السياسة، والكهرباء!
كان لقائي بالرئيس صدام حسين، الذي استمر ساعة من الزمن، لقاء بين زعيم عربي يؤمن بالعروبة ويقدر ظروف العرب، وبين صحفي عربي هارب من حكومته ولاجئ إلى العراق. ولذلك كان حريصًا أشد الحرص على معرفة السبب الذي دفعني إلى التفكير في الرحيل من بغداد، وعندما سقت إليه أسبابًا غير حقيقية، رفض تصديقها وأصر على السبب، فلما صارحته بأن بعض الموظفين قد أحالوا حياتي في العراق إلى جحيم، أجابني في هدوء: هذا الصنف من البشر موجود هنا في العراق، وفي كل مكان على الأرض العربية، وهذا يثبت ويؤكد على أننا أمة واحدة؛ لأن الظروف متشابهة، والبشر في ظل الظروف المتشابهة يصنعون الشيء نفسه ويسلكون السلوك نفسه. ثم سألني الرئيس صدام: أليس لهذا النوع من البشر وجود في مصر يا محمود؟ فلما أجبته بأنهم موجودون وأكثر من الهم على القلب، قال: ولماذا تريد العراق أفضل من مصر؟ إنهما بلد واحد، والناس هنا والناس هناك شعب واحد، وما كنت تجده في القاهرة، ستجده حتمًا في بغداد.
وسدد نحوي نظرة عميقة وقال: من هنا وإلى أن تغادر بغداد إلى بلادك، عليك أن تقاتل هؤلاء الناس. تصرَّف كمواطن هنا، وحارب هذه النماذج، وقاتل ضدها بضراوة. إنني لن أستطيع أن أحمي كل مواطن من خطر هؤلاء الصغار، وأنا أدعو المواطنين دائمًا إلى مواجهة الشر والوقوف في وجه الأشرار. إن الشعوب العظيمة، هي التي لا تقبل الضيم ولا توافق على الظلم، ولا تقبل الظلم من جانب مثل هؤلاء الموظفين. وروى لي صدام حسين عن أيامه التي عاشها في القاهرة، وكيف كانت علاقته حسنة بالجميع، حتى القهوجي والبواب، وكيف أنه وهو نائب رئيس العراق، وأثناء عودته من مؤتمر القمة في المغرب وهو في طريقه إلى بغداد توقف في القاهرة وذهب إلى المقهى الذي كان يجلس عليه، وذهب إلى البيت الذي كان يسكن فيه، وسأل عن البواب واكتشف أنه مات. وقال الرئيس صدام: وبينما كانت علاقاتي بالجميع طيبة، كانت علاقتي سيئة، في الوقت نفسه، بالموظفين المصريين الذين كانوا يشتغلون بالسياسة في مواعيد العمل. وهؤلاء يستخدمون الروتين في العمل السياسي، ولا ينظرون إلى أبعد من موقع أقدامهم، ويتصورون بعد أن جاءت بهم الصدفة إلى هذه المواقع أنهم عظماء ملهمون اختارتهم العناية الإلهية لقيادة البشر. وقال: إن هذا الصنف كان موجودًا في مصر، وهو موجود لدينا الآن بكثرة، ولكن فترة الحرب الحالية ستكشفهم لنا، وأعتقد أننا بعد الحرب سنطهر أنفسنا من هذا الصنف جميعه.
وضغط صدام حسين على زر صغير فوق المكتب، ودخل رجل من رجال الحاشية. وقال له صدام في كلمات قليلة وبنبرة حاسمة: ابحث للرفيق السعدني عن بيت، وأثث البيت إش لون تأثث لصدام حسين! وقلت للرئيس: لا يا ريس، أنا مش عاوز بالشكل ده. فالتفت نحوي وقال: محمود، أنا والله عايش في بيت كلش متواضع. وقلت له ضاحكًا، من أجل هذا أعترض؛ لأنني الآن أعيش في بيت كلش متواضع، وتريدني الآن أن أنتقل إلى بيت كلش متواضع! وضحك الرئيس صدام، وأشار للرجل بالانصراف، فانصرف، وقال لي وأنا أغادر مكتبه: إذا حدث أي شيء خطأ، فأرجو أن تخبرني به في الحال. وعندما هممت بمغادرة القصر الجمهوري، رأيت رجل الحاشية الذي طلب إليه صدام البحث عن بيت، يستوقفني ويرجوني أن أعطيه مهلة للبحث عن البيت اللائق، وحدد المهلة المطلوبة بعشرة أيام لا تزيد. وقلت للرجل ونحن وقوف على باب القصر الجمهوري: عندك مهلة لمدة شهر إذا أردت. فقال: أشكرك، قبل أن ينصرف.
في الأيام التالية التي أعقبت لقائي بالرئيس صدام، عاد الموظفون الذين يشتغلون بالسياسة ويعششون فيما سمي بمكتب مصر، يترددون عليَّ في منزلي، وكلهم يسأل عن سبب المقابلة، وما دار فيها من حديث. وبالطبع لم أذكر لهم حرفًا مما دار في الجلسة، واقتصرت على القول بأنها كانت للتحية لا اكثر ولا أقل. ولما يئسوا من أن يحصلوا على كلمة واحدة من العبد الله، انقطعوا عن الزيارة، وإن كانوا لم ينقطعوا عن العمل ضد العبد لله.
لقد كان لقائي بالرئيس صدام في أواخر شهر آب (أغسطس)، وموظف الحاشية رجاني أن أمهله عشرة أيام لا غير، لكن أمر الرئيس صدام حسين لم ينفذ إلا في شهر كانون ثانٍ (يناير)، مع أن الرئيس حسين حاكم مقتدر وأوامره تنفذ في الحال.
ولقد هممت بمغادرة العراق ذات يوم من أيام شهر نوفمبر، عندما اكتشفت أن هؤلاء الموظفين الذين بشتغلون بالسياسة هم أقوى في كل مكان، ولكن صديقًا في القيادة العراقية نصحني ألا أفعل ذلك، وقال: إن الرئيس صدام حسين سيسأل عن أحوالك بعد فترة، وعندئذٍ سيقول له هؤلاء الموظفون إنهم أعدُّوا لك قصرًا كقصر فرعون وجنات تجري من تحتها الأنهار، وإنك رفضت الإقامة في العراق، طالبًا قصرًا كقصر هارون الرشيد.
المهم أن البيت الذي استأجره كان لائقًا بالفعل وقد أثثوه تأثيثًا فخمًا، ووفروا للعبد لله حجرة مكتب، ولم أحصل على هذا الشرف مدة إقامتي السابقة في بغداد. ولكن المتاعب تضاعفت واستمرت بعد ذلك، وضيَّق الموظفون الذين يعملون بالسياسة الحصار حولي، واشترك معهم بعض المستوزرين الذين هاجمت أسلوب عملهم وانتقدته.
وضاقت بي الأحوال في بغداد إلى درجة أني لازمت بيتي لا أغادره لأي سبب من الأسباب، ولكن كان يسرِّي عني صلتي ببعض اللاجئين السياسيين السوريين الذين يقيمون في بغداد. وللحقيقة فإن الفريق أمين حافظ رئيس سوريا الأسبق، واللاجئ في العراق منذ ستة عشر عامًا، كان خير رفيق وخير صديق. كنت ألجأ إليه دائمًا، وكان هو عند حسن الظن به على الدوام. كان بيته مفتوحًا للجميع، ورجال حرسه في خدمة الكل. إلى جانب أمين الحافظ، كان هناك الدكتور عارف الكيالي، وهو ضابط سوري سابق دخل السجن بعد سقوط أمين حافظ، وفر من دمشق إلى بغداد، واشتغل هناك بالعمل السياسي وبالدراسة في الوقت نفسه، وعمل فترة في السلك الدبلوماسي، ثم حصل على الدكتوراة وصار أستاذًا بالجامعة. وكان عربيًّا بحق ومثقفًا يحمل الأمة على رأسه. وكان هناك الدكتور غسان حداد الذي كان عضوًا في مجلس قيادة الثورة في دمشق ذات يوم، والذي حصل على الدكتوراة من ألمانيا واشتغل بالتخطيط. وكان هناك أيضًا العراقي الطيب العجوز، عم أبو سعد، وهو فلاح من الفالوجة أقام في بغداد، ولكنه ظل يعيش بالجو نفسه الذي يعيش فيه في قريته على شاطئ نهر دجلة، وكان هناك العراقي الشهم الطيب أبو دينا وأسرته، كان هناك الشاعر الفنان حميد سعيد، والكاتب السياسي نصيف عواد، والصديق أمير الحلو. وهؤلاء جميعًا كانوا سببًا في تلوين الحياة بلون أخضر جميل، وربما بسبب هؤلاء تحملت كل الحركات الصغيرة التي ارتكبها هؤلاء الموظفون الذين يشتغلون بالسياسة.
وعندما أحكم هؤلاء الموظفون الحصار حول العبد لله، وتحالف معهم رئيس الحزب الثوري المصري إياه، الذي كان يقود حزبًا من ثلاثة أشخاص، ويصدر نشرة ثورية، وينشر في الصحف العربية تصريحات نارية عن الثورة والتحرير والوحدة اللي ما يغلبها غلَّاب، بينما هو في واقع الأمر كان يشتغل بالتجارة، ويعمل لحساب كل الجهات إلا مصر.
وانتهزت فرصة انعقاد مؤتمر عالمي في بغداد وحضور وفد مصري من القاهرة برئاسة الدكتور يحيى الجمل نائب رئيس حزب التجمع المصري وقتذاك.
والتقيت بالدكتور يحيى الجمل في منزله، وشرحت له ظروفي وأوضاعي في بغداد، وكشفت له الستار عن ممارسات الزعيم الثوري، الذي كان عندئذٍ يدير مكتبًا في إحدى العواصم الأوروبية، ويمتلك شركة لأعمال الكهرباء، مع «أرزقي» آخر عيَّنه وكيلًا للحزب الثوري المغوار. وقلت للدكتور يحيى الجمل: إن سبب كل الكوارث والمتاعب التي تحيط بالعبد لله، هو كشفي لسلوك هذا الزعيم الثوري، وكشفي لقصة امتلاكه لشركة أعمال الكهرباء. ويبدو أنني لم أتنبه خلال صراعي مع الزعيم الثوري إلى أنني خرجت على الحدود، فضربت في جهات أخرى كان يهمها أن يظل هذا الموضوع طيَّ الكتمان، وطلبت من الدكتور يحيى الجمل أن يتدخل ويوضح الأمر لأحد المسئولين العراقيين الكبار، وطلبت من الدكتور يحيى الجمل أيضًا أن يستأذنه لي بالسفر من بغداد. وبالفعل أدى الدكتور يحيى الجمل ما كلفته به، وجاءني بجواب المسئول العراقي الكبير، ومضمونه أنني مواطن أعيش بكامل حريتي في بغداد وعلى الرحب والسعة، فإذا أرادت الانتقال من بغداد إلى مكان آخر فليس في وسع أحد أن يمنعني من اختيار المكان الذي أريد أن أعيش فيه. وكان ردًّا مسئولًا.
ولكن عبارة في الحديث الذي نقله إليَّ الدكتور يحيى الجمل استوقفتني طويلًا؛ فقد قال المسئول العراقي للدكتور يحيى الجمل: إن محمود السعدني في عراك مع سياسي مصري آخر يعيش في المنفى، والاثنان وطنيان يسيران على الخط القومي، ويهمنا ألا يحدث صراع من هذا النوع بين الاثنين. استوقفتني هذه العبارة، فقد كنت أتصور حتى تلك اللحظة أن الصراع بيني وبين الزعيم الثوري إياه، لا يهم أحدًا إلا هو وأنا، وعددًا آخر من المصريين لا يزيد على أصابع اليد الواحدة، هم كل قادة الحزب وجماهيره في الوقت نفسه، ولكن كشف لي حديث الدكتور يحيى الجمل مع المسئول العراقي الكبير أن هذا الأمر يهم آخرين.
وفي تلك اللحظة بالذات قررت أن أترك العراق، وذهبت في اليوم التالي إلى ما يسمى بمكتب مصر، وطلبت منهم تدبير حصولي على تأشيرة خروج من العراق لي ولأسرتي، ولكنهم رفضوا ذلك بشدة متعللين بأن لديهم شواغل أهم. ولجأت إلى الفريق أمين حافظ، ودون أن أخبره بالظروف المحيطة بالعبد لله، رجوته أن يسعى للحصول على تأشيرة خروج لي ولأسرتي، فحصل عليها بواسطة حرسه في اليوم نفسه، وأدركت عندئذٍ أن رفض الموظف الذي يشتغل بالسياسة، لم يكن سياسة عامة بالنسبة للعبد لله، ولكنه كان تدبيرًا من جانب هؤلاء الموظفين الصغار الذين يشتغلون بالسياسة. وفي الفجر كنت مع أسرتي في السيارة في طريقي إلى خارج العراق.
وصلت الكويت ليلًا، واستأجرت شقة في أحد الفنادق، وقضيت رمضان كله مع أسرتي في الكويت، وتفاهمت مع أحمد الجار الله على الإقامة في الكويت، وإصدار ملحق أسبوعي جديد لجريدة السياسة، وبدأت الاستعداد فعلًا، فوضعنا الماكيت وبدأنا في أعداد المواد. واتفقنا — الجار الله وأنا — على أن يصدر الملحق في أول أكتوبر. وسافرنا إلى لندن بعد العيد مباشرة. وكان لا بد أن تعود أسرتي إلى بغداد في أوائل شهر سبتمبر لتؤدي ابنتي أمل امتحان الدور الثاني في كلية الاقتصاد. وبقيت في لندن مع أكرم ابني، وقررت العودة مع أكرم إلى الكويت قبل إصدار الملحق بأسبوعين، ولكن حدث قبل ثلاثة أيام من موعد سفري إلى الكويت أن أيقظني من نومي رنين جرس التليفون، وكان المتحدث على الجهة الأخرى من الخط هو الأستاذ سليمان الجار الله نائب رئيس التحرير، طلب مني البقاء في لندن وعدم العودة إلى الكويت، وعبثًا حاولت أن أعرف منه السبب وراء هذا الطلب، ولكنه اكتفى بأن ذكر لي رقم أحمد الحار الله في جنيف، وقال: اتصل بالأستاذ أحمد وتفاهم معه على كل شيء.
وأحسست بعد مكالمة سليمان الجار الله بأن جدران الشقة تطبق عليَّ وتكاد تحطم ضلوعي وتُزهق روحي … لم أستطع العودة إلى النوم مرة أخرى، وانتظرت وقتًا طويلًا حتى تمكنت من الاتصال بالأستاذ الجار الله في جنيف، وقال أحمد في هدوء كعادته: سيكون كل شيء على ما يرام، وإذا كانت هناك ظروف تمنعك من الذهاب إلى الكويت الآن، فأنا أنصحك بالبقاء في لندن في الوقت الحاضر، ولا تتوقف عن إرسال مقالاتك؛ لأننا سنواصل نشرها كل يوم، ورجوت أحمد الجار الله في نهاية المكالمة أن تقوم الجريدة بتحويل مرتبي إلى لندن. فقال: صار. ثم سألني: هل أنت في حاجة إلى شيء الآن؟ فشكرته ووعدته بأن أتصل به على الفور إذا احتجت إلى شيء.
عشت في لندن وقتًا مملًّا بلا طعام. كنت أكتب مقالي اليومي وأمليه على جريدة السياسة في التليفون، ولزمت الشقة لا أغادرها إلا نادرًا. وكان لا بد أن يعود أكرم إلى بغداد ليلتحق بالجامعة، ولكني منعته من السفر وطلبت منه الانتظار. أصبحت مشكلتي مشكلتين: مشكلة وجودي بعيدًا عن الأسرة وأنا الذي لم أتركهم لحظة خلال السنوات التي اضطررت فيها للعيش خارج مصر، ثم انقطاع أكرم عن مواصلة الدراسة.
وعشت أيامًا أفكر في المأزق الذي وجدت نفسي فيه، وأبحث عن الأسباب التي أدت إلى منعي من العودة إلى الكويت.
كنا في شهر أغسطس عام ١٩٨١م، وكان أنور السادات قد دعا جميع الصحفيين المعارضين في الخارج إلى العودة إلى مصر، وحدد يوم ١٥ مايو موعدًا نهائيًّا لعودة المشاغبين من «أبنائي» الصحفيين، و«عفا الله عما سلف»، وقال: بشرط أن يعود كل منهم إلى نقابة الصحفيين و«من دخل دار أبو سفيان فهو آمن». ولما لم يعد أحد في الموعد الذي حدده الرئيس، عاد فحدد موعدًا آخر، هو يوم ٢٦ يوليو، (ولم أفهم لماذا ٢٦ يوليو، وليس ٢٣ يوليو!) المهم أنه حدد هذا الموعد كآخر موعد لعودة الصحفيين المارقين، ولكن مر الموعد الجديد ولم يعد أحد على الإطلاق. والسبب أن الصحفيين كانوا يعرفون أنور السادات جيدًا؛ فهو قد أشتغل صحفيًّا فترة من الوقت في شبابه، وتولى رئاسة تحرير الجمهورية منذ صدورها وإلى عام ١٩٥٨م، وفي تلك الأثناء نشأت علاقات وثيقة بينه وبين غالبية الصحفيين المصريين، ولم يكن من المعقول بعد هذه العشرة الطويلة أن يصدقه أحد منهم، خصوصًا إذا كان الأمر يتعلق بعفو عن أخطاء يتصور هو شخصيًّا أنهم ارتكبوها في حق كبير العائلة المصرية!
ولكن العبد لله اشتد في هجومه على كبير العائلة، خصوصًا في هذه الفترة التي حددها كمهلة لإعلان التوبة وطلب الصفح. وبدأت خطابات كثيرة تهاجمني تصل إلى جريدة السياسة أغلب الظن أن مصدرها كان من السفارة المصرية في الكويت؛ لأنها خطابات كانت تسبني على طول الخط، وتدافع عن أنور السادات على طول الخط، ولكن الخطابات كلها كانت تجمعها نغمة واحدة تعزفها بلا كلل، وهي: كيف تسمح الكويت لكاتب مطرود من بلده بالإقامة فيها؟! وكيف تسمح له في الوقت نفسه بمهاجمة رئيس دولة على صفحات جريدة السياسة اليومية؟
ويبدو أن بعضهم قد ارتاح إلى هذا الحل. منعوا دخولي إلى الكويت، ولكن الجار الله سمح بنشر مقالاتي على صفحات الجريدة. ولأن الصحافة حرة في الكويت، فلم يكن أحد مسئولًا عن الإساءة للسادات إلا أحمد الجار الله نفسه باعتباره صاحب ورئيس تحرير الجريدة التي تنشر مقالاتي في الكويت. وهي نقطة تحسب لأحمد الجار الله عند تسديد الفواتير، فلم يكن أحمد الجار الله عدوًّا للسادات، والعكس هو الصحيح، فقد كان صديقه ومن أشد المدافعين عن سياسته، وأيَّد السادات بشدة في رحلته إلى القدس، وأيده في كامب دافيد، وكان لا يمر شهر دون أن يلقاه أو يجري معه حديثًا. وبالرغم من ذلك لم يشطب حرفًا مما كتبت ضد رحلة السادات إلى القدس أو ضد كامب دافيد، وهي صفة الصحفي الحقيقي عاشق المهنة، فصحيفته ليست حكرًا على رأيه، ولكنها ميدان لرأيه وللرأي المخالف.
كان هذا هو تفسيري الذي اهتديت إليه لما حدث للعبد لله من جانب الكويت، وإن كان هذا التفسير لم يمنعني من كتابة خطاب إلى الشيخ صباح الأحمد وزير خارجية الكويت، وهو أحد السياسيين المستنيرين على مستوى الوطن العربي، وأبلغته بما حدث ومكثت في لندن أنتظر. وبعد أيام تلقيت دعوة من جهة عربية في لندن، لألقاء محاضرة عن حال الأمة، ولكني اعتذرت. وكان سبب هذا الاعتذار أنني في شهر مايو من العام نفسه قمت برحلة إلى أمريكا بدعوة من اتحاد الطلبة العرب في الولايات المتحدة لإلقاء محاضرات في بعض الولايات، ولبَّيت الدعوة وسافرت إلى واشنطن واستُقبلت بحفاوة، ولكن بعد المحاضرة الأولى التي ألقيتها في مدينة توروس على الحدود الكندية جعلت هذه الحفاوة تتناقص، وعندما وصلت إلى لوس أنجلوس مرورًا باثنتي عشرة ولاية قبلها كنت قد أصبحت ضيفًا ثقيلًا على اتحاد الطلبة. وعند سفري عائدًا إلى أوروبا لم يكن في وداعي أحد بمطار نيويورك. وقلت لنفسي وأنا أدخل الطائرة التي أقلتني إلى لندن: صحيح لسانك حصانك.
وأصل الحكاية أنني دُعيت لإلقاء عدة محاضرات عن الحركة الوطنية المصرية في الداخل والخارج ولكنني قصرت حديثي على الحركة الوطنية في الخارج وقلت بصريح العبارة إنه لا يوجد ما يسمى بالحركة الوطنية في الخارج لأنه لا يمكن وجود حركة وطنية خارج الوطن، ولكن هناك حركة معارضة في الخارج لنظام الحكم الساداتي في الداخل وهذه الحركة التي في الخارج محكوم عليها بأن تكون ضعيفة وهشة وبدون أي تأثير؛ لأنك لا يمكن أن تكون مطلق اليدين وأنت تلعب في أرض غريبة، كما أن النظم العربية أفسدت حركة المعارضة المصرية عندما لوت ذراعها لتعمل لحسابها ولمصلحتها وهي مصالح كانت تتعارض أحيانًا مع مصلحة مصر ودائمًا كانت ضد مصلحة حركة المعارضة نفسها. وقلت أيضًا إن مأساة المعارضة المصرية في الخارج أن قيادتها كانت في يد ضباط جيش سابقين أو رجال مخابرات سابقين، ولا يمكن لهؤلاء أن يتحولوا إلى زعماء بين يوم وليلة بالإضافة إلى أنهم كانوا في السياسة أجهل من دابة وبعضهم اتخذ السياسة ستارًا وتفرَّغ للتجارة.
ويبدو أن الذين دعوني لإلقاء هذه المحاضرات كانوا يتصورون أنني سأشيد بنضال الحركة الوطنية في الخارج، وسألهث بالشكر على المساعدات الطيبة التي تلقاها الحركة الوطنية المصرية من بعض النظم العربية التقدمية، وكان هذا بالتأكيد هو سبب الأنيميا التي أصابت الحفاوة بالعبد الله أثناء رحلتي في أمريكا، ولعله أيضًا سبب المشاكل التي أثارها بعض صغار الموظفين في العراق ضدي والتي جعلتني أقرر الرحيل.
المهم هناك حادثة طريفة وقعت للعبد لله ذات محاضرة في دالاس: كان المفروض أن ألقي محاضرة واحدة ولكني اكتشفت خلال المحاضرة أن كل الموجودين طلبة عرب وليس من بينهم طالب مصري واحد. ولما سألت عن الطلبة المصريين أجابني أحد أعضاء الاتحاد بأن الطلبة المصريين قاطعوا المحاضرة ويصرون على أن تذهب إليهم في مقر اتحادهم، ووافقت وذهبت إليهم في اليوم التالي واكتشفت أن للطلبة المصريين اتحادًا خاصًّا بهم منفصلًا تمامًا عن اتحاد الطلبة العرب، ووجدت الصالة تضيق بالحاضرين. تصورت أن الطلبة المصريين جميعًا الذين جاءوا للاستماع إلى المحاضرة من أنصار السادات أو على الأقل من أنصار سياسته، ولكن دهشتي كانت كبيرة عندما اكتشفت أن ثلاثة منهم فقط كانوا من أنصار السادات، أحدهم كان من أقرباء محافظ أسيوط وحضر في البداية إلى أمريكا لدراسة الذرة ثم عدل عن ذلك إلى دراسة الهندسة المدنية، ثم عدل عن ذلك إلى دراسة الفن، وكان الثاني دكتورًا، أو هكذا قدم نفسه، ولكني لم أتبين على الإطلاق في أي فرع من فروع العلم كان الأخ إياه دكتورًا فيه؟
ولكن أثناء المحاضرة اكتشفت أنه من رجال الأمن! حدث أن قلت أثناء المحاضرة وبالحرف الواحد، وكنا في شهر مايو عام ١٩٨١م: إن هذا العام هو آخر عام لحكم أنور السادات، وأن جيش مصر العظيم الذي أنجب أبطالًا في وزن أحمد عرابي في عام ١٨٨١م لا يمكن أن يعقم فلا يلد أبطالًا مثل هؤلاء الذين أنجبهم منذ قرن كامل. وقلت أيضًا وبالحرف الواحد: إن رجال الجيش المصري الوطنيين سيضعون حدًّا لنظام أنور السادات هذا العام، وهذا العام وبالتحديد، وإن غدًا لناظره قريب.
وفي الواقع، لقد قلت هذه الكلمات ليس نتيجة تحليل ولا نتيجة معلومات ولكنه كان مجرد غيظ ملأ قلبي، وربما أيضًا كان نتيجة يأس شديد من أي تغيير، ولكن الأستاذ الدكتور الذي كان جالسًا يستمع بانتباه إلى المحاضرة انتفض واقفًا وسألني: هل سيادتك على اتصال بهؤلاء الضباط في جيش مصر؟ والذين سيضعون حدًّا لنظام السادات هذا العام كما ذكرت؟
كان السؤال ساذجًا، وكشف عن أن صاحبه رجل أمن مدرب بما فيه الكفاية، فقررت أن أسخر منه إلى النهاية، فأجبت: نعم بالطبع أنا على اتصال بهؤلاء الأبطال، وهذا الذي قررته الآن أمامك سمعته منهم شخصيًّا وليس عن طريق وسيط. وتهللت أسارير الدكتور المخبر الغبي وسألني سؤالًا أكثر سذاجة من السؤال الأول: هل نستطيع أن نعرف أسماء بعضهم؛ ليس من أجل أي شيء ولكن ليطمئن قلبي؟ وأجبته: نعم وبكل سرور، فهناك العميد علي برعي، والعقيد سعد برعني، والمقدم أمين برعي، وعند هذا الاسم الثالث ضجت القاعة كلها بالضحك، وارتبك الدكتور السائل وقال في اضطراب شديد: أعتقد أن سؤالي لم يكن موفقًا، وعلى العموم كنت أريد أن أطمئن فقط على مستقبل بلدنا الحبيب.
ولكن الشيء الغريب حقًّا أنني اكتشفت بعد المحاضرة أن القاعة التي كانت تضم حوالي مائتي طالب لم يكن بينهم إلا اثنان من الناصريين واثنان من الشيوعيين وثلاثة من أنصار السادات والباقون جميعًا كانوا أعضاء في الجماعات الدينية وكانوا أشد ضراوة في عدائهم للسادات ونظامه من الآخرين.
•••
لا أعرف أيامًا أسوأ ولا أردأ من تلك الأيام التي عشتها في لندن خلال شهر سبتمبر من عام ١٩٨١م، ولكن لأن النور ينبثق من الظلام، والحي يخرج من الميت، فقد حدث للعبد لله حادث غريب لا أنساه. كنت أركب إلى جوار صديق في سيارة تخترق شوارع أكسفورد ظهيرة أحد الأيام عندما لمحت الصديق وجيه أباظة يجتاز الشارع من رصيف إلى آخر حاملًا في يده شنطة من الحجم الكبير، وأنا أعرف وجيه أباظة منذ أكثر من ثلاثين عامًا وأحترمه وأحبه أيضًا، وامتدت علاقتي به منذ كان ضابطًا في الجيش وإلى أن أصبح مسئولًا عن الشئون العامة بعد الثورة، ثم رئيسًا لشركة النيل للإعلان، ثم محافظًا للغربية، ثم محافظًا للقاهرة في نهاية الأمر، ثم زميلًا في سجن القلعة، ثم انقطعت صلتي به.
سافرت أنا من مصر وخرج هو من السجن واشتغل بالتجارة وفتح الله عليه بعد أن خرج من الوظيفة شحاتًا ومديونًا ومهمومًا وباع وهو محافظ ما ورثه عن أبيه.
وطلبت من صديقي أن يوقف السيارة فورًا. وأوقف صديقي السيارة فجأة، فتحت الباب وانطلقت كالمجنون أريد أن أعانق وجيه أباظة بعد هذا الفراق الطويل، ولم أتنبه إلى سيارة كانت مسرعة قادمة من الاتجاه المضاد، استطاع قائدها الماهر أن يوقف عجلات السيارة على بعد سنتيمترات من العبد لله، وأحدث توقف السيارة المفاجئ ضجة لفتت أنظار المارة ومن بينهم وجيه أباظة.
ونزل السائق ليعاتبني وربما ليوبخني ولكني لم أنتظر، انطلقت نحو وجيه وعانقته بشدة وأخذني وجيه من يدي إلى ركن في الشارع وقال: اسمع يا محمود، أنا الآن ميسور والحمد لله وهذه الحقيبة التي في يدي بها نقود كثيرة وأريد أن أقاسمك، فأنا أعرف ظروفك وأعرف ما تعانيه. وأقسمت لوجيه أباظة أنني في احسن حال.
ولما كانت حركة المرور معطلة وأبواق السيارة أخذت تتصاعد في الجو فقد ودعته واتفقنا على لقاء، والتقيت به أكثر من مرة بعد ذلك، وأحسست براحة من خلال حديثه وتأكدت أن مصر بخير وأن كل من يريد لمصر شرًّا كبه الله على وجهه.
وسافر وجيه أباظة وعدت إلى وحدتي الكئيبة في غرفتي بلندن، وحيدًا وشريدًا وليس معي من أسرتي إلا أكرم ابني، لا أعرف إلى أين تكون الخطوة القادمة؟ وإلى متى؟
وتقاذفتني أفكار شتى … فكرت مرة في ركوب الطائرة والسفر إلى مصر وتسليم نفسي للسادات؛ فأي شيء يفعله بي أهون بكثير مما ألقاه خارج مصر بفضل مساعي وضغوط رئيس الحزب الثوري، والذي تحوَّل من رئيس حزب إلى صاحب شركة كهرباء تدر عليه مليون دولار ربحًا كل عام مع شريكه، وهو ميكانيكي يتاجر في السياسة ويشتغل مقاول أنفار لبعض الأحزاب العربية الثورية خارج مصر.
وذات يوم من أيام سبتمبر وكان يومًا باردًا وعاصفًا ومطيرًا غادرت شقتي مع أكرم ابني لمقابلة صديق لي يعيش في لندن منذ ثلاثين عامًا. وعند عودتي إلى غرفتي، وكان المساء قد حل، وكنت شديد الضيق، وشعرت بألم شديد في صدري، وتوهمت أنني على وشك الإصابة بذبحة صدرية، ولم تكن كذلك ولكنها في الغالب مجرد إرهاق شديد أصابني خلال تلك الأيام السوداء.
وعندما فتحت باب الشقة وجدت ورقة صغيرة ملقاة من فتحة الخطابات، ولم يكن بالورقة إلا سطران، وما زلت أحتفظ بها حتى هذه اللحظة: «محمود، حضرنا ولم نجدك، اتصل بنا على هذا الرقم»، والإمضاء: عمك فلان. ولم أصدق نفسي في بادئ الأمر ظننته صديقًا ظريفًا يستغل ظرفه في غير موقعه، ولكني في النهاية قررت الاتصال بصديقي على الرقم المدون في الورقة.
وكم كانت دهشتي عندما كان الصوت الذي جاذبني على الناحية الأخرى هو صديقي نفسه. وشعرت براحة ليس لها مثيل؛ فقد كان مجرد الاتصال به بداية لحل جميع المشاكل. ولم تستغرق المكالمة بيننا طويلًا، دعاني إلى منزله الريفي على بعد مائة ميل من لندن، وذهبت إليه في اليوم التالي وسألني عن أحوالي، وحكيت له كل شيء بالتفصيل، واستمع طويلًا وقال: لا بأس، مكانك عندي في الخليج. واتفق معي على السفر إليه بعد أن يعود هو نفسه في بداية أكتوبر، وقال: كل شيء سيكون على ما يرام.
وبالفعل تلقيت في اليوم التالي تذكرتين للسفر إلى بلد الصديق، وأخيرًا عثرت على ملجأ بعيد عن المشاكل، وقررت بيني وبين نفسي أن أختبئ هناك حتى أعود إلى مصر أو ينتهي الأجل وأذهب للقاء الله.
وشعرت براحة تغمرني لم أشعر بها قط خلال سنوات المنفى، بدأت الاستعداد للسفر، وحددت يوم ١٦ أكتوبر لمغادرة لندن إلى المكان الذي سأستقر فيه. ومضت الأيام سريعة وجاء يوم ٦ أكتوبر، ودق جرس التليفون الساعة الثانية عشرة ظهرًا بتوقيت لندن، وكنت في تلك الحظة نائمًا على الكنبة بينما كان ابني أكرم نائمًا على السرير، وبقيت في مكاني منتظرًا إلى أن ينهض ابني أكرم ويرد على التليفون، ولكنه لم يفعل فنهضت متكاسلًا ورفعت السماعة، وكان المتحدث هو الزميل جمال إسماعيل، واندهشت لأن علاقة جمال بالعبد لله وثيقة للغاية، ويعلم أنني ذاهب إلى فراشي متأخرًا وأنني نايم والدنيا مقلوبة. قلت: خير، حصل ايه؟ قال: لقد أطلقوا النار على الرئيس السادات أثناء العرض العسكري. وقلت متضايقًا من المزاح السخيف: وسمعت الخبر دا فين إن شاء الله، في إذاعة مصر العروبة أو في إذاعة ليبيا؟! وردَّ جمال في هدوء: أنا سمعته في الإذاعة البريطانية. فقلت لجمال وأنا أضع السماعة: طيب، أنا هافتح وانت كلمني بعدين. وسمعت أول إشارة عن الحادث في نشرة أخبار الساعة الثانية عشرة والنصف.
وقال الخبر بتحفظٍ إنه حدث إطلاق نار أثناء العرض العسكري وإن أنور السادات أصيب بحالة بسيطة في يده. الشيء نفسه رددته نشرة أخبار التليفزيون الساعة الواحدة. وبدأت الاتصال تليفونيًّا ببعض من أعرفهم في لندن وفي الكويت ولكن كل الأخبار التي تلقيتها كانت غامضة.
وفي الواحدة والنصف دق جرس التليفون، وكان المتحدث هو صديقي الذي دعاني إلى مدينته في الخليج. وقال: صديقي، لقد مات صاحبك وانتهت متاعبك الآن. وسألته: هل هو تخمين أم معلومات؟ فأجاب: معلومات.
وقال صديقي قبل نهاية الحديث: أنا ما زلت عند وعدي لك، احضر إلينا حتى تنجلي الأمور تمامًا، ثم تقرر بعدها ماذا يجب أن تفعله. وشكرته ووعدته بالذهاب إليه في أقرب وقت.
بدأ الأصدقاء يتوافدون على شقتي في لندن، كان من بينهم الأستاذ حسن فؤاد وعدد من المصريين وآخرون من أقطار عربية أخرى. وعندما حانت الساعة الثانية والنصف بتوقيت لندن، حوالي الرابعة والنصف بتوقيت القاهرة، قلت للحاضرين: إن الرئيس السادات لقي مصرعه، ولكن معظم الحاضرين تمسكوا بأنه أصيب ولم يمت. ولم أذكر لهم شيئًا مما دار بيني وبين صديقي وقلت لهم: ولكن ما دامت كل هذه الساعات قد مضت دون أن نسمع صوته فهو بالتأكيد انتقل إلى العالم الآخر وأصبح في ذمة الله. ولم يعلنوا خبر موته في الإذاعة إلا في الخامسة مساء ونقلًا عن متحدث أمريكي في البيت الأبيض!
في تلك اللحظة شعرت بأني على وشك الإغماء، كمن خرج فجأة من معركة طويلة مرهقًا ومثخنًا بالجراح ولم أدرِ هل أضحك أم أبكي؟!
مشاعر شتى تقاذفتني وأنا في هذه اللحظة التاريخية التي لم يمر مثلها عليَّ في تاريخها الطويل. فلقد قتل المصريون وزراءهم ولكنهم لم يقتلوا حكامهم قط.
هذه أول مرة يقتل فيها شعب مصر حاكمًا، وهو حادث يحمل دلالة خطيرة وهي أن الحكم كأي شيء في الحياة له حدود، وعلى الحاكم مهما علا حكمه ألا يتجاوز هذه الحدود.
وأيًّا كان الذي جرى فقد انطوت صفحة السادات ونظامه، وعلى المعارضين في الخارج أن يحددوا مواقفهم من الحكم الجديد.
وأمسكت بورقة وقلم وكتبت أول مقال بعد غياب أنور السادات عن الساحة، وقلت بالحرف الواحد: لا شماتة في الموت، ولا خلاف مع ميت … وبُهت الذين قرءوا المقال؛ فقد تصوروا أنني سأستعرض عضلاتي بعد موته، ولكن الحقيقة أنني أدرت ظهري للماضي كله عندما تأكدت من موته. لقد وضع الموت حدًّا لكل شيء، وعلينا الآن أن نبدأ خطوتنا نحو المستقبل.
ولكن الذي أغاظني بالفعل هو منشور ثوري أصدره الرجل الكهربائي إياه في اليوم التالي يزعم فيه أن حزبه الكهربائي الثوري هو الذي وضع حدًّا لحياة السادات، وفي الوقت نفسه استولى زعيم المعارضة الآخر وهو ضابط جيش أيضًا وأنجز عملًا طيبًا في حرب أكتوبر، لكنه رغم كفاءته العسكرية كان ضحلًا في السياسة وليس له علاقة بأحد السياسيين على الإطلاق، كما أنه كان مقطوع الصلة بطبقة المثقفين تمامًا.
أقول: استولى على إذاعة ليبيا وراح يصدر أوامره إلى قواته في مصر بالتحرك، وراح يحدد لهم الأماكن التي يحتلونها والمواقع التي يتمركزون فيها، ولم يتحرك أحد في مصر بالطبع إلا في خياله البائس المريض.
وفي اليوم التالي كتبت مقالًا من نار: «الرصاصات التي قتلت أنور السادات على المنصة قتلت في الوقت نفسه المعارضة المصرية في الخارج، وهي معارضة هزيلة وتافهة يقودها ضباط ورجال مخابرات سابقون، وبعضهم مشغول بالتجارة إلى جانب السياسة، وبعضهم فتح الله عليهم فصاروا مثل مهراجات الهند في سالف العصر والزمان …» وأعلنت تأييدي لحسني مبارك منذ أول لحظة.