زيارة الرجل العجوز!
بعد حادث المنصة بأسبوعين، كنت في الطائرة عائدًا مرة أخرى إلى الخليج. كنا في أوائل نوفمبر، وكان الجو ربيعًا في الخليج، ولا أبالغ إذا قلت إنه لا مثيل لجو الخليج في الشتاء على ظهر الأرض. وعلى شاطئ الخليج قضيت أجمل أيام حياتي؛ أنام عميقًا، وأصطاد السمك أحيانًا، وأضحك من الأعماق في كل وقت. وطرأت طاهرة غريبة على العبد لله، لم يكن لي بها سابق عهد: أخذ جسدي النحيل في السمنة، واضطررت لأن أستبدل بكل ملابسي، ملابس جديدة حتى تليق بالكرش الذي تضخم واللحم الذي تدلى والصلعة التي اتسعت أكثر من ذي قبل، وانتقلت من الفندق الفاخر الذي كنت أنزل فيه إلى شقة فاخرة، وبدأت أستقبل أصدقائي من الفنانين والأدباء والجميع من مصر.
وجاءني محمود ياسين ويوسف شعبان وعلي الغندور وعبد الحفيظ التطاوي وإبراهيم سعفان وإبراهيم عبد الرازق، وصلاح السعدني بالطبع.
واتصلت صلتي القديمة بكباتن الكرة في الخمسينيات وفي الستينيات؛ أحمد رفعت ويكن وخيري، وبدأت أعصابي تهدأ وبدأت رغبتي في العراك تبرد، واستبد بي الشوق لمصر.
المشكلة الوحيدة التي كنت أعاني منها في ذلك الوقت، هي أنني كنت أعتمد في معيشتي على مرتب جريدة السياسية. وكان عليَّ أن أنفق من هذا المرتب على أسرتي التي تقيم في بغداد، وعلى شقتي التي أقيم فيها في الخليج، وكان صديقي الذي دعاني إلى الخليج قد قام مشكورًا بتغطية نفقات إقامتي بالفندق، وتولى دفع إيجار الشقة وتأثيثها، ولم يكن مطلوبًا منه أكثر مما قام به، واتصلت بأحمد الجار الله من الشارقة وشرحت له الأمر فقال: لا عليك.
وبدأت الأمور بعدها في التحسن، ثم بلغت حد الكمال بعد ذلك، عندما استدعاني أحد المنتجين العرب، وكلفني بكتابة قصة وسيناريو وحوار مسلسل تليفزيوني، ودفع لي مقدمًا عشرة آلاف دولار، وضعتها في البنك؛ رِدءًا للمفاجآت في الأيام القادمة.
وعندما اشتد حنيني إلى مصر، قررت رؤية صديقي إبراهيم نافع ما دامت رؤية مصر نفسها لا تزال متعثرة. وإبراهيم نافع حلقة من السلسة النفيسة من أصدقائي والذين هم في حقيقة الأمر كانوا مصر بالنسبة للعبد لله؛ سلسلة تضم عشرات من الأصدقاء، انتقل أغلبهم إلى رحمة الله، وهاجر بعضهم إلى الخارج، وهاجر بعضهم في الداخل، وكان إبراهيم نافع من بينهم، إن لم يكن على رأسهم. وهو رجل بسيط وفلاح من عامة الناس، ولكنه يكشف عن معدنه الأصيل عندما تشتد حوله الأزمات، وتطبق عليك المحن. وكان هو الوحيد بين أصدقائي الذي واظب على زيارتي أسبوعيًّا في سجن القناطر، ولم يعد لي صديق غيره إلا شوقي الصاعقة، وقد جاءني في السجن مرة واحدة. وغير هذين الصديقين لم أرَ أحدًا من أصدقائي فترة السجن، بل إن معظمهم تهرَّب من لقائي حتى بعد خروجي من وراء الأسوار. وإن كنت لا بد أن أذكر موقف الصديق عبد الحليم حافظ الذي اتصل بي تليفونيًّا في مكتب مأمور سجن القناطر، ولم يكن المأمور موجودًا في مكتبه، وكان يجلس مكانه ضابط شاب كاد يصيبه الذهول عندما اكتشف أن الذي يتحدث معه على الخط من الناحية الأخرى هو عبد الحليم حافظ شخصيًّا، واضطر الضابط بعد أن دردش كثيرًا مع عبد الحليم إلى استدعائي والسماح لي بالحديث مع عبد الحليم، ولا أنسى أيضًا موقف الأستاذ الكبير مصطفى أمين عندما أرسل لي من سجن طرة إلى سجن القناطر هدية ثمينة من الشيكولاتة وسجاير الكنت، ومع الهدية رسالة يستفسر فيها عن أحوالي ويطمئن إلى أن بعض الرؤساء العرب قد تدخَّلوا لدى السادات من أجل إطلاق سراحي، وأيضًا فعل الصديق محمد عودة نفس الشيء، عندما أرسل لي مسودة من كتابه القيم «الوعي المفقود» الذي ردَّ فيه على كتاب توفيق الحكيم «عودة الوعي»، وقد استمتعت كثيرًا بالكتاب في السجن، وأدركت من خلال سطور كتاب محمد عودة أن مصر العظيمة لا يمكن أن تنهزم.
بالطبع لم تنقطع زيارة الأسرة؛ كان صلاح السعدني يزورني مرة كل أسبوع، وكان صهري الأديب عبد الرحمن شوقي يفعل نفس الشيء، وكانت أمي حريصة على زيارتي رغم المرض والشيخوخة. وكانت ابنتي الصغرى حنان تعتقد أنني مجند في الجيش، وكانت في فترة الزيارة تلهو ببراءة في فناء السجن، ولم تدرك أنها في أحقر مكان على ظهر الأرض، ولكن إبراهيم نافع كان أكثرهم ترددًا عليَّ في السجن؛ لأنه كان يزورني مع الجميع، مرة مع أسرتي، ومرة مع شقيقتي، ومرة مع صهري، ومرة مع المحامي.
وهناك زيارة هزتني في عمق وبكيت ليلتها وأنا أقبع وحيدًا في زنزانتي الباردة في سجن القناطر.
كان اليوم عيدًا عندما جاءني المأمور في السادسة مساء وقبل إغلاق أبواب الزنزانات بدقائق، وقال لي: هناك شخص يقف عند الباب ويريد زيارتك واسمه خليل، فهل تريد مقابلته؟ قلت للمأمور ليس له صديق بهذا الاسم، ورجوت المأمور أن يسأله عن شخصيته وعن العرض من زيارته، وخُيل إليَّ أنه محامٍ موكَّل في قضية معي أو ضدي، لكن المأمور عاد بعد قليل وأخبرني أن الرجل الواقف عند باب السجن يقول إنه جدِّي، واسمه الشيخ خليل معوض، ولم أصدق ما سمعته أذناي!
كان جدي الشيح خليل في سن المائة، وربما أكبر قليلًا في تلك الأيام. وطلبت إلى المأمور أن يصف الرجل لي، وجاء وصفه منطبقًا على جدي بالضبط، وأسرعت مع المأمور للقاء الرجل العجوز، واحتضنته بشدة، وجلس معي أكثر من نصف الساعة في حجرة المأمور، وسألني عن أحوالي داخل السجن، ثم أدى صلاة المغرب، ثم قال لي وهو ينصرف: لقد ذهبت اليوم لزيارة الموتى في القبور ثم جئت إلى هنا لزيارتك. والحق أقول: إن العلاقة بيني وبين الشيخ خليل معوض، كانت أكثر من علاقة حفيد بجده، كنت أمزح معه وأضربه مقالب في بعض الأحيان! وأرغمته مرة على مشاهدة مسرحية من تأليفي. وبدا عليه السرور عندما ظهر الفنان محمد رضا على المسرح ومعه عبد السلام محمد، ولكن عند ظهور أول امرأة على المسرح وكانت الفنانة عقيلة راتب، هب صارخًا كمن لدغه عقرب، وأخفى عينيه بيديه ولعنني ولعن أيامي السود وسلوكي المعوج … وكيف لا يكون سلوكي معوجًّا، وقد أخبرته في بداية العرض أنها مسرحية بلا نساء!
وأعود إلى الصديق إبراهيم نافع: كلمت صديقي إبراهيم المطيري بتدبير دعوة إبراهيم نافع إلى الخليج، وقام إبراهيم المطيري بالأمر على ما يرام، وذهبت إلى المطار لاستقبال الحاج إبراهيم نافع القادم من القاهرة بعد فراق استمر تسع سنوات.
ووقفت أنتظره لمدة ساعة بعد خروج جميع ركاب الطائرة من المطار. والسبب أن رجال الجمارك ارتابوا في أمره، فقد كان يحمل معه عشر قفف من النوع الصعيدي ممتلئة بكل ما لذ وطاب: خروف كامل مذبوح، وأصناف من البلح كان يعلم حبي لها، وفريك فلاحي وملوخية، وعيش بلدي «شقق»، وقشطة من خير الريف، وليمون بنزهير من النوع الذي ليس له وجود في أي مكان إلا مصر، وبرطمان طرشي بلدي بالدقة والبرطمان طوله متر وقطره نصف متر، وخبز فلاحي مرحرح.
وتصوَّر بتوع الجمارك أمام كل هذا الكم الهائل من المأكولات أن الرجل يموه عليهم، باعتبار أن كل الأطعمة متاحة وموجودة في الخليج! وأقام إبراهيم نافع معي ثلاثة أسابيع، وترك هنا أثرا لا يُنسى كما هو شأنه في كل مكان يذهب إليه، وعقد صداقات مع باعة السمك في الحلقة، ومع الجزارين الهنود في السوق المركزي، ومع العربي الأردني صاحب السوبر ماركت، ومع مجموعة الصحفيين المصريين الذين يعملون هناك، أسامة وهندي غيث ومحمد العكش ويسري حسين. ومن إبراهيم نافع استطعت لأول مرة أن أفهم حقيقة الأوضاع في مصر، واكتشفت أيضًا أن تأييدي لمبارك كان عين الصواب، وأن شعب مصر ربما لم يتحرك لاختيار رئيس بهذا الحرص، كما تحرك لاختيار مبارك.
لقد شعر الشعب فجأة أن مصر في خطر.
ووجدت في إبراهيم نافع حائطًا جديدًا للمبكى. فحكيت له مأساتي وما حدث بالتفصيل منذ خروجي من مصر وحتى التقينا. كانت أيامًا من العمر لا تنسى، لم ينغص علينا إلا وفاة شقيقة الحاج إبراهيم نافع فجأة، فاضطر إلى قطع رحلته والعودة إلى القاهرة.
وعدت بعد رحيل الحاج إبراهيم نافع أنام نهارًا وأسهر ليلًا، وأتفرج على مناظر مضحكة ومبكية معًا! منظر بعض المكافحين الذين يكافحون في الخليج ضد مصر الرجعية والمستبدة! وهم طراز من المكافحين يؤمن بأن الكفاح كالرزق يحب الخِفِّيَّة، وهم أغرب مكافحين في تاريخ البشرية؛ لأنه لم يسبق لأحد منهم أن استوقفته أي شرطة في العالم، ولا حتى شرطة المرافق، وهم يقرءون عن السجون في الجرائد، ويقرءون عن الاضطهاد في الكتب، ولا يعرفون إلا خلال بحثهم المضني عن منافذ جديدة لتحويل ما كسبوه في السوق السوداء!
وكان كل واحد من هؤلاء المكافحين يعمل لحساب جهة معينة، ويقبض أجره حسب درجة علو صوته ومتانة حبال حنجرته، ودرجة حرارة القلم الذي يكتب به؛ ولذلك كان لا بد من الكفاح حتى النهاية.
ومن غرائب الطبيعة أنه كان من بين هؤلاء المكافحين مكافح حقيقي عاش سنوات طويلة في السجون واضطُهد كثيرًا، وتشرد طويلًا، وعندما ذهب إلى الخليج، عاش في الظل، واحترف الصحافة لأنها مهنته … وتوثقت صلتي بالصديق مصطفى كمال الذي لازمته فترة سجون مصر، وفترة في العمل السياسي، وقبل أن يصبح العمل السياسي نوعًا من أنواع الوجاهة والثراء، والحصول على مكان تحت الشمس!
وذات صباح، دق جرس التليفون، كان المتحدث صديقًا، وقال إن هناك مستشارًا بوزارة الخارجية المصرية يريد لقائي، ويدعى محمود فهمي، وهو يريدك لأمرٍ هام ولمسائل تتعلق بعودتك إلى القاهرة. ولما كان العبد لله صاحب خبرة طويلة في مثل هذه الأمور، فقد قلت لصديقي إنني لا أرغب في مقابلته؛ لأنني أعلم أن الخارجية المصرية ليس من بين اهتماماتها الاتصال بالمصريين الهاربين من مصر، ولأن هناك جهات أخرى هي التي تهتم وتسعى لمثل هذا اللقاء، وأبديت استعدادي للقاء المستشار إذا كشف عن شخصيته وأفصح عن حقيقة الجهة التي يعمل بها. وتكرر نفس الطلب من أصدقاء آخرين: صحفيين وموظفين ورجال بنوك، ولكني تمسكت بالرفض، حتى تلقيت مكالمة من سيدة مصرية تعيش في المهجر منذ فترة طويلة، وكنت أعلم أنها على صلات وثيقة ببعض أجهزة الأمن في مصر، عندئذٍ تأكدت ظنوني في شخص المستشار، ووافقت على لقائه، وجاءتني السيدة ومعها «المستشار»، وكانت ذكية ولماحة وواعية إلى حد كبير، فاقتصر دورها على توصيل المستشار إلى المكان الذي أقيم فيه، ثم ذهبت إلى حال سبيلها وتركتنا معًا وجهًا لوجه، أنا والسيد المستشار، وكان هذا أول لقاء رسمي بين العبد لله وحكومة مصر بعد رحيل أنور السادات.
•••
لم يكن منظر السيد المستشار يوحي بأنه مستشار على الإطلاق. وكانت عضلاته المفتولة وقوامه العسكري وهيئته عمومًا تؤكد على أنه من رجال الأمن، ولم يكن للعبد لله أي اعتراض على الدخول في مناقشة مع رجل أمن قادم من القاهرة؛ فهو على كل حال سيكون موصلًا جيدًا للحرارة، وسينقل وجهة نظري كما هي لمن بيدهم الأمر.
وفوجئت به يسألني عن شروطي للعودة إلى القاهرة. ولم يكن لي شروط على الإطلاق، ولكن فوجئت به يسألني: وهل أنت مصرٌّ على العودة رئيسًا لتحرير صباح الخير؟ وكان سؤالًا ساذجًا بحق؛ فمنصب رئيس التحرير منصب سياسي، وقلت للسيد المستشار: إنني لست ساذجًا إلى هذا الحد؛ فأنتم مع كامب دافيد وأنا ضدها، وأنتم مع الصلح مع إسرائيل وأنا غير موافق على هذا الصلح. وأنتم على علاقة خاصة بالولايات المتحدة، وأنا مع أنصار العلاقات المفتوحة مع الجميع، وأنتم على خلاف مع العرب وأنا من أصحاب نظرية مصر بلا عرب لا شيء، وعرب بلا مصر لا شيء أيضًا. ومن هنا فإن مجرد التفكير في منصب رئيس تحرير صحيفة قومية لم يخطر لي على بال!
وأبدى المستشار دهشته ثم سألني عن موقف الآخرين من العودة إلى القاهرة، وأجبت المستشار بأنه يستطيع أن يسأل الآخرين إذا أراد أن يعرف رأيهم. واقترح المستشار على العبد لله أن أدعو إلى عقد مؤتمر للمعارضين في الخارج لمناقشة هذا الأمر، واعتذرت عن تنفيذ هذا الاقتراح؛ لأنني لست زعيمًا سياسيًّا، ولكني مجرد كاتب اضطرتني ظروف معينة إلى مغادرة مصر، وأريد العودة الآن إلى بلادي بعد أن زالت هذه الظروف. وفي نهاية المقابلة سألني: أليس لك طلبات خاصة؟ قلت: نعم، أن تقبلوا أولادي في جامعة القاهرة. فقال: هذا أمر بسيط، وسيكون كل شيء على ما يرام، وسألقاك بإذن الله قريبًا في القاهرة.
ولم يحقق السيد المستشار شيئًا مما وعد به. ولم ألتقِ به إلا مصادفةً في ممرٍّ ضيق بوزارة الداخلية عندما كنت في طريقي لمقابلة السيد حسن أبو باشا وزير الداخلية!
وبعد أيام من لقاء المستشار إياه التقيت بصديقي الذي دعاني إلى الإقامة عنده في الخليج، وخلال هذا اللقاء استمعت إلى ما لم أكن أتوقعه! فصديقي اضطرته الظروف إلى الوقوف بجانب إيران في حربها ضد العراق! ولذلك فهو يطلب إليَّ أن أعتزل الكتابة نهائيًّا، وأن أتوقف فورًا عن نشر مقالي اليومي في جريدة السياسة الكويتية، ومقابل ذلك سيقوم صديقي إياه بتأسيس مشروع تجاري باسم العبد لله، ويشترط إلا أتعجَّل عودتي لمصر حتى تتضح الصورة تمامًا في القاهرة.
ولكن أغرب شيء سمعته هو أن صديقي — الذي هو في أمور السياسة مثل شكوكو في أمور الفلسفة — يتزعم حزبًا سياسيًّا هو الحزب العربي الموحد. ويضم الحزب «المئات» من أقطار عربية شتى، وأن هدف الحزب في النهاية هو توحيد العالم العربي، ولم أفهم العلاقة بين توحيد العالم العربي والوقوف إلى جانب إيران في حربها ضد العراق!
كان واضحًا في حديثه معي أن النقط التي حددها صديقي ليست مجرد رغبات ولكنها شروط، وأن إقامتي على شاطئ الخليج مشروطة بتنفيذ هذه الشروط. ولذلك طلبت إلى صديقي الطيب أن يمهلني فترة للتفكير الذي حدث في عالم اليوم، يبدو أن الأمة عندما تنحدر، تنحدر في كل شيء وعلى كل مستوى.
في الماضي القريب كدت أجن لمحاولات بعض النظم العربية وسعيها لتزعم الأمة العربية بعد خروج مصر، وكان سبب جنوني أن هذه النظم لا تملك الإمكانات ولا القدرة، وكل ما تملكه هو مجرد طموح بدون مؤهلات ولا مواهب؛ طموح أشبه بطموح العبد لله في أن أرتقي عرش بريطانيا يومًا ما!
ولكن ها هي ذي الأمور تتطور على الساحة العربية إلى ما يشبه الهزل، وها هو ذا صديقي الطيب يعتقد الآن في إمكانه تزعم العالم العربي وقيادته، ومن أجل هذا أصدر جريدة وأنشأ حزبًا، ولم يعد ينقصه شيء إلا أن يجلس مكانه وينتظر، تمامًا كما يشتري الصعيدي ملابس كرة قدم، ثم يجلس في قريته ينتظر دعوة للمشاركة في بطولة كأس العالم القادمة!
وأنقذني من ورطتي وصول تلكس من الشيخ صباح الأحمد يدعوني فيه إلى العودة إلى الكويت، وكانت لهجة التلكس ودودة ورقيقة ولم أضيع وقتًا، وركبت أول طائرة إلى الكويت، واستقبلني الشيخ صباح الأحمد بترحاب شديد، وقال: هذه بلادك، وعليك أن تتصرف هنا كما يتصرف الإنسان في بلاده. كانت شروط صديقي لا تزال تجثم على صدري كحجر ثقيل. وبالرغم من أن موقفي منها كان الرفض القاطع، إلا أنه كان من استطلاع رأي بعض من أثق فيهم من الأصدقاء، والحكماء منهم على وجه الخصوص، وقد أبدى الأستاذ أحمد بهاء الدين دهشته الشديدة لما سمع مني، فنصحني بعدم الكف عن الكتابة. ونصحني أيضًا بالعودة سريعًا إلى القاهرة وكان هذا هو رأي الأستاذ أحمد الجار الله أيضًا. وعلمت من الصديقين أيضًا أن بعض المسئولين العراقيين اتصلوا بهما يطلبون عنواني، وأن هذا الاتصال تكرر كثيرًا، وأن سبب الاتصال والسؤال عن مكاني، هو أن الرئيس صدام حسين يريد أن يراني قبل أن أعود إلى القاهرة. وسألت الأستاذ بهاء رأيه، فقال: إذا كان الرئيس صدام يريدك، فلا بد أن تذهب إلى بغداد. وقال الأستاذ أحمد الجار الله نفس الشيء، وألح على ضرورة الذهاب إلى بغداد.
ولكن الأمور تطورت سريعًا فقد تحدد موعد الأستاذ أحمد الجار الله لمقابلة الرئيس حسني مبارك في القاهرة، وقال لي رئيس تحرير السياسة وأنا أودعه في مطار الكويت: لا تترك الكويت إلى أي مكان حتى أتصل بك من القاهرة. وأقمت في الكويت في انتظار مكالمة أحمد الجار الله التي جاءت بعد يومين بالتحديد، وقال لي أحمد الجار الله من القاهرة: أبشر يا محمود، فكل شيء سيكون على ما يرام، وسأعود غدًا إلى الكويت، وبعد خمسة أيام سأطير مرة أخرى إلى القاهرة وستكون معي في طائرتي الخاصة. وشعرت براحة شديدة. وانتابتني حالة نشاط مفاجئة؛ أخيرًا سيقدَّر لي أن أرى مصر الحبيبة بعد صياعة طويلة دامت تسع سنوات.
وبالفعل جاء الجار الله في اليوم التالي. وجلست أعد الأيام حتى كانت الليلة الأخيرة قبل السفر إلى القاهرة وكنت مدعوًّا إلى حفل أقامه بعض الأصدقاء في منزل الأستاذ علي عمر المحرر بجريدة الوطن.
وبينما أنا أتأهب لمغادرة الفندق في طريقي إلى مكان الحفل، وإذا بجرس التليفون يدق، وكان المتكلم هو المستشار الصحفي المصري بالكويت، وقال الرجل وبدون مقدمات: محمود، لا تسافر غدًا مع أحمد الجار الله؛ فقد اتصل بي الأستاذ محمد حقي رئيس مصلحة الاستعلامات المصرية، وطلب إليَّ أن أرجوك تأجيل سفرك إلى القاهرة بعض الوقت.
وقلت للمستشار الصحفي وقد أخذتني المفاجأة: وهل هذا معقول؟ أفهم أن يُمنع إنسان من الخروج من بلده، ولكن أن يُمنع إنسان من الدخول إلى بلده، فهذا هو الشيء الجديد، والغريب أيضًا!
وقال الرجل الطيب: إن الذين يطلبون إليك التأجيل هم الذين يحبونك ويقفون في صفك، وعلى العموم لن يتأخر سفرك إلى القاهرة أكثر من أيام. ثم طلب إليَّ أن أتصل بالأستاذ أحمد الجار الله لأن مدير الاستعلامات المصري اتصل به أيضًا في هذا الشأن.
وعندما اتصلت بالأستاذ أحمد الجار الله في منزله، ضحك ضحكته المميزة، وقال: ها، ولا يهمك كل شيء هايكون تمام، إنت هتتأخر أسبوع أو أسبوعين، وسنذهب إلى القاهرة معًا بإذن الله. ولا أعرف حتى اللحظة كيف وصلت إلى مكان الحفل، ولا أعرف كيف قضيت الليلة مع الأصدقاء، كل ما أذكره الآن أنني بعد انصراف المدعوين صارحت صاحب البيت بما حدث، ثم انفجرت في بكاء عنيف. لم أستطع السيطرة على نفسي، وبكيت في تلك الليلة كما لم أبكِ في حياتي قط. وعندما عدت إلى الفندق في الفجر، وجدت رسالة من الأستاذ صباح سلمان السكرتير الصحفي للرئيس صدام حسين، ويقول في الرسالة إنه طلبني ولم يجدني، وإنه سيعاود الاتصال بي في الثامنة صباحًا. وفي الموعد الذي حدده كان صباح سلمان معي في بغداد، وقال صباح: لقد بحثنا عنك في كل مكان، واتصلنا بالعديد من أصدقائك دون جدوى، والآن نحن في انتظارك في بغداد؛ لأن الرئيس صدام حسين يريد أن يراك قبل أن تعود إلى بلادك. وقلت للصديق صباح سلمان: حاضر، سأكون عندكم في بغداد خلال أيام. ولزمت الفندق لا أغادره على الإطلاق. كان أكرم ابني لا يزال في صحبتي. فقد ضاعت عليه سنة دراسية، وأسرتي كانت لا تزال في بغداد ولا أعرف عنها شيئًا، ولي شقة في الخليج وشقة في القاهرة، ومنزلي في بغداد، بينما أقيم في فندق في الكويت، أصبح حالي كحال الأمة نفسها بلا منطق ولا عقل!
وفي المساء اتصل بي الصديق نصيف عواد، فطلب إليَّ ضرورة الإسراع في الحضور، وقال: عندما تصل إلى بغداد اتصل بي فور وصولك ومهما كان الوقت. وقلت للصديق نصيف عواد: إنني أخشى من لقاء الرئيس صدام هذه المرة. وعندما سألني نصيف عن السبب قلت: لأنني لن أستطيع أن أكتم عنه هذه المرة كل صنوف العذاب التي لقيتها في بغداد. وقال نصيف: لا تكتم شيئًا على الإطلاق، وثق يا محمود أن كل ما حدث لك لم يكن إلا من تدبير بعض الموظفين الجهلة، وبعض أشباه السياسيين الحمقى، ولكن أرجوك لا تتأخر في العودة إلى بغداد.
وكان نصيف عواد — والحق أقول — هو الواحة التي ألجأ إليها دائمًا كلما اشتد الهجير في بغداد. كان من هذا الطراز الذي يجذب إليه الصائعين والحيارى والذين يتقلبون على جمر النار. وكانت له وقفات مع العبد لله لن أنساها ما حييت، واتخذ نفس الموقف مع آخرين اكتووا مثلي بنار الحمق والجهل، مصريون وفلسطينيون وسوريون، وكان يؤمن بأن المذاهب السياسية كالحب، تأتي بالاقتناع وليس بلوي الذراع، وكان يدير مكتبًا في القيادة القومية، ولديه متسع من الوقت ليستمع في أناةٍ وصبر إلى شكاوى المعذبين وضحايا الحمقى من صغار الموظفين. وكنت أثق فيه كثيرًا وأصدقه دائمًا، وأرتاح إليه في كل حين؛ ولذلك هدأت نفسي واطمأنت بعد حديثه معي. وفي الصباح كنت مع أكرم ابني في السيارة ننهب الطريق إلى بغداد.
•••
وصلت منزلي في بغداد في الحادية عشرة مساء، ووجدت هناك أحد زعماء حزب الكهرباء مع حرمه في زيارة مفاجئة. واكتشفت أنه جاء مع السيدة حرمه ليبلغ الأسرة أنني لن أعود إلى بغداد، وبالطبع نقل هذا الكلام نفسه لمن يتعامل معهم فيما يسمى بمكتب مصر. ولم يخجل الزعيم الكهربائي عندما رآني أمامه في بغداد ولكنه آثر الانسحاب واختفى. كان حال الأسرة لا يسر؛ فقد أحاطوهم بسلسلة من الشائعات الكاذبة؛ فمرة أنا متزوج من إنجليزية في لندن، ومرة أخرى أنا متزوج من مصرية في الكويت، ولكن الجريمة الحقيقية هي أنهم حاولوا تجنيد زوجتي في العمل السياسي لحساب حزب قومي مصري، كان البعض يغرس جذوره في الخارج تمهيدًا لشتله في أرض مصر. واستخدموا في محاولة تجنيدها سيدة مصرية تعمل طبيبة بيطرية في بغداد وتقيم هناك منذ عشرة أعوام. وكانت فكرة جنونية من جانب هذا البعض الذي تصور أنه قادر على حكم الأمة العربية بعد غياب مصر؛ فقد كانوا يعلمون تمامًا أن السيدة حرمنا، أستاذة في فن الطبخ، وهي تجيد صنع الملوخية على الطريقة المصرية وليس على الطريقة القومية، وأنها نذرت نفسها لبيتها ولأولادها، وأشهد أنها حصلت على الميدالية الذهبية في هذا المجال، ولكنه الجنون الأزلي الذي انتاب البعض والذي صور لهم أن حكم مصر قد صار قاب قوسين أو أدنى، فشمروا عن سواعدهم لتأليف حزب قومي خارج مصر من بعض الأرزقية والحثالة والذين قبضوا الثمن مكاتب ثقافية في أوروبا، وشركات كهرباء تعمل في أرجاء الوطن العربي ومسجلة في بنما. واضطررت إلى منع السيدة المصرية التي تشتغل بطب الحيوانات من دخول منزلي، وأبلغت المسئولين عنها برفضي واشمئزازي لهذا الأسلوب الهابط، الذي لا يتفق مع الشعارات المرفوعة والأدبيات المكتوبة.
المهم أنني في نفس الليلة في الساعة الواحدة بعد منتصف الليلة اتصلت بالأستاذ نصيف عواد، الذي قام بدوره بالاتصال بالقصر الجمهوري في نفس الليلة، وفي الصباح الباكر دق جرس الباب في منزلي، وكان الطارق أحد أفراد الحراسة في القصر الجمهوري ومعه سائق وسيارة مرسيدس من سيارات القصر، وقال الرجل: هذه السيارة مخصصة لتنقلاتك أثناء وجودك في بغداد وسلمني رقم تليفون وقال: تستطيع أن تتصل بهذا الرقم إذا صادفتك أية مشاكل في بغداد، ثم اتصل بي الأستاذ طارق العبد لله وكان يشغل منصب رئيس الديوان الجمهوري، وحدد لي موعدًا للقاء الرئيس صدام حسين، وكان ذلك بعد سبعة أيام من وصولي إلى بغداد.
وسألت أحد المسئولين في الإعلام العراقي عن الحدود التي يجب أن ألتزمها في حديثي مع الرئيس صدام، فنصحني أن أكون محمود السعدني، وأن أتصرف بتلقائية وعلى طبيعتي، وأن أفتح له صدري وقلبي معًا.
وفي الموعد المحدد توجهت إلى القصر الجمهوري. ولكني اكتشفت ألا أحد هناك، لا الرئيس، ولا رئيس الديوان، ولا السكرتير الصحفي، ولا أحد على الإطلاق، لم يكن هناك إلا أحد رجال الحراسة. وجلست أنتظر بعض الوقت، ثم انصرفت.
وفي المساء علمت أن الرئيس اضطر إلى السفر فجأة إلى جبهة القتال، وأن معركة ضارية نشبت فجأة بالقرب من الحدود، وأن الجيش الإيراني استطاع أن يزحف حتى الحدود الدولية ملتفًّا كالثعبان حول مدينة المحمرة، وأنه استطاع محاصرة المدينة وعزلها تمامًا وفي داخلها نحو عشرين ألف جندي عراقي، وكانت معركة رهيبة دفع فيها الطرفان ثمنًا باهظًا في الأرواح والعتاد، واستمرت آلة الحرب تعمل بلا انقطاع عشرة أيام كاملة. وخُيِّل إليَّ أن لقائي بالرئيس صدام سيكون متعذرًا، بل ويكاد مستحيلًا بعد هذه الظروف الأليمة التي أحاطت بالموقف. وفكرت في السفر إلى الكويت تمهيدًا للسفر إلى القاهرة، ولكن فوجئت ذات مساء برئيس الديوان الجمهوري يطلبني. ويبلغني بأن لقائي بالرئيس صدام قد تحدد في الساعة الحادية عشرة قبل ظهر الغد. وانتابني أرق شديد، ولم أنم إلا قليلًا، ورحت أقلب الأمر على جميع وجوهه وأندب حظي الذي شاء لي أن أقابل الرجل وسط هذه الظروف التي إن لم تكن مؤلمة، فهي على الأقل مرهقة ومقبضة أيضًا.
وفي الصباح كنت في القصر الجمهوري في مكتب السكرتير الصحفي، أنتظر الإذن بالمقابلة. وفي الساعة الثانية عشرة تمامًا قادني رئيس التشريفات إلى حجرة مكتب الرئيس، وعندما وقع بصري عليه، حدث لي ارتباك شديد، فقد تصورت قبل الدخول عليه أنني سأرى رجلًا مهمومًا مجهدًا تبدو آثار السهر الطويل حول عينيه. وكان سبب ارتباكي أن الذي رأيته كان شيئًا آخر مختلفًا؛ كانت تبدو عليه علائم الصحة والثقة في نفسه إلى أقصى حد، وكان بقامته الطويلة، وفي لباسه العسكري، وبنظراته النفاذة، وبابتسامته الرقيقة، يفرض الرهبة والاحترام. وتلقَّاني بذراعين مفتوحتين وبتواضع شديد وبأخوة حقيقية، وجلس على مقعد، وأشار على المقعد الآخر، فجلست، وأشعل لنفسه سيجار هافانا من النوع الفاخر «كيو هيبا»، وقدَّم لي واحدًا، وتفضَّل فأشعله لي، وسألني عن أحوالي، ثم فجأة سألني: ليش تركت العراق يا محمود؟! إحنا قصرنا معك؟! قلت: أستغفر الله، لم يحدث تقصير من جانبك يا سيادة الرئيس، ولكن الذي حدث أن يعض الموظفين الذين يشتغلون بالسياسية ضايقوني إلى الحد الذي قررت فيه أن أغادر العراق.
قال: ولكني طلبت إليك من قبل أن تقاوم هؤلاء وأن تقف في وجوههم! قلت هذا صحيح، وأنا فعلت ما نصحتني به، ولكني لم أكن قادرًا على الاستمرار؛ فقد اكتشفت خلال المعركة معهم أنني وحيد غريب، وضعيف أيضًا، ولم يكن أمامي إلا الاستسلام أو الهروب، وفي النهاية آثرت الهروب، فهربت.
وقال الرئيس صدام: ولكنك مخطئ في شعورك بأنك كنت وحيدًا، لأنني معك أسند ظهرك، وأشد قامتك. قلت: هذا صحيح يا سيادة الرئيس، ولكني أعلم أنك مشغول بالحرب، وتصبح جريمة لو شغلت وقتك لحظة واحدة بمشكلتي التافهة. وقال صدام حسين: إن مشكلتك أو مشكلة أي مواطن، حتى ولو كانت تافهة، فهي ضمن مسئولياتي وضمن همومي أيضًا، فلماذا لم تخبرني بما حدث؟! ولزمت الصمت فترة، فكرت خلالها سريعًا وعميقًا، ثم قررت أن أصارح الرئيس بالحقائق كلها، فقلت له، يا سيادة الرئيس، لقد خُيل إليَّ في موقفين اثنين أنهم ينطقون باسمك ويعملون حسب توجيهاتك، ولما كنت قد قررت ألا يحدث تناقض بيني وبينك على الإطلاق فقد آثرت الرحيل من بغداد، وحتى لا تتعقد المشاكل وتتأزم الأمور.
أما الموقف الأول يا سيادة الرئيس، فيتلخص في أن صديقي أحمد الجار الله اشترى من جيبه الخاص سيارة مجهزة للمعوقين، لتستخدمها ابنتي المشلولة هالة. كتبت طلبًا لمدير الجمارك ليسمح لي باستيراد السيارة، ولكن مدير الجمارك رفض. ونصحوني بأن أكتب طلبًا آخر لنائب رئيس الوزراء، وهو يعرفني شخصيًّا، ويعرف مشكلة ابنتي هالة. وفوجئت بعد تقديم الطلب بأسبوع بأحد موظفي مكتب مصر يبلغني برفض النائب الأول لرئيس الوزراء للطلب، وكانت رنَّة صوته تحمل كل معاني التشفي والتحدي!
أما الموقف الثاني فكان حينما ذهبت إلى مكتب مصر وقابلت أحد المسئولين فيه، وسألته أن يعطيني مسدسًا بعد أن طبَّق نظام الإظلام التام في بغداد، ووقعت عدة حوادث هنا وهناك في أنحاء المدينة، وعلمت أنهم وزعوا أسلحة نارية على اللاجئين السياسيين هناك. ولكن الموظف الذي يعمل في مكتب مصر قال لي في لهجة تهكمية: نعم وزعنا أسلحة على اللاجئين السياسيين في بغداد ولكني لا أستطيع أن أعطيك ما تطلبه. وسألته بسلامة نية: أمال أطلبه من مين؟ فقال بسخرية شديدة: اطلب من صدام حسين، مش انت بتروح عنده!
وحكيت للزعيم صدام حسين كيف سافرت إلى أمريكا بدعوة من اتحاد الطلبة العرب، وبجواز سفر عراقي: ورفضت أن أتقاضي مليمًا واحدًا بدل سفر. وفوجئت في يوم السفر بثلاثة من موظفي مكتب مصر يسلمني كل منهم كشفًا بالمشتريات التي يريدها كل من هناك، واضطررت إلى شراء هدية متواضعة لكلٍّ منهم في حدود إمكاناتي المالية، وكانت دهشتي كبيرة عندما ثار أحدهم في وجهي لأنني لم أحضر له ما طلبه مني بالتمام والكمال. واضطررت إلى الرد عليه في عنف، ولكنه أضمرها في نفسه ضدي، وراح يلاحقني بالشائعات ولافتراءات في أوساط المصريين.
وهذا الموظف بالذات أدمن الرشوة واعتادها خصوصًا من جانب المصريين الذين كانوا يعملون في شركات الكهرباء، الذين كانوا يتعاملون معه في مكتب مصر. أما العبد لله فلم يكن يعمل في شركات الكهرباء، ولم يكن يتعامل مع أحد، ولم أكن أملك شيئًا إلا مرتبي المتواضع، والذي كان يكفيني بالكاد.
كان صدام حسين يستمع ولا يعلق بشيء. وشعرت بأنه يريد أن يسمع كل شيء، وأن يحيط بكل شيء. ثم فجأة قال: ولماذا تسأل الجار الله أن يشتري لهالة؟ ولماذا لم تسألني أنا؟ هل الجار الله أغنى من العراق يا محمود؟ وقلت: أنا لم أسأله، وكل ما في الأمر أنني طلبت إلى الجار الله شراء سيارة مجهزة لهالة على أن يخصم ثمنها من مرتبي من أقساط، وبالفعل اشتراها ولكنه رفض أن يتقاضى ثمنها خصمًا من مرتبي.
وقال لي أحمد الجار الله: إن هالة ابنتي أيضًا، وهي هدية متواضعة مني وأرجو أن تقبلها. وقال صدام حسين وهو ينفث دخان سيجاره الفاخر على شكل حلقات في أرجاء الحجرة الفسيحة: إن هالة تعيش في العراق وتدرس القانون في جامعة بغداد. وهي مسئولة من العراق، لا من أي أحد وأرجو أن تنسى كل ما حدث. ثم بدأ يتحدث عن هذه النماذج من الموظفين قصار العقول والنظر. ثم راح يشرح لي كيف انضم إلى حزب البعث، وكيف قاوم كل السلبيات وكيف انتصر في معركته ضد عبد الكريم قاسم ونظامه. ثم سألني: هل شاهدت فيلم الأيام الطويلة؟ وهو فيلم عن نضال صدام حسين في شبابه ضد ديكتاتورية عبد الكريم قاسم، وهو من إخراج المخرج المصري توفيق صالح. وعندما أجبته بالإيجاب، سألني عن رأيي فيه، فقلت له: الفيلم جميل، وجيد، لولا بعض المواقف التي لا تتفق مع طبيعة البشر. فلما سألني أن أحدد موقفًا من تلك المواقف، قلت له: إنه موقف البطل في الرواية الذي هو موقفك أنت في واقع الأمر، عندما استخرج منه البدوي الرصاصة التي كانت في جسمه فإن البطل في الرواية لم يصرخ؛ فالناس تحب الزعيم القوي، ولكن الزعيم القوي — ومهما كان قويًّا — هو أيضًا إنسان ويجري عليه ما يجري على صنف البشر.
وقال صدام: ولكن صدقني يا أخ محمود إن الذي حدث في الواقع أنني لم أصرخ ولم أشعر بأي ألم. كل ما حدث أنني لزمت الصمت.
قلت: حتى وإن كان هذا صحيحًا في الحياة؛ فالأمور كان يجب أن تختلف في الفيلم. ولم يبدُ الاقتناع على صدام.
وانتقلنا إلى الحديث عن الحرب فأكد لي أن الأمور جيدة، وموقف العراق ممتاز. ولما سألته عن «المحمرة»، قال: إنهم نجحوا في حصارها ولكن لدى المحاصَرين أسلحة ومؤن تكفي لعدة شهور، ثم تحدث عن الحرب بصفة عامة وقال: إن النصر ليس بالحصول على عدة أشبار أو عدة أمتار من الأرض. ولكن النصر هو في فرض الإرادة على الطرف الآخر. وقال: إن إيران لا تستطيع فرض إرادتها علينا ولو استمرت الحرب ألف عام. وإن على إيران أن تعلم أن دورها كشرطي المنطقة قد انتهى. وإن عليها أن تعيش في سلام داخل حدودها ومع جيرانها، ولا تحاول التدخل في شئون الآخرين.
ثم تحدث عن مصر وعن دورها العربي وقال بصراحة: إن إبعاد مصر عن المحيط العربي هو سبب هذا الانهيار. وقال: إن الجيش المصري لو جاء إلى بغداد الآن لفتحنا له كل الأبواب. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها صدام حسين للحديث عن مصر بعد مؤتمر بغداد الشهير.
استمر الحوار بيننا حتى الساعة الثانية والنصف، تخللها دخول كبير حراسه إلى حجرة المكتب ثلاث مرات ليذكره بموعد هام، وفي كل مرة كان الرئيس صدام يبتسم ويطلب إلى كبير الحراس أن يرسل لنا قهوة وسيجارًا.
واستأذنته في نشر ما دار بيني وبينه في الصحف. وقال: ما يخالف. والتُقطت لنا صور تذكارية. وسألني قبل أن أغادر مكتبه عما قررته بالنسبة للمستقبل. وعندما ذكرت له أنني قررت العودة إلى مصر، قال: عين الصواب يا محمود. ثم قال: كل إنسان مفيد في بلده لا بد له من العودة، ومع سلامة الله إلى بلادك، ولكنك ستجد أبواب العراق دائمًا مفتوحة لك، ووقت أن تشاء.
وودعني حتى باب المكتب، وعندما خرجت اكتشفت أن أحد المسئولين الذين كانوا يناصبونني العداء جالس ينتظر في مكتب الحرس. هذا المسئول بالذات كان يتصرف معي كأحد أعداء الأمة العربية. والسبب هو معارضتي الشديدة لممارساته الخاطئة في العمل الذي كان يقوم به. وقد صافحني الرجل وانحنى كرقم تسعة. وطلب إليَّ أن أمرَّ عليه في مكتبه. وقلت: يا سبحان الله! لقد رفض هذا الرجل نفسه مقابلتي قبل ذلك عدة مرات!
وكتبت الحديث وعرضته على الرئيس صدام، وحصلت على الموافقة، وطرت إلى الكويت لأنشره، ووجدت مفاجأة في انتظاري وهي مفاجأة غريبة؛ لأن مكانها وأبطالها كانوا في سوق المناخ!