس الجمهورية، وهي نكت مسجَّلة لأنني رويتُها في التليفون لأصدقائي. وعندما أُفرج عني فجر اليوم التالي لموعد الإفراج، ظننتُ أن الأمر انتهى، أنا أخطأت — على فرض أنني أخطأت — وقد نلتُ عقابي وانتهي الأمر، ولكني فوجئتُ بأنني مفصول من مؤسَّسة روزاليوسف، وأنني ممنوع من الكتابة، وأنه محظور على الصحف نشر اسمي حتى في الوفيات!

والحمد لله لأنني لم أمُت في تلك الأيام، إذن لما عرَف الناس أنني متُّ، وربما لم يذهب خلفي أحد إلى دار السلام. ولقد حدَث خلال تلك الأيام أن ذهبت إلى مكتب عمل الجيزة أطلب ورقة رسميَّة بأنني عاطل كما يتضمَّن القانون، ولكن مُدير المكتب رفض، واتَّصل بمدير المباحث العامة الذي نهاني عن طلب هذه الورقة، وقال: إن كل شيء سينتهي على خير.

وكتبت مسرحية بعنوان ٤-٢-٤، وذهبت بها إلى يوسف السباعي وزير الثقافة فوعدني بعرضها على رئيس الجمهورية! وقلت للعم يوسف يرحمه الله: مسرحية هزلية تحتاج إلى موافَقة رئيس الجمهورية؟ فردَّ العم يوسف: لن أضحك عليك، أنت تعرف أن قضيَّتك مع رئيس الجمهورية، وهو وحده الذي يُقرِّر ولا أحد سواه!

واتَّصل بي ذات صباح الزميل أحمد رجب وقال لي: إن رئيس الجمهورية وافق على أن تنشر كتبك القديمة. وسألت أحمد رجب: ومَن الذي يرضى بنشرها والكل يعلم أن الرئيس يعاديني؟! قال في مؤسسة روزاليوسف، وسأُخبر رئيس المؤسسة الآن. واتصل برئيس المؤسسة الذي شتمني في سجني.

المهمُّ أن رئيس المؤسسة أحالني إلى لويس جريس، وقال لويس جريس بطريقته: وهاعمل إيه يا عم محمود، عندنا عشر كتب لما نطبعها نبجى نطبع كتابك، ما أنت عارف يا عم محمود! وجاء الفرج أخيرًا، رقَّ قلب كبير العائلة وأمر بتشغيلي، ولكن بعيدًا عن الصحافة.

ولم أُدرك الحكمة من هذا القرار. فلو فرضنا أنني حدَّاد أو نجَّار أو تاجر خضار واشتركت في مُؤامرة ودخلتُ السجن ثم خرجت من السجن فهل أترك تجارة الخضراوات إلى الهندسة؟ لقد كنتُ صحفيًّا وسأبقى صحفيًّا وسأموت صحفيًّا وسأُبعث يوم القيامة في كشف نقابة الصحفيِّين. إن أحدًا لا يستطيع أن يصنع كاتبًا. يُمكن صناعة وزير أو رئيس وزراء أو حتى رئيس جمهورية ولكن لا أحد يستطيع أن يصنع كاتبًا أو مُطربًا؛ لأن الموهبة منحة من عند الله.

ووجدت نفسي في شركة المقاولون العرب، فأنا لديَّ نقطة ضعف مع عثمان أحمد عثمان، فأنا أعرفه منذ زمن بعيد، والحق أقول: إنه الوحيد الذي كان معي رجلًا خلال محنتي الأخيرة، كان من أصدقائي وزراء وكبراء وأصحاب نفوذ وأصحاب ثراء، ولكني اكتشفت لحظة المحنة أنهم جميعًا بلا أخلاق وبلا ضمير، الوحيد الذي كان رجلًا هو عثمان أحمد عثمان؛ ولذلك وافقتُ على العمل مع عثمان بعض الوقت على أمل أن أعود بعد فترة إلى مهنتي التي خُلقت لها وهي الصحافة.

ولقد صارحتُ عثمان بذلك منذ اليوم الأول، وقال لي عثمان وهو يضحك: إن كل مصري يتمنى العمل في شركة المقاولون العرب، وأنت الوحيد الذي يرفض هذا، إنك مجنون! وبعد نقاش طويل قال لي عثمان: اطمئنَّ، إن الرئيس قلبه كبير، وستعود إلى مهنتك عما قريب، وأنا أعدك بذلك.

وسافرتُ للحج مع عثمان، ثم عدت من هناك لأفاجأ بأنني مطلوب في قضية أخرى أمام محكمة جنايات أمن الدولة بتهمة سب موظفين عموميِّين، هم حضرات السادة ورؤساء ومديرو مؤسسة السينما المصرية، وكنت قد اتهمتهم بتبديد مبلغ ٨ ملايين جنيه خلال السنوات التي تولَّوا فيها أمور المؤسسة.

والغريب في الأمر أنني لحظة نشر مقالاتي في صباح الخير لم يتحرك أيُّ أحد منهم، ولكنهم تحركوا جميعًا ولجئوا للقضاء بعد سجني في قضية المؤامرة. ولقد انتهزوها فرصة للقضاء عليَّ، ولكنهم أفادوني من حيث أرادوا الإضرار بي، وكانت هذه القضية فرصة ذهبية لمغادرة سجني الكئيب عدة مرات للمثول أمام المحكمة التي لم يُقدَّر لها نظر القضية خلال فترة سجني، والتي انتقلت دائرة قضائية إلى دائرة أخرى حتى انتهى آخر الأمر إلى دائرة المستشار زكريا حذيفة، وهو قاضٍ شهير خرج في حركة تطهير القضاء التي جرت في عام ١٩٦٩م.

ومرةً أخرى سافرت إلى بيروت في مُحاولة لتأجيل نظر القضية، وعدتُ لأفاجأ بأن القضية قد تأجَّلت لمدة أسبوع، وأن عليَّ أن أمثل أمام قضاتي في اليوم التالي لوصولي من بيروت.

ولقد كانت هذه القضية سببًا مباشرًا في تأكيد احترامي للقضاء المصري. وهي في النهاية ورقة ناصعة في كتاب القضاء المصري العظيم. لقد انقلبت المحاكمة إلى مظاهرة سياسية، وحضر للدفاع عن العبد لله عشرة محامين على رأسهم شيخ المحامين المصريين الدكتور محمد عبد الله، وضمَّت قائمة الدفاع صبري مبدي وعباس الأسواني وصالح فراج وعبد الرءوف علي وآخرين، وقضت المحكمة ببراءة العبد لله، وجاء في حيثيات الحكم: حيث إن مؤسسة السينما كانت فاسدة فإن القائمين عليها بالضرورة كانوا فاسدين! ولكن هذا الحكم الذي صدَر لصالح صحفي، لم تقبل صحيفة واحدة بنشره، واضطررت لنشره في الإعلانات المبوَّبة بجريدة الأهرام، ونشروه بالأجر لكن بخطٍّ لا يُرى، وفي مكان إعلانات بيع السيارات المستعملة وتأجير الشقق المفروشة!

وعدت من جديد أطالب بعودتي إلى روزاليوسف، وكان من المُمكن أن أستمرَّ في المطالبة مع استمراري في العمل بالمقاولون العرب، غير أنني اكتشفت فجأة ما جعلني أتخذ قراري بمُغادرة مصر إلى بلاد الله لخلق الله.

فقد سعيت للسفر مع ابنتي هالة لاستكمال علاجها في لندن، وعندما ذهبتُ للحصول على تأشيرة الخروج طلبت مني مصلحة الجوازات خطابًا من شركة المقاولون العرب بأنها موافقة على سفري إلى الخارج، وعدتُ إلى الشركة والتقيتُ مع المدير العام الذي كان يعرف صلتي بعثمان، لكنه لا يعلم على وجه التحديد مشكلتي. وفوجئت بالرجل الطيب يصارحني بأنني لستُ موظفًا في المقاولون العرب، وأنني مفصول من خدمة الحكومة والصحافة والقطاع العام بقرار جمهوري، وهو بمثابة فرمان إلهي لا يقبل النقض أو التعديل. وسألت الرجل: وكيف أتناول مرتبي من الشركة إذن؟ وردَّ ببساطة أنها نُقود تدفع لي من جيب المهندس عثمان ولا علاقة للشركة بها!

يا سبحان الله! إذن لقد خدعني عثمان وخدعني الجميع، وأنا لستُ موظفًا في المقاولون العرب منقولًا من روزاليوسف، ولكنني عاطل أتقاضى حسنة من جيب عثمان! وهل أصبحت جثَّة إلى هذا الحد؟ ولكني أصبح جثَّة بالفعل لو ارتضيت هذا الوضع. إذن لا بد من الهجرة، وإلى أي مكان حتى لو اضطرَّتني الظروف إلى العمل حمالًا في الميناء أو عامل نظافة في الطريق العام.

وعندما جلستُ أمام مديرة إدارة التأمينات الاجتماعية لأحصل على مكافأتي نظير سنوات الخدمة، قال لي الرجل شحاتة فانوس الذي أحيل للمعاش منذ سنوات: إن الذي أمر بفصلك حمار؛ لأنه لا يحقُّ فصلك؛ لأنك تعمل بالصحافة، والصحافة ليست دائرة حكومية، كما أنها ليست من دوائر القطاع العام.

سألته: ولماذا تُصرف المكافأة إذن؟ قال: لأنني أيضًا حمار، وأنت أيضًا حمار لأنك ستَقبض المكافأة. على أية حال، إذا كنت في حاجة إليها فخُذها. ولحظة انتقال السلطة من هذا الرئيس إلى رئيس آخر فستحصل على حقوقك كاملة، فأنت من الآن وإلى أن يتمَّ انتقال السلطة محرِّر في روزاليوسف وحقوقك محفوظة بشرط أن تبقى على قيد الحياة بعد ذهاب الرئيس!

وهكذا تناولت المُكافأة وطرت مع هالة إلى لندن، وفوجئت في عاصمة البريطانيِّين بأن حجرة المستشفى التي كانت بعشرين جنيهًا قد قفزت إلى المائة، وحاول بعض الأصدقاء مساعدتي، منهم الطيب صالح وإدجار فرج ونور السيد، ولكن لأن إمكانياتهم ضئيلة فقد جاءت المساعدات في حدود الإمكانيات وبقيت المشكلة بدون حل. وأرسلت أستدين نقودًا من كل من أعرفه خارج حدود مصر. واستجاب أصدقاء كثيرون، ومدَّ لي يد المساعدة منهم فؤاد مطر والمرحوم زكريا الحجاوي وطلال سلمان وأمين الأعور الذي كان سخيًّا إلى أقصى حدود السخاء!

وانتهت مشكلة هالة مؤقتًا، فقد كان أمامها عمليات جراحية أخرى لا بدَّ من إجرائها قبل أن تستوي واقفةً على قدمَيها بإذن ربي!

وهكذا سافرت هالة إلى القاهرة وبقيت وحدي في لندن في انتظار أن أسمع خبرًا من هناك بأن مشكلتي في طريقها إلى الحل. ولكن الأنباء جاءت عكس ما أشتهي؛ فقرار الرئيس مقدَّس، وعليَّ أن أخضع لمشيئته، فأنا صحفي سابق، ومشرَّد رسمي في شركة المقاولون العرب، أتقاضى إكرامية من جيب المهندس عثمان، ومن يدري ماذا يحدث غدًا! قد أُصبح متسولًا أهليًّا أتقاضى الإكراميات من جيوب المحسنين!

وقضيت أيامًا صعبة في لندن أقلب الأمر على جميع الوجوه، هل أعود إلى القاهرة وأخضع؟ هل أقبل الأمر الواقع؟ هل أرضى بالمقسوم وأعيش حياتي كما شاء الرئيس لا كما شاء الله؟! ولكن أي حياة ستكون حياتي؟ لقد خلقني الله صحفيًّا أشم رائحة الورد بين ماكينات الطباعة وفي عروقي يتدفق حبر أحمر. ونظرت إلى ما يدور حولي في لندن وابتسمت، هل يوجد في لندن أي صحفي ممنوع من العمل في المهنة لأنه على خلاف مع مستر ويلسون؟ هل رأيتم في لندن صحفيًّا يجلس على المقهى لأنه في عراك مع المستر كالاهان؟ لماذا نحن دون خلق الله نعيش وفقًا لإرادة الرئيس ورهنًا لمشيئته؟ ونحن من؟ نحن أهل مصر ولسنا أهل غينيا الاستوائية.

إن كل شيء ممكن في أفريقيا الوسطى تحت حكم الإمبراطور بوكاسا، ولكن هل يمكن أن تتحول مصر إلى أفريقيا الوسطى؟!

وبعد أيام طويلة امتدَّت إلى أسابيع أحسستُ بالراحة تملأ نفسي، وبالطمأنينة تخفق مع شرايين قلبي. لقد قرَّرت العودة.

نعم قررتُ العودة إلى الصحافة!

وفي البدء كانت لديَّ عدة عروض، عمنا المرحوم زكريا الحجاوي أرسل لي خطابًا يحثني فيه على الذهاب إلى قطر. قال: إن شخصًا اسمه الحسيني يصدر مجلَّة اسمها العهد ويرغب في إسناد رئاسة تحريرها لشخصي الضعيف، وفي الخطاب استغاثة من العم زكريا: أن أسارع بالذهاب إلى هناك. وشعرت بالألم يعتصر قلبي ويدميه. فزكريا قطعًا في أزمة، وهي بالقطع ليست أزمة مادية ولكنها أزمة عاطفية على وجه اليقين. فزكريا الحجاوي في قطر أشبه بفلسطيني في حارة يهود.

زكريا الحجاوي الذي حمل على رأسه هم الفلاحين وغمَّهم وطاف بقرى الريف المصري مدَّ يده إلى كل موهبة في طينٍ مصر، والذي كانت رائحة روَث البهائم في القرية المصرية تنعشه وتفجر براكين الحياة في جسمه البدين زكريا الحجاوي الذي مارس الجنس مع الأرض المصرية من شدة عشقِه لها، ماذا يفعل مثل هذا الفنان في قطر؟! حيث الهواء مشبع برائحة النفط، وحيث المواهب هي أحقر سِلعة في سوق العمالة هناك، وحيث المُتصارعون في الحلبة لا هدف لهم إلا جمع المال وتكديسه بأقصى سرعة مُمكنة، ثم الهروب من هناك إلى حيث يُمكن استئناف الحياة من جديد.

زكريا لا بد في حاجة إلى صديق؛ صديق يذكِّره بمصر الطيبة، مصر الصياعة والفن والتجوال بلا هدف. وكان لديَّ عرض آخر من أبوظبي، دار الوحدة، ولديها مجلَّة اسمها الظفرة، وجاء بالعرض جلال كشك، وأنا بعدُ في القاهرة، ورفضته في البداية، ثم عدت من جديد لأفكر فيه.

ولكن سطور زكريا الحجاوي شدَّت أذني ولوت عنقي نحو قطر. وحكمة الله أنني كنت أضع زكريا في مرتبة أمي. وكان حبي له بلا حدود، وأحيانًا كثيرة تشاجَرت مع زكريا، وأحيانًا أخرى خاصمته، ولكنني كنت دائمًا أعود إليه كما يعود الولد الشقي إلى أمه. وكنتُ أجلس إليه أستمع إلى أكاذيبه وخرافاته كأنني يهودي مُخلِص يستمع إلى مزامير داود.

وما أكثر المرات التي خدعتُ فيها زكريا الحجاوي وأخذته عنوة معي إلى مشاوير بعيدة ومهام لا علم له بها، وكان يتقبل الأمر في النهاية بصدر رحب وبضحكة صافية عميقة.

ذات مرة اتصل بي محافظ بورسعيد وأفهمني أنه يعتمد عليَّ في إلقاء محاضرة مساء الغد أمام القيادات الإدارية والسياسية في المدينة. ولم أكن مستعدًّا لإلقاء المحاضرة، ولم تكن لديَّ الرغبة في ذلك، فاتصلت بزكريا الحجاوي، وقلت له إنني ذاهب إلى قرية في الريف؛ لأن معركة عنيفة نشبت بين عائلتَين هناك، إحداهما تمتُّ لي بصلة قرابة، وأنا ذاهب لمحاولة عقد الصلح بين الطرفَين. وساد الصمت بيننا لحظةً، قطعه زكريا قائلًا: متى نذهب؟ قلت الآن. قال: سأذهب معك.

وطوال الطريق إلى بورسعيد راح زكريا يسألني عن اسم القرية واسم العائلتَين المتصارعتَين؟ وفي كل مرة أخترع له اسم عائلة واسم قرية، ونام زكريا في الطريق واستيقظ أمام مبنى محافظة بورسعيد، وتركنا السيارة إلى قاعة تضيق بالناس من مختلف الأعمار. ودوَّت عاصفة من التصفيق. كل ذلك وزكريا ينظر نحوي في ذهول. وأمسكت بالميكرفون باعتباري المحاضر، ولكني قلت للحاضرين: لقد جئتُ إليكم الليلة لأستمع، فلا يجوز لمثلي أن يتكلَّم؛ لأنه لا يُفتى ومالك في المدينة. أيها السادة، أقدم لكم عمنا الكبير زكريا الحجاوي، فليتفضل. وضجَّت القاعة بعاصفة شديدة من التصفيق والهتاف، ومال زكريا على أذني قائلًا: مش هتبطل مقالب يا ابن الكلب.

وابتسمت لزكريا، وقلتُ بصوت عالٍ: تفضَّل أستاذنا. وكانت ليلة ولا كل الليالي، تجلى زكريا كأروع ما يكون المحاضر، وسهر الناس معه حتى «الفجر»، وسهرت مع زكريا حتى الصباح أضحك معه على المقلب الذي شربه وهو في غاية الانشراح.

وكان لا بد أن أذهب إلى زكريا، وبالفعل ركبت الطائرة إلى الدوحة، وكان في مطار الدوحة زكريا الحجاوي في انتظاري والصديق الطيب صالح والحسيني رئيس تحرير مجلة العهد، ومن أول نظرة للأخ الحسيني أدركتُ أنني لن أعمل معه.

وقضيتُ في قطر ثلاثة أيام كانت من أجمل أيام العمر، وكانت هي أيضًا آخر عهدي بزكريا الحجاوي، لم يقع نظري عليه بعد ذلك، ومات غريبًا في المنفى يتحسَّر على أيامه في القاهرة، ويبكي كلَّما جاء ذكرها في مجلسه.

انتهت مُفاوضاتي مع الحسيني بالفشل. كان لديه إمكانيات ضئيلة، ويحلم بإصدار مجلة في حجم النيوزويك! ولم تكن له صلة سابقة بالعمل الصحفي، وكان يعتقد في قرارة نفسه أنه سيقضي على جريدة الأهرام … وتركت الدوحة رغم توسُّلات زكريا الحجاوي. لقد قررتُ العودة إلى الصحافة، ولم تكن العهد هي الصحافة التي قرَّرت العودة لها، وهكذا طرت من جديد إلى أبوظبي. وفي أبوظبي فاتَحني الزميل مصطفى شردي لأعمل في دار الوحدة.

وقلت لمصطفى:

لقد كان لديَّ عرض سابق، ولا مانع من مناقشة الأمر.

وهكذا دخلت دار الوحدة برفقة واحد اسمه إبراهيم المطيري، سيُصبح صديقًا لي فيما بعدُ. كان إبراهيم هو مدير التحرير الذي سأحلُّ محله. وكان يدير التحرير بطريقة تثبت أن موهبته الأصيلة هي الملاكمة ولكنه أخطأ طريقه في الحياة، وكان يقرأ الجريدة بصعوبة، ومع ذلك كان المكلَّف بمراجعة المواد، وكان شديد الطيبة في أعماقه، شديد الغطرسة في الظاهر، وكان يتعمَّد إظهار أسوأ ما فيه ويُجاهد كثيرًا لكي يُخفي مشاعره الطيبة. ونجحت في تحويل إبراهيم من وحش مُفترس إلى حيوان أليف. وقرَّرت العمل في جريدة الوحدة؛ فقد كان لديها فرصة لتُصبح واحدة من الجرائد المؤثِّرة في الخليج.

  • أولًا: لأن صاحبها كان جادًّا في الوصول بها إلى هذه المرتبة.
  • ثانيًا: لأن الجو السياسي في أبوظبي يختلف عن جو الدوحة. ففي أبوظبي نسبة كبيرة من الحرية، وللصحافة حق الخوض في مواضيع محرَّم على صحافة الدوحة أن تخوض فيها أو تتعرَّض لها، ثم هناك جريدة هي بالقطع أفضل من جرائد ليبيا والجزائر والعراق معًا؛ وأقصد بها جريدة الاتحاد. ثم هناك عشرات من الصحفيِّين من مصر وسورية وفلسطين إلى جانب عشرات آخرين من الأرزقية امتهنوا الصحافة باعتبار أنها أفضل من السرقة والتهليب وكل شيء يغضب الله!

وقضيت عشرة أيام داخل دار الوحدة، ثم قرَّرت أن أهرب من الدار ومن أبوظبي كلها. لقد اكتشفت قانونًا غير مكتوب، ولكن تنفيذه واجب على الجميع، إن موازين القوى في الخليج تُحتِّم تعيين أعداد مختلفة من جميع الجنسيات في العمل الواحد، بمعنى أنك لو كنت في حاجة إلى عشرة صحفيين، فلا بدَّ أن يكون ثلاثة منهم مصريين وثلاثة فلسطينيِّين وواحد سوري وواحد سوداني وواحد هندي، وواحد يمَني مثلًا، أو بلوشي أو إيراني، أو ما تيسر من الجنسيات. وقد يكون مفيدًا تطبيق مثل هذا القانون في عمل تجاري مثلًا، ولكن في عمل صحفي، اسمح لي!

ولكنني فخور بالفعل لأنني اكتشفت خلال تلك الفترة القصيرة كثيرًا من المواهب لو سنحت لها فرصة حقيقية لقدَّمت عطاءً كثيرًا. بلا شك، الفنان محمد العكش الذي لا بد أن يُذكر يومًا ما في تاريخ صحافة الإمارات بأنه أسهم مع آخرين مثل مصطفي شردي بمجهود رائع في خدمة المهنة وازدهارها في هذه البقعة من أرض العرب، وهندي غيث المصري، وأسامة فوزي الفلسطيني، وكثيرين غيرهم، حفروا في الصحراء بأظفارهم لتمهيد الطريق أمام الصحافة الناشئة.

وحقيقة أذكرها الآن من باب العلم بالشيء: أنني لم أتقاضَ أجرًا عن الأيام العشرة التي قضيتها في دار الوحدة، وأنني آثرت السفر إلى بيروت تاركًا حقيبة ملابسي في عهدة إبراهيم المطيري. وحتى هذه لم تصلني إلا بعد أسابيع كثيرة من سفري، ولكنها على أية حال كانت تجربة مفيدة. لقد أكدت لي أن الخليج ليس هو بحر الرمال المتحركة ولكنه بحر الحياة المتطورة والآمال العريضة والمستقبل الغامض الحافل المتخم بالفرص والمفاجآت. وآه على مصير الموهوبين الذين مكنت لهم خلال فترة إقامتي القصيرة هناك! لقد خلا الجو بعد رحيلي لعديمي المواهب فافترسوهم بعد ذلك. ولكن لأنه لا يصح في النهاية إلا الصحيح فقد عادوا من جديد لتسير القافلة؛ ذلك لأن الموهبة كالجريمة لا بد أن تنكشف يومًا ما!

•••

هبطت بي الطائرة صباح عيد رأس السنة ١٩٧٥م في بيروت. في الطريق من المطار إلى فندق استراند قرأت في جريدة بيروت نبأ مظاهرات في القاهرة وحرائق هنا وهنا، والقبض على عشرات من المتظاهرين والبحث عن آخرين بتهمة إحراق القاهرة، وبيان من وزير الداخلية بأن الأمر كان مدبرًا من قبل، وأن هناك مؤامرة سعت إليها أطراف عديدة، ووعد من وزير الداخلية بالضرب بيد من حديد لسحق المؤامرة والمتآمرين. يا سبحان الله! لو أنني كنت في القاهرة لكنت الآن في سجن أبو زعبل، أو في ليمان طرة على أقل تقدير، ففي المعتقلَين أصدقاء لي، وبعضهم كان يعمل معي أيام التنظيم الطليعي: أمين الغفاري، وعبد الغفار صيام، وسعد كامل، هارب، وهو أيضًا زميل في المهنة وصديق في الحياة.

وها هي ذي الحكومة التي أحرقت الشرائط المسجلة عقب ما جرى ١٩٧١م تعلن أن لديها شرائط مسجلة للمؤامرة الجديدة وصورًا فوتوغرافية.

ما الذي أحرقته إذن الحكومة في ساحة وزارة الداخلية! بينما وقف لواء شرطة يهلل لرئيس الجمهورية: سترت عرض الناس ربنا يستر عرضك.

يبدو أن الذي أحرقوه شرائط مسجلة للسيدة أم كلثوم!

لقد فكرت كثيرًا والطائرة معلقة بين السماء والأرض في طريقها من أبوظبي إلى بيروت أن أعود إلى مصر. ولكن كيف أعود ومثل هذه الحكومة ترى أن أي حركة جماهيرية مؤامرة، وكل تحرك شعبي انقلاب، وكل رأي معارض خائن، وكل صوت حر عميل؟! أين هم أبطال ١٥ مايو الذين سيذكرهم التاريخ كما قال الرئيس نفسه؟ الليثي ناصف لقي حتفه في لندن في ظروف غامضة ومحمد صادق قائد الجيش أطيح به في ظروف أكثر غموضًا. لم يبقَ من الأبطال غير ممدوح سالم وهو يبدو كجندي مخلص في بلاط الملك.

وأين حافظ بدوي؟ لقد تدحرج من فوق وبعد أن كان رئيسًا لمحكمة الثورة ألزموه حجمه بعد أن أدى دوره، وحتى الدكتور حاتم أبعدوه عن الطريق وألزموه المجالس القومية المتخصصة مع أنه لم يتخصص في شيء طوال حياته. أين هم الكتاب الذين هللوا لثورة ١٥ مايو وهي أغرب وأعجب ثورة في التاريخ، وهي ثورة لأن رئيس الجمهورية قام بفصل عدد من الوزراء يعملون تحت رئاسته؟ أين هم؟ لقد منع بعضهم من الكتابة بينما احتل الساحة الكاتب صلاح راتب، شقيق الوزيرة عائشة راتب، ولكنه اختفى باختفائها! حكومة مثل هذه البعد عنها غنيمة والعيش بعيدًا عنها خير وأبقى. ومصر التي أعشقها ليست مدنًا وشوارع ومقاهي وقعدات، ولكن مصر هي أولًا روح وحياة ومكان تحت الشمس … لذلك قررت البقاء في بيروت!

وفي بيروت بدأت البحث عن عمل. اتصلت في البداية بأستاذنا الطيب سعيد فريحة، يرحمه الله، رحَّب الرجل بي على الفور ودعاني لوليمة كبرى في فندق فخيم. وحضر الحفل أمين الحافظ رئيس وزراء لبنان السابق وبعض الصحفيين. وقال لي الرجل الطيب سعيد فريحة ونحن على مائدة الغداء: سأكلم الرئيس السادات بشأنك وأرجو أن يوافق على أن تعمل معي في الصياد. إن الصياد تحتاج إلى حقنة من الدم الخفيف، وأعتقد أنك قادر على أن تعيد النبض إليها!

وأضاف: سأسافر إلى القاهرة وأعود بعد أسبوع، وأرجوك عاود الاتصال بي بعد العودة وأتعشم أن يكون خيرًا بإذن الله.

ولقد كان حاضرًا معنا هذا اللقاء رجل فلاح من الجيزة، هو الحاج إبراهيم نافع. وكنت قد تعرفت به صدفةً في حواري الجيزة، خلال معركة انتخابية اشتركت فيها. وأصبح إبراهيم صديقي منذ تلك اللحظة. بل لا أغالي إذا قلت إننا لم نفترق لحظة منذ أن تعرفت به إلا في السنوات التي افترقت فيها عن مصر.

وأبرز سمات الحاج إبراهيم أنه متفائل؛ فالسماء سوف تمطر بالرغم من عدم وجود سحاب في الأفق، والأحوال سوف تنفرج مع عدم وجود دليل واحد على هذا الانفراج، والدنيا بخير مع أن الأرض كلها شرور ومصائب وآثام. وقال الحاج إبراهيم معلقًا على حديث فريحة معي: لقد انحلَّت المشكلة. اشتغل في الصياد واكتب بعيدًا عن السياسة، واسكن في بيروت، وكن على صلة بمصر. وقلت لإبراهيم نافع: أفلحوا إن صدقوا. وردَّ إبراهيم: الأكيد أن الأستاذ سعيد فريحة صادق. وهززت رأسي موافقًا وقلت. هذا صحيح. وأنا لم أن أقصد الذين في بيروت. ولكني أقصد الذين في القاهرة.

وكان تشاؤمي مبنيًّا على أسس كثيرة؛ فالسلطة كلها في حالة جنون ضد ما يسمى بمراكز القوى والأكثر جنونًا أنهم اعتبروني مركز قوة. وهو أمر غريب حقًّا. لأنني في عهد عبد الناصر سُجنت مرة وفصلت من عملي ثلاث مرات، ومُنعت من دخول الاتحاد القومي مرة والاتحاد الاشتراكي مرة، في الوقت الذي كان فيه الجميع يحتلون أرفع المناصب ويقبضون أعلى المرتبات!

ومن المضحك حقًّا أن السيد حافظ بدوي الذي تولى محاكمة مراكز القوى، ثم تولى رئاسة البرلمان بعد ذلك، تقاضى مبالغ من المصاريف السرية أيام عبد الناصر، بلغت مائة وعشرة آلاف جنيه، بواقع أحد عشر ألف جنيه للمساهمة في مصاريف زواج إحدى بناته. ولحسن الحظ، كان لدى حافظ بدوي عشر بنات تزوجن جميعًا.

وبالرغم من ذلك كان الوضع في محكمة الثورة: حافظ بدوي على المنصة، ملاك بريء طاهر لم يرتكب إثمًا والعبد لله في قفص الاتهام بجرم أثيم مسئول عن الحراسات التي شملتني، وعن المعتقلات التي أقمت فيها! ولكن هذا هو منطق التصحيح وزمان الأعاجيب والألاعيب؛ الزمان الذي أصبح فيه توفيق عبد الحي مليونيرًا، ورشاد عثمان سياسيًّا، وعصمت السادات مستثمرًا، والحاج محمد لطفي من رجال الأعمال!

المهم، عاد سعيد فريحة من القاهرة، واتصلت بالعم سعيد ألف مرة بعد أن عاد إلى بيروت، ولكنه في كل مرة كان غير موجود أو نائمًا أو تليفونه مشغولًا، وتوقفت عن الاتصال، وفهمت أن الأمور لم تكن خيرًا كما كان يرجو عمنا سعيد، واكتشفت السر فيما بعد، وكان الرجل مريضًا يعاني بشدة وخارجًا لتوِّه من المستشفى ويقيم بفندق تشرشل بلندن. وذهبنا لزيارته. الأستاذ علي بلوط رئيس تحرير الدستور وأنا، واستبقاني سعيد فريحة عنده، وكشف لي عن السر. لقد ذهب الرجل إلى القاهرة، وعرض الأمر على الدكتور حاتم، وأمهله حاتم يومًا، ثم سلمه ورقة مكتوبًا عليها بخط حاتم: بالنسبة لمسألة السعدني. لا. لا. لا. لاءات ثلاث كلاءات العرب في مؤتمر الخرطوم، مع فارق بسيط، هو أن لاءات العرب لا تطبَّق، ولاءات القاهرة ظلت تطاردني إلى ما بعد مصرع أنور السادات بعام كامل!

ولقد حاولت المحاولة نفسها مع المرحوم سليم اللوزي وفوجئت بوجود المرحوم علي أمين في مكتبه. وتحدثت مع علي أمين في البداية، ثم تحدثت مع سليم اللوزي، وكان مرحًا كعادته وابن نكتة، قلت له: أريد أن أكتب في الحوادث. قال: ولكنك متآمر فكيف تريدني أن أستخدمك في الحوادث؟ قلت: وما المانع؟ إن لديك في الحوادث لصوصًا وقتلة وفنانين وصعاليك ومحررين، فما المانع أن تستخدم متآمرًا معهم؟ وردَّ سليم اللوزي ضاحكًا: عندك حق، أنا مسافر غدًا مع علي أمين إلى مصر، وسأتكلم مع السادات بشأنك. اتصل بي بعد أن أعود.

واتصلت ألف مرة ومرة بعد ذلك، ولم أوفق أبدًا حتى مات، يرحمه الله!

وبالمناسبة، سليم اللوزي كان صديقًا قديمًا للعبد لله، وسبق لي العمل معه في مجلة روزاليوسف، وكان يعمل وقتها سكرتيرًا للتحرير، وكنت أعمل بالقطعة، ثم كتبت له عدة مقالات في الحوادث، نُشرت في أعوام ١٩٦٤م، ١٩٦٥م، ١٩٦٦م، ثم انقطعت عن الكتابة لانشغالي في العمل السياسي في القاهرة وانقطعت عني موارد كنت في أشد الحاجة إليها!

المهم، واصلت السعي في بيروت، واتصلت بصحفي لبناني كان يعمل في جريدة النهار. وأبرز مميزات هذا الصحفي، أنه كان يحظى بمكانة عالية لدى الجميع؛ فهو صديق للثوار، وصديق للخونة. وهو صديق الحكومات وصديق المعارضة، وهو مع الخارجين على القانون، ومع أجهزة المباحث! وعرضت عليه العمل في جريدة النهار محررًا أو في سكرتارية التحرير، وأمهلني أيامًا، ثم أبلغني بأن الموقف صعب؛ لأن رئيس تحرير النهار في طريقه إلى القاهرة لمقابلة السادات، وتعييني في النهار في هذا الوقت بالذات قد تفسره القاهرة تفسيرًا خاطئًا.

وفي هذه الظروف التي هي أسود من قرون الخروب، اتصل بي الأستاذ طلال سلمان رئيس تحرير «السفير» وعرض عليَّ العمل عنده، فطلبت منه أن يمهلني ثلاثة أيام لأفكر في الأمر، ولكنه بادر في اليوم التالي، ونشر خبرًا في الجريدة يعلن فيه انضمامي إلى أسرة التحرير ككاتب، ولم يكن أمامي إلا أن أوافق فوافقت، وكتبت مقالًا يوميًّا في الصفحة الأخيرة، وكان أول مقال عن الكاتب الذي فقد الوعي، توفيق الحكيم!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥