المعارضة، والحانوتي، والاشتراكي!
أخيرًا جاء المنقذ الذي سينتشل «۲۳ يوليو» من المأزق الخطير الذي تواجهه؛ جاء المهندس الذي ينحدر من أسرة كانت ثرية وعفية ومفترية، واشترك أغلب أفرادها في وزارات عصر الملك فؤاد ومن بعده الملك فاروق، وتولى أحدهم منصبًا كبيرًا في العهد الملكي، ولكن أغرب شيء أن أفراد الجيل التالي للأسرة اعتنقوا الماركسية وكانوا روادها في الأربعينيات. وكان الباب الذي تسربت منه الشيوعية هو باب الخدم. كانت المربيات من إنجلترا، والطباخ من فرنسا، ومدير البيت من سويسرا.
وكان المهندس اياه الذى جاء لإنقاذ المجلة من الإفلاس، قد غادر مصر بعد معركة أكتوبر، وأنشأ شركة كهرباء في عاصمة عربية . واستطاع أن يحقق أرباحًا بلغت خمسة ملايين دولار في عدة سنوات، قبل أن يدب الخلاف بين الحزب الذي ينتمي إليه المهندس والحزب الذي يحكم القطر العربي إياه.
وعندما دب الخلاف، ترك المهندس معدات الشركة ومكاتبها وهرب من هناك، وأقام في أوروبا فترةً، وأعلن في بيان رسمي سياسي هام أن مشكلة مصر والوطن العربي لن تحل إلا ﺑ «التنوير»، وأكد على ضرورة تنوير الناس قبل أي تغيير، وأصدر نشرة باسم التنوير، وعقد مؤتمرًا صحفيًّا في باريس لشرح أهداف التنوير! ولا أدري لماذا اختار التنوير اسمًا للتنظيم الجديد، ويبدو أنه كان تكريمًا لشركة النور التي كان يملكها خارج مصر، والتي حققت له كل هذه الأرباح!
المهم، جاء المهندس المصري إياه، واستمع إلينا أكثر من ساعة نشرح له المشاكل التي تواجه المجلة، والضائقة المالية التي تعاني منها. وكنا ننفق على العدد عشرين ألف جنيه في المتوسط بين الطباعة والشحن وإيجار المكاتب وأجور العمال والمحررين. وبعد أن استمع إلينا باهتمام اقترح لحل أزمة المجلة أن يشرف هو شخصيًّا على عشر صفحات من المجلة، ليشرح فيها أهداف التنوير ولينشر فيها رأي التنوير في الأحداث التي تجري حولنا!
وعندما سألناه عن مقدار مساهمته المالية في المجلة، قال ببساطة إنه لم يفكر في هذا الموضوع، ولكن مساهمته ستقتصر على الناحية التنويرية فقط لا غير. نظرت للمهندس الذي كان يجلس أمامي على مائدة صغيرة في بهو فندق إنتركونتننتال في لندن، وهممت بالقيام بحركة معروفة يقوم بها إخواننا الإسكندرانية في مثل هذه المواقف، ولكني فضلت الانصراف فجأة دون أن أكلف نفسي عناء مصافحة المهندس إياه.
في خلال هذه الفترة التي تعرضت فيها المجلة للمشاكل، خرجت علينا جريدة «اليسار العربي» التي يصدرها الحزب الشيوعي المصري في باريس بمقال عن الحركة الوطنية المصرية في الخارج، وخصت مجلة ٢٣ يوليو بعدة سطور: لقد انزلقت مجلة «۲۳ يوليو» إلى نفس مستوى المطبوعات التي تصدرها وكالة المخابرات الأمريكية، وأن الهجوم على الحزب الشيوعي المصري طليعة نضال الطبقة العاملة والجماهير الكادحة، هو علامة على الأزمة التي تعاني منها الفصائل الوطنية التي تناضل من خندق الأعداء! ويعلم الله أنني لم أكن راغبًا في دخول معركة ضد الحزب الشيوعي المصري، ولكني اضطررت إلى الرد على مجلة «اليسار العربي»، وقلت بالحرف الواحد: إن «اليسار العربي» تعرضت لنا أخيرًا، وتنازلت ونشرت اسم مجلة «۲۳ يوليو»، وهي حسنة نذكرها لها وللحزب الشيوعي؛ لأنها مجلة مبروكة تطبع خمسة آلاف نسخة، بينما المرتجع منها عشرة آلاف نسخة على وجه التحديد، وسألت الله أن ينجينا من غضبتها لأنها من وزن لا نقدر عليه؛ لأنها كالصخرة ونحن مجرد خزف، وويل للخزف إن وقع على الصخر، وويل له إن وقع الصخر عليه! ويبدو أن هذه الكلمات القليلة كانت كافية لإقناع الحزب الشيوعي المصري بعدم التفكير في التعرض لنا مرة أخرى!
حدث شيء غريب في تلك الفترة؛ فقد انعقد في تلك الأثناء مؤتمر للصحفيين المصريين الذين يعيشون في المنفى، وانعقد المؤتمر في باريس، وتقدم أحد هؤلاء الذين يعيشون خارج مصر ببحث عن الصحف الوطنية التي تناضل خارج الحدود. وكان البحث طويلًا استغرق ستين صفحة من الحجم الكبير، ولكن مجلة «۲۳ يوليو» لم تستغرق إلا سطرين اثنين بالتمام والكمال. أما البحث كله فقد كان عن مجلة «اليسار العربي» التي جاء ذكرها في السطور السابقة! واكتشفت أننا ما زلنا نعيش في عصر «الاستعمار على يد سعد ولا الجلاء على يد عدلي»!
ولقد حدثت في هذا المؤتمر الصحفي واقعة طريفة سأذكرها لكم بالتفصيل. فقد حدث أثناء الجلسة الختامية لوضع البيان النهائي أن أعترض الأستاذ محمود أمين العالم على قصر المساعدة على الصحفيين المصريين المعارضين، واعترض على أن تكون المساعدة وقفًا على حكومة العراق وحدها. واقترح العالم أن تكون المساعدة والدعم للصحفيين العرب المعارضين جميعًا، وأن يكون الدعم من جانب الدول العربية كلها.
وردَّ سعد قاسم حمودي نقيب الصحفيين العرب، بأنه لا مانع لديه من هذا التعديل، ولكن بشرط أن يتلقى خطابات رسمية من الحكومات العربية التي ترغب في دعم الصحفيين المعارضين، وقال: إنه لم يتلقَّ ردًّا بخصوص هذا الدعم إلا من حكومة العراق. وأصر محمود أمين العالم، واعتذر سيد قاسم لأن اتحاد الصحفيين العرب جهة رسمية ولا تستطيع أن تعدَ بما لا تستطيع.
وسألت العالم فجأة: ومن هم الصحفيون العرب الذين تقصدهم وتصر على دعمهم؟ فقال العالم: من كل البلاد العربية. ولما طالبته بالتحديد. قال: من سوريا والعراق وليبيا. وقلت له وقد حبكت النكتة مع العبد لله: وهل هؤلاء في حاجة إلى الدعم. إنهم في حاجة إلى حانوتي لو فكروا مجرد تفكير في أن ينضموا إلى صفوف المعارضين. وانفجر الجميع ضاحكين، وكان أكثرهم ضحكًا صابر فلحوط نقيب الصحفيين السوريين، وسعد قاسم نقيب الصحفيين العراقيين!
ولكن هذه النكتة كانت سببًا في إنهاء المناقشة، وفي صدور بيان اتحاد الصحفيين العرب بدعم الصحفيين المصريين المعارضين! وهي إن كانت نكتة فجرت ضحك الموجودين، فهي أيضًا حقيقة مرة للأسف. فليس على الساحة العربية إلا مصر التي تمنح لأبنائها هامشًا عريضًا للمعارضة. وحكومة مصر في كل عهودي لم تستخدم المسدسات في الحوار ضد من يخالفها الرأي.
وأذكر أن أحد الذين كانت لهم صلة بالمجلة اتصل ببوليس اسكوتلنديارد وأبلغهم أن هناك خطة وضعتها الحكومة المصرية لقتلنا. واهتمت الشرطة البريطانية بالأمر، واتصلت بالسفير المصري الذي أكد لهم أن مصر لا تفكر في عمل مثل هذا، كما أن مثل هذا العمل ليس في طبيعة حكومة مصر. ولما كنت خارج بريطانيا في ذلك الوقت فقد ذهبت لمقابلة ضباط اسكوتلنديارد حسب طلبهم. وسألوني سؤالًا محددًا: هل تخاف من عملية اغتيال تقوم بها حكومة ضدك؟ ودهشوا حين أكدت لهم أن حكومة مصر لا تقتل معارضيها، وأنها قد تفصلهم من أعمالهم، وقد تفصل بعض أقاربهم، ولكنها أبدًا ومستحيل أن تلجأ إلى قتلهم. وقلت للضابط الإنجليزي: لو أنني من مواطني ثلاثة نظم عربية بالتحديد لكان الأمر يختلف؛ فلو أنني مواطن من النظام السوري فبالتأكيد سنُقتل قبل صدور العدد الأول. ولو أنني من مواطني النظام العراقي فالذي لا شك فيه أنني سأقتل قبل صدور الثالث، ولو أنني كنت من مواطني النظام الليبي فسأموت بعد صدور العدد الألف.
وسألني الضابط الإنجليزي: هل تقصد أن أجهزة النظام الأخير صبورة إلى هذا الحد؟ وأجبته: بالعكس، بل إنهم أكثر عجلة ولكنهم جهلاء لا يعرفون الإنجليزية، وسيستغرق بحثهم عن عنوان المجلة سنين طويلة، وقد نموت ميتة طبيعية قبل أن يعثروا علينا! وضحك الضابط الإنجليزي ولم يعلق بشيء!
المهم أن المجلة ظلت تصدر، وأن تأخرت أحيانًا عن موعد الصدور، ثم بدأنا نتعرض لعملية استنزاف رهيبة تولى تخطيطها بعض الجهات. واضطررنا إلى إغلاق المطبعة التي أنشأناها لخدمة المجلة، فقد تحولت إلى قناة تسربت منها ميزانية المجلة بلا رحمة!
•••
وعندما ضاقت الحلقة حولنا تمامًا كان لا بد من رحلة إلى بغداد، وإلى بغداد بالذات؛ لأنها كانت أكبر سوق لتوزيع المجلة. وإذا كانت كل النسخ تنفد بالفعل كما يؤكد رجال مؤسسة التوزيع في بغداد، فلا بد أن يكون لنا مبلغ محترم في ذمة المؤسسة. وإلى بغداد بالذات؛ فقد كانت أسرتي تعيش هناك وأولادي يتعلمون في جامعة بعداد.
وحملت نفسي وطرت إلى بغداد. وهناك استمعت إلى رأي الجميع في المجلة. ولم يزد هذا الرأي على أربع كلمات بالتحديد: «ليس فيها نفَس قومي».
سمعت هذه الكلمات من الأستاذ طارق عزيز ومن وزير الإعلام ومن بائع الصحف في الطريق! وحاولت أن أعرف ما هو النفس القومي الذي يقصدونه؟ لقد كانت المجلة ضد الصلح مع إسرائيل، ومع الوحدة العربية، ومع الثورة الفلسطينية، ومع عودة مصر إلى العالم العربي، فما هو النفس العربي المقصود إذن؟ وطلبت منهم أخيرًا أن يرسلوا لنا المادة التي تحمل هذا النفس العربي، وطلبت الاطلاع على كشف التوزيع، ولكنهم اكتفوا في المؤسسة بإبلاغي بأن الأمور على ما يرام، وأن التوزيع يغطي كل المناطق، وأن المعلومات المتوافرة لديهم تؤكد أن المجلة تختفي بعد طرحها في الأسواق بساعات. وعندما طلبت سلفة جديدة صرفوا لنا سلفة تحت حساب الإعلانات والتوزيع. واقترح عليَّ بعض الموظفين في المؤسسة أن نزيد الكمية الموزعة في العراق. ولكن كيف لنا أن نستجيب إلى هذا الطلب، وواقع الأحوال — كما يقولون — «العين بصيرة واليد قصيرة»؟! والحمد لله لأنني لم أستجب لهذه النصيحة؛ وإلا فمن يدري؟ ربما كنت الآن أقضي أيامًا في المنفى هاربًا من أصحاب الديون!
•••
أحيانًا تقع للعبد لله أحداث أشبه بالمعجزات. ذات مرة كنت في طنجة عائدًا من رحلة في الجزائر زمن الثورة، واصطحبني إلى المطار ثلاثة من الفدائيين الجزائريين لم أستطع معرفة اسم أحد منهم؛ فقد كانوا يتسمَّون بأسماء حركية، وبعد أن صافحوني مودعين وعادوا من حيث جاءوا، اكتشفت أن مواعيد الطائرات المسافرة إلى مدريد قد تغيرت، وأن أول طائرة ستكون بعد ٤٨ ساعة!
هنا أُسقط في يدي؛ فلم يكن معي نقود ولا متاع، لم يكن معي إلا تذكرة طائرة إلى مدريد ولم أكن أعرف أحدًا في طنجة؛ فقد كانت لا تزال دولية. ولكني بالرغم من المأزق الخطير تصرفت بسرعة. ركبت عربة أجرة إلى أفخم فندق في المدينة وهو فندق «المنزه» وطلبت حجرة على البحر، ولكنهم اعتذروا لعدم وجود حجرات على البحر، فحجزت لنفسي جناحًا فاخرًا ولا المرحوم أوناسيس! وغادرت الفندق قاصدًا قصر بن جلون وهو حاكم طنجة، وكانت المسافة من الفندق حتى القصر لا تقل عن خمسة أميال، قطعتها على الأقدام تحت المطر الذي كان ينهمر فوق الرءوس كالسيل! وكنت على علاقة وثيقة بالحاكم بن جلون، فقد رأيته في مكتب السادات عندما كان رئيسًا لتحرير الجمهورية وصافحته، وكانت هذه هي كل العلاقة بيني وبين بن جلون!
المهم أنني عندما وصلت قصر بن جلون سألت الحارس أن يقوم بإبلاغ رغبتي في مقابلة الحاكم، ولكن الحارس الذي كان يغالب النعاس في هذا الوقت المبكر من الصباح قال في غير اهتمام: الحاكم مش موجود، سافر إلى مصر! وقلت: يا بركة السيد البدوي! رحنا في داهية واللي كان أهو كان!
قطعت طريقي إلى الفندق ورأسي يكاد ينفجر من القلق والضيق. وأخيرًا استقر رأي العبد لله على الاتصال هاتفيًّا بالسيد عبد المنعم النجار الملحق العسكري المصري في مدريد، كان هو أحد المسئولين عن إمداد الثورة الجزائرية بالسلاح. وهو الذي دبر أمر دخولي جزائر الثورة عن طريق طنجة وتطوان ووجدة، ثم إلى الجبال المحيطة بتلمسان، وكان رفيقي في الرحلة جزائريًّا هاربًا من خدمة الشرطة الفرنسية وجاء إلى الجزائر لينضم للثوار، كان يدعى إبراهيم حرش، ولا أعرف أين هو الآن!
وعندما اهتديت إلى هذا الحل كنت قد فقدت الطريق إلى الفندق فرحت أسأل كل فترة أي عابر سبيل عن المكان الذي ينبغي أن أقطعه إلى فندق المنزه الفاخر المطل على المضيق! ولقيت عابر سبيل اكتشفت أنه مواطن تونسي اسمه الشعبيني، وكان يعمل منتجًا للبرامج الإذاعية وللأفلام التسجيلية. واكتشفت أن معه مصريًّا اسمه كمال بركات كان يعمل بالإذاعة التونسية. كان لقائي بالرجلين محض صدفة، واكتشفت بعد اللقاء أنني أمعنت في الطريق المضاد للطريق الذي كان يجب عليَّ أن أسلكه. ولولا هذا الخطأ لما حدث اللقاء الذي حل مشاكلي كلها وبضربة حظ نادرة!
وقضيت يومين مع الصديقين بركات والشعبيني في طنجة هما بالفعل من أجمل أيام العمر. ثم التقينا بعد ذلك في مدريد، والتقيت بالأخ بركات بعد ذلك في القاهرة، أما الأخ الشعبيني فلم أره قط.
وفي حياتي تتكرر مثل هذه القصص كثيرًا، وقد تكررت معي في تلك الأيام التي شعرت فيها بالضيق والمشاكل تحيط بنا وبالمجلة من كل جانب! دق جرس التليفون في مكتبي بالجريدة، وإذا بصوت صديق قديم، وهو الدكتور شمس الدين الفاسي، انقطعت الصلة بيننا خمسة عشر عامًا طويلة، وطلب إليَّ أن أزوره فاعتذرت له بزحمة العمل وانشغال البال، وطلبت إليه أن يتفضل بزيارتي في المجلة، خطر في بالي أن صديقي الدكتور شمس ربما يعاني من ظروف صعبة، فقد عرفته في أيام الشباب وكان يقيم بالقاهرة ممنوعًا من العودة إلى بلاده، كانت ظروفه صعبة وأحواله المالية أصعب. واقترحت على شريكي في المجلة أن ندبر للرجل مبلغًا من المال فوافق على الفور، وأعددنا بالفعل مبلغ خمسمائة جنيه في ظرف وانتظرت وصول الصديق الذي باعدت بيني وبينه الظروف. وجاء شمس الفاسي ومعه شخص آخر، وجلسا معي قرابة الساعة نتحدث عن ذكريات الزمن الذي مضى.
•••
فكم من أيام سهرناها معًا حتى الصباح، نستمع إلى حكايات العم زكريا الحجاوي وإلى نوادر الصديق عباس الأسواني وإلى قفشات العم عبد الحميد قطامش! وبعد أن أجهدنا الذاكرة في نبش تفاصيل الماضي، استأذن صديقي في الانصراف، وانتحيت به جانبًا أسأله إذا كان في حاجة إلى مساعدة، فرد بأن أحواله على ما يرام، وأن الأمور تغيرت عن ذي قبل. وودعت صديقي على أمل أن نلتقي فيما بعد. ولم تنقطع الاتصالات التليفونية بيني وبين الصديق، إلى أن جاء يوم بعث بسيارته لتقلَّني إلى حيث يقيم، ويا لها من مفاجأة عندما فاتحني الصديق برغبته في مساعدة المجلة! وقال لي ونحن نجلس في حديقة قصره الفسيح على مشارف لندن: ما هي مشاكلكم على وجه التحديد؟ وأجبته بأن المشكلة الحقيقية هي تدبير أجور المحررين والعمال أول كل شهر. وردَّ على الفور: سأتكفل بهذه المرتبات لمدة خمسة شهور. وقد صدق الرجل الطيب فيما وعد به، وظلت العلاقة بيننا على ما يرام حتى أفسدها أولاد الحلال! ولم تتصل العلاقة بيننا إلا بعد ذلك بأعوام. واعتذر لي عن سوء الفهم الذي وقع فيه. واعتذرت له أنا الآخر، وعادت أواصر الصداقة بيننا كما كانت منذ أن تعارفنا منذ خمسة وثلاثين عامًا أو يزيد!
والحق أقول: إن ميزانية «۲۳ يوليو» جاءت كلها عبر قنوات رسمية؛ فرأسمالها جاء من بنك «يونايتد» في إحدى دول الخليج إلى بنك «يونايتد» في لندن، ومن هناك تم تحويله إلى بنك «ميدلاند» في بارك لين، ولا يزال في رصيد المجلة مبلغ صغير لم نستطع التصرف فيه حتى الآن؛ لأن ذلك يستلزم إمضاء الشريكين! وكان هذا الرأسمال ربع مليون جنيه، لا يزيد!
أما روايات أجهزة الرئيس السادات عن الملايين التي هبطت علينا والعمارات التي اشتريناها فلم تكن إلا مجرد خيالات رجال الحاشية!
ولكن هناك كلمة أخرى يجب أن تقال، فبالإضافة إلى قلة الموارد وألاعيب النظم الحليفة وغدر الأصدقاء، إلا أنني أتحمل جزءًا كبيرًا من المسئولية عن النهاية المؤسفة التي انتهت إليها المجلة. فلقد تبيَّن للعبد لله أنني أكثر سذاجة من مهبول في مولد سيدي حمزة. فلقد تصورت أنني لحظة إصدار «۲۳ يوليو» سيسارع الكل إلى المساعدة. ثم اتضح لي أننا أمة واحدة في الإذاعة وقبائل شتى في الواقع، وأن كل ما يهم الأجهزة العربية حقًّا هو فضح نظم عربية أخرى تناصبها العداء! ثم ثقتي المفرطة في الناس، وهي عاهة لا أستطيع التخلص منها، ثم عدم درايتي بالصحافة كتجارة؛ لأنني على طول ما عشت لم أشتغل بالصحافة إلا من باب الكتابة والتحرير، أما الإدارة فلم يكن لي بها خبرة. وهو اعتراف لا بد من تسجيله حتى لا يتصور البعض أنني أُلقي باللوم على كل شيء إلا شخص العبد لله!
المهم، أنه بعد أن توقف دعم الصديق بدأت الأمور تتجه بنا إلى الطريق المسدود. واشتدت ضراوة الحملة ضدنا في القاهرة، وأرسلوا إلى لندن زميلًا صحفيًّا — انتقل إلى رحمة الله — وسعى بنشاط ليهدم المعبد فوق رءوسنا. ومع ذلك كتبنا كلمة رثاء للفقيد بعد أن لحق بالرفيق الأعلى.
وفي الأسبوع قبل الأخير، طرت إلى بغداد لتحصيل ما لنا من نقود. كنا قد أصدرنا أكثر من أربعين عددًا من المجلة، وإذا كنا نبيع خمسة عشر ألف نسخة كل أسبوع فمعنى ذلك أن نصيبنا من عملية التوزيع هو ٢٥٠٠ دينار في الأسبوع، ومع الإعلانات سيكون نصيبنا ثلاثة آلاف دينار في الأسبوع، وبعد خصم السلفة يكون لنا أربعون ألف دينار، تساوي في تلك الأيام ٨٠ ألف جنيه إسترليني، ولكني فوجئت وأنا أجلس أمام موظف مؤسسة التوزيع بأن توزيع المجلة لم يزد في أي يوم من الأيام على أربعة آلاف نسخة؛ أربعة آلاف نسخة في العدد الأول، وأربعة آلاف نسخة في العدد الأخير، وأربعة آلاف نسخة بين العددين الأول والأخير!
وسألت موظف التوزيع: هل هم عساكر الذين يشترون المجلة؟ لماذا ليس ثلاثة آلاف نسخة وتسعمائة؟ ولماذا ليس أربعة آلاف ومائة وخمسة وتسعين؟ لماذا أربعة آلاف في كل أسبوع؟!
وردَّ الموظف في هدوء: هذا هو كشف التوزيع! أما الإعلانات فقد نشرت — هكذا قال الموظف — بدون إذن نشر! وعلى ذلك فهو لا يستطيع دفعها. وبالقلم والورقة تبين أن المجلة مدينة لمؤسسة التوزيع في بغداد بمبلغ عشرين ألف جنيه إنجليزي.
وطلبت شريكي بالتليفون من مكتب موظف التوزيع في بغداد، وطلبت إليه أن يتوقف عن إرسال المجلة إلى بغداد!
أعجب شيء أنني عندما سألت الموظف عن الأعداد التي لم تصادف حظًّا في سوق البيع رد في هدوء: لقد تخلصنا منها. وعندما صرخت في ذهول: وهل هذا معقول؟ قال بهدوء أشد: أرجوك صدقني، هذه مسألة ثقة!
حاولت القيام بمحاولة أخيرة، سافرت إلى الكويت بعد أن زالت الأسباب التي كانت تحول بيني وبين الذهاب إلى هناك، والتقيت بالشيخ جابر العلي وزير الإعلام وقتئذٍ والشيخ صباح الأحمد وزير الخارجية، وكان الرد الذي سمعته من الجميع: هذه لعبة خطرة يا محمود. ونحن لا نستطيع دعم مجلة يصدرها صحفي عربي منشق ضد حكومة بلده؛ لأن كل نظام عربي يستطيع أن يدعم مجلة ضد نظام آخر، ولو حدث هذا الشيء فستكون كارثة على الجميع.
وعدت إلى لندن بخُفَّي حُنين. وكتبت صحف القاهرة أنني عدت محملًا بالملايين من الكويت، ولكني استأثرت بها واشتريت بالمبالغ التي نهبتها ثلاث شقق فاخرة بالقرب من أكسفورد ستريت في لندن. ولزمت شقتي الصغيرة فلم أكن أغادرها إلا نادرًا، وعزفت عن الذهاب إلى مكتبي في المجلة؛ فقد حدث الانهيار ولم يكن في استطاعة أحد أن يوقفه. وهزني بشدة موقف صديق فنان — انتقل إلى رحمة الله — هو الذي عرض العمل معنا، واشتغل معنا بحماس، ولديَّ خطابات بخط يده، هذا الصديق الفنان عندما عاد إلى القاهرة كتب في روزاليوسف أنني سرقت رسومه وكتبت التعليق تحتها، وأنه مع الرئيس السادات وضد أعدائه على طول الخط!
وهناك شيء آخر أقلقني بشدة، هو مصير الصديق أمين الغفاري، والزميل عاصم حنفي؛ والسبب أنهما هربا من مصر إلى «۲۳ يوليو» والآن وقد توقفت «۲۳ يوليو» فأين المفر إذن؟! وقد تصرفت معهما كما ينبغي على الصديق إزاء الصديق، ودبرت عملًا فيما بعد لعاصم حنفي في جريدة السياسة الكويتية، وشق أمين الغفاري طريقه فيما بعد وصار من معالم لندن، وأكاد أقول: إن لندن بدونه تختلف كثيرًا عن لندن به!
الآن أن للولد الشقي أن يستريح. لقد كانت فترة صدور المجلة فترة رهيبة وقلقة وعاصفة. وحملت حالي وعدت إلى أسرتي في بغداد. كنت أسكن في بيت قديم متهالك، وينام معظم أفراد أسرتي على الأرض، والحاضر بشع والمستقبل أشد بشاعة؛ ولذلك قررت الرحيل من بغداد. وازدادت حالتي سوءًا عندما ترك الصديق نصيف عواد العمل في جريدة الثورة، وكان العمل معه متعة، وصداقته شرفًا عظيمًا، وحل محل نقيب الصحفيين العرب سعد قاسم حمدي، ووجدتها فرصة للانتقام منه ردًّا على فصلي من وزارة الإعلام، وأمسكت بورقة صغيرة ودونت عليها كلمات قليلة: «الأستاذ رئيس تحرير الثورة الغراء، أرجو قبول استقالتي من العمل معك في جريدة الثورة، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.»
وأحسست براحة عميقة، إذ سنحت لي الظروف بردِّ الصفعة. وعندما أتممت الاستعداد للرحيل من بغداد تلقيت مكالمة هاتفية من مكتب الرئيس صدام حسين، يستدعيني إلى لقاء.
تذكرت وأنا في طريقي إلى مكتب صدام حسين تلك الأيام البعيدة التي رأيته فيها أول مرة عندما كان يجلس معنا صامتًا في مقهى صغير بحي الدقي في القاهرة، ولم يحدث مرة واحدة أن تحدثت معه خلال تلك الأيام في فجر شبابه. وكنا قد تجاوزنا هذا «الفجر» منذ مدة طويلة ووصلنا ربما إلى قيلولة الشباب! وكنت أدخل في معارك كلامية أحيانًا مع الأديب العراقي شفيق الكمالي، ومع الشاعر العراقي عدنان الراوي. ولم يقع بصري على صدام حسين بعد ذلك إلا في مكتبه بالقصر الجمهوري، وهو نائب رئيس.
وكان سبب لقائي به أنني واجهت مشكلة في إلحاق ابنتي هبة بمدارس بغداد، وطلب مني موظف بالمنطقة التعليمية أن أحضر شهادة ميلادها الأصلية، فلما اعتذرت له بأن الشهادة الأصلية في القاهرة، وأنا لا أستطيع الذهاب إلى القاهرة، أصر على رأيه، وقرر عدم قبول هبة حتى وصول الشهادة الأصلية إلى بغداد.
وشكوت حالي إلى بعض الأصدقاء العراقيين فاقترح أحدهم أن أتصل بصدام حسين في التليفون. وقلت لهؤلاء الأصدقاء: وكيف أتصل به وليس لديَّ رقم تليفونه؟ كما أنه ليس صديقًا للعبد لله لكي يرد على التليفون! وناولني أحد هؤلاء الأصدقاء جريدة يومية وفيها نداء من صدام حسين إلى المواطنين العراقيين والعرب أيضًا بالاتصال به تليفونيًّا إذا اعترضتهم مشاكل من أي نوع.
وطلبت رقم صدام حسين وأنا لا أصدق أنه سيرد بالفعل. وجاوبني صوت على الطرف الآخر للخط: نعم! وتصورت أنه سكرتير صدام حسين يتلقى المكالمات وينظم الاجتماعات، كما هي الحال في كل مكاتب الرؤساء في أنحاء الأرض، وقلت لصاحب الصوت: أنا فلان، صحافي مصري وأعيش في بغداد، ولدي مشكلة وأريد عرضها على نائب الرئيس. ورد الصوت: أهلًا محمود، حاضرين، ماذا تريد؟ قلت مرة أخرى لصاحب الصوت: أنا فلان الفلاني، وأعيش الآن في بغداد، ولدي مشكلة تخص إحدى بناتي، وأريد عرض الأمر على نائب الرئيس صدام حسين. وقال صاحب الصوت: أنا صدام حسين يا محمود، وهتفت: مش معقول! وقال: ليه مش معقول؟ وقلت: عفوًا سيادة النائب، أخشى أن أكون قد أزعجتك، خصوصًا والوقت ليس مناسبًا الآن. وردَّ في هدوء: بل كل الأوقات مناسبة لحل مشاكل المواطنين يا محمود. وحدد لي موعدًا لمقابلته في اليوم التالي. وسألني وأنا أجلس أمامه على المقعد المواجه لمكتبه عن أحوالي في بغداد، وأجبته بأن كل شيء على ما يرام. وسألني عن أخبار مصر. فقلت: لا أعرف عنها شيئًا إلا ما أقرؤه في الجرائد. ثم عرضت عليه المشكلة فقال: إن الروتين هو أعدى أعداء الثورة. وقال: إن بعض مؤسساتنا تسير على لوائح وضعها النظام التركي، وخص بالذكر مصلحة الكمارك. وقال: إن لائحة الكمارك وضعها الأتراك منذ قرابة قرن من الزمان.
وأمسك صدام حسين بورقة وكتب عليها عدة سطور إلى محمد محجوب وزير التربية، وقال: اذهب إلى محجوب وكل شيء سيكون على ما يرام. وذهبت إلى الوزير محجوب في اليوم التالي، وقرأ ورقة صدام حسين، وقال في هدوء: لقد فات الوقت الآن. وسنقبل هبة في العام الدراسي القادم. ولم أفاتح صدام حسين في هذا الأمر بعد ذلك، ولكني استخدمت نفوذ صديق عربي آخر هو الدكتور محيي الدين صابر رئيس هيئة اليونسكو العربية، ووزير التربية السوداني السابق. وقد بحث عني في بغداد عندما كان في زيارة خاطفة لها، ولم يعثر على العبد لله إلا وهو في طريقه إلى تونس، والتقيت به في المطار، وكان في وداعه الوزير محجوب، وشكوت للدكتور محيي الدين صابر فقال للوزير محجوب أمامي: إذا أردت أن تصنع لي معروفًا فاصنعه للسعدني. ووعد محجوب خيرًا، ولكنه لم يقبل هبة إلا في العام الدراسي التالي!
المهم أن هذه المقابلة كانت هي الأولى مع نائب الرئيس صدام حسين، وكان هذا هو اللقاء الثاني وبناء على استدعاء من مكتب نائب الرئيس. ولكن قبل هذا الاستدعاء كانت قد حدثت إشارة بالغة الأهمية؛ فقد حدث أن كتبت مقالًا ردًّا على ادعاءات المستشار أنور حبيب الذي كان يشغل منصب المدعي الاشتراكي في عهد الرئيس أنور السادات، وكان سيادة المستشار قد اتهمني مع عشرات من الكتاب والصحافيين بالخيانة العظمى. وكتبت مقالي بعنوان «من الخائن العظيم محمود السعدني إلى المدعي الاشتراكي»، وقلت للسيد المستشار:
أنت «مدعي» أي نعم، ولكن اشتراكي لا! لأن الاشتراكية ماتت منذ زمن بعيد، وأنت أحد أسباب موتها. وأغلب الظن أنك «مدعي مشتراكي»، وربما لأنك مشترك في النادي الأهلي، ومشترك في دفتر التليفونات، ومشترك في جمعية بخمسة جنيهات وستقبض الأول! وقلت أيضًا: لقد اتهمتنا يا سيادة المستشار بأننا نقبض نظير خيانتنا بالدينار والدولار، ولكن يبدو أنك لا تعرف في سوق العملة؛ لأن هذه العملات أصبحت كالشيخ عاشور الذي فقد الثقة والاعتبار في برلمان سيادتكم، أما نحن خبراء سوق العملة، فنتعامل نظير خيانتنا بعملات جديدة لها سمعة، ولها قيمة وهي الين الياباني والمارك الألماني والشلن الروديسي والبيريتا تبع جزيرة ماكاو!
وختمت مقالي قائلًا: وقد لا تصدق يا سيادة المستشار أنني بالرغم من ذلك أعيش على الكفاف في بغداد، ولا أستطيع علاج ابنتي المشلولة هالة؛ ليس لأنني فقير — أستغفر الله — ولكن لأنني بخيل، أضع الملايين الآن تحت البلاطة لأنفق منها في يوم أسود قريب. وهو يوم أسود وصفه عمنا ابن عروس في ديوانه فقال:
كان خلاصة مقالي عن المدعي الاشتراكي، وقد نشر المقال على صفحة كاملة في جريدة الجمهورية البغدادية. وفي الصباح، والجريدة لم يكن قد مضى على صدورها أكثر من ثلاث ساعات، رن جرس التليفون في منزلي، وكان المتحدث هو الصحافي الكبير حميد سعيد رئيس تحرير الجمهورية، وحميد سعيد كان شاعرًا قبل أن يصبح رئيسًا للتحرير. ولأنه شاعر فنان فقد تفاهمنا بسرعة. وبالرغم من أنه كان حزبيًّا ملتزمًا فإنه كان شيئًا آخر يختلف! واكتشفت أنه قارئ ممتاز للعبد لله منذ الستينيات وحتى الآن. وكان هو من بين القلائل الذين تعاملت معهم وامتدت صداقتي بهم حتى هذه اللحظة. والسبب هو أوجه الشبه الكثيرة التي بينه وبين العبد لله؛ فهو بالرغم من منصبه الرفيع، وبالرغم من اشتغاله فترة من حياته بالسلك السياسي، وبالرغم من إقامته في أوروبا فترة طويلة من الزمان، فإنه ظل متمسكًا بعادته كمواطن من مواطني «الحلة»، ولم يقطع علاقته قط بهؤلاء الفقراء الذين تربوا معه في حواري الحلة الضيقة وأزقَّتها المظلمة!
وقال لي حميد سعيد من خلال أسلاك التليفون إن السيد نائب الرئيس قرأ مقالك ويبعث إليك بتحياته. وهو يسأل عن أحوال هالة المريضة ويريد أن يطمئن على أنها بخير. وشكرت الزميل حميد سعيد، وأكدت عليه ضرورة إبلاغ شكري وتحياتي إلى السيد نائب الرئيس، وطمأنته إلى أن حالة هالة جيدة وأنها بخير، والحمد لله!
ولم تمر سوى أيام قلائل حتى استدعاني نصيف عواد في مكتبه، وقال: إن نائب الرئيس قرر علاج هالة هذا العام على نفقة رئاسة الجمهورية. وحاولت أن أعتذر على أساس أن هالة شفيت تقريبًا والحمد لله. وما تبقى من مراحل العلاج صار هينًا وأستطيع مواجهة نفقاته.
ولكن نصيف عواد قال: إنه أمر نائب الرئيس ولا بد من تنفيذه! وبالفعل سافرت مع هالة إلى لندن، ودخلت مستشفى الجامعة في «توتنهام كورت رود» وقضت شهرًا على سرير المستشفى، وأجرت عملية كانت لسوء الحظ بمثابة نكسة؛ فقد ذهبت إلى لندن وهي تمشي على قدميها، وعادت إلى بغداد تتوكأ على عكازين!
ولكن صدام حسين لم يكفَّ عن السؤال عن أحوال هالة طوال إقامتها في لندن. وكان صباح سلمان سكرتيره الصحفي هو الذي يتولى عملية السؤال والاطمئنان على هالة. والحق أقول: إن اهتمام نائب الرئيس بمشكلة هالة، بالرغم من المشاكل الكثيرة التي تشغله، أثَّر كثيرًا في العبد لله. ومن أجل صدام حسين تحملت كل المتاعب التي سبَّبها لي بعض صغار الموظفين الذين احترفوا السياسة عن طريق الخطأ، والذين كانوا عبئًا على صدام حسين بدلًا من أن يكونوا عونًا له: جبار، وقتال، وباصى، والدهش، وأبو سعد، وآخرون على الشاكلة نفسها ومن النوع نفسه، هؤلاء الذين تصوروا في لحظة أن اللاجئ السياسي هو أسير وقع في أيديهم. وتصوروا أيضًا — وهو الخطأ الأكبر — أن مصير الأمة العربية قد دان لهم وأصبح رهن مشيئتهم!
وما أكبر صدام حسين عندما أصبحت أمامه وجهًا لوجه في مكتبه بالقصر الجمهوري عندما سألني: وليه يا محمود ما جيتني وقلت لي؟ وقلت للرئيس صدام: تكفيك يا سيادة الرئيس همومك، وكل ما هنالك أني أردت أن أبعد عنك همومي. وقال الرئيس صدام: إن هموم الناس هي مسئوليتي يا محمود، وهمومك جزء من هموم الناس، وأنا مسئول عن همومك وهموم الآخرين.
وأمعنت النظر في وجه صدام حسين! إنه نموذج من الزعماء العرب الذين ظهروا في هذا القرن العشرين، وهو رجل جاء إلى الحياة ليحكم. ولو لم يكن رئيس دولة لكان زعيمًا للعشيرة التي ينتمي إليها. وإذا كان للقيادة صفات فكل الصفات متوافرة فيه.
وهو ليس مدينًا لحزب البعث بوجوده، ولكن حزب البعث مدين بوجوده لصدام حسين، وأنا لا أبالغ ولكنها حقائق عاصرناها في الماضي القريب. فعندما لمع اسم صدام حسين في حزب البعث لم يكن الحزب أكثر من فلول. وكان منقسمًا على نفسه، وكان القسم الأكبر يقوده علي صالح السعدي، ويسيطر على خزانة الحزب وعلى مطبعته، ولكن صدام حسين استطاع تصفية القسم المنشق، واستطاع السيطرة على مطبعة الحزب، أما خزانة الحزب فوجدها خالية كقلب المؤمن المطمئن!
ولم تكد تمر سنوات قليلة حتى استطاع صدام حسين أن يعيد الروح إلى جثة الحزب، واستطاع أن يدفع بالحزب إلى مقدمة الأحزاب العراقية، ولم يلبث أن وصل بالحزب إلى الحكم. ومع هذا لم يتركوه يهدأ لحظة … تآمر ضده بعض الرفاق في عام ١٩٧٤م. ثم تآمر عليه بعض الرفاق عشية اختياره رئيسًا للجمهورية. ولعل هذا هو الذي دفعه في نهاية الأمر ليعلن في تصريح شهير أنه رئيس للعراق وليس رئيسًا لحرب البعث. وأن البعثي الجيد هو كل عراقي كفء. وكل بعثي غير كفء هو عراقي غير جيد. لقد كانت صرخة بطل ضايقته سيوف الرفاق أكثر مما ضايقته سيوف العدو!