السيدة، الغولة!
نُشر حديث الرئيس صدام حسين بجريدة السياسة. واهتمت به وكالات الأنباء العالمية؛ فقد كانت المرة الأولى التي يتحدث فيها صدام حسين بعد فترة صمت طويلة، وكانت المرة الأولى أيضًا التي يعلن فيها صدام حسين عن ضرورة عودة مصر إلى العالم العربي. كما أن الحديث كانت به عبارة استوقفت أنظار كل المراقبين السياسيين؛ وهي التي أكد فيها صدام حسين بوضوح وبصراحة أن «الجيش المصري لو جاء إلى بغداد لفتحنا له كل الأبواب.»
ونشرت جريدة الثورة العراقية الحديث في اليوم نفسه. وكذلك أيضًا فعلت صحف أخرى، ولكن لتهاجم الرئيس صدام حسين، وتشير إلى أن العراف تخلى عن مسئولياته القومية وانضم إلى كامب ديفيد.
وإذا كان هذا الموقف طبيعيًّا من تلك الصحف التي تقف في خندق إيران، فإن الموقف غير الطبيعي هو موقف صحف القاهرة التي نشرت مقتطفات مقتضبة من حديث الرئيس صدام حسين، بالرغم من أن الزعيم العراقي أكد في حديثه على أن الرئيس حسني مبارك يختلف عن سلفه أنور السادات، كما دعا العرب إلى التعاون مع حسني مبارك؛ الرجل صاحب الاتجاهات القومية والوطنية.
المهم أن الحديث أحدث ضجة عربية ودولية أيضًا. والسبب أن صدام حسين كان هو نجم مؤتمر بغداد الذي انعقد بعد زيارة السادات للقدس. وهو الذي استطاع أن ينتزع من المؤتمر قرارًا بعزل مصر وطردها من الجامعة العربية، وقطع العلاقات السياسية الدبلوماسية معها، بل إن شركات الطيران العربية أوقفت رحلاتها إلى القاهرة. كما تم نقل مقر الجامعة العربية ومؤسساتها إلى عواصم عربية شتى. وها هو ذا صدام حسين بعد أقل من خمس سنوات يدعو إلى عودة مصر مبارك إلى الصف العربي. ويدعو العرب إلى عودة أيديهم إلى مصر مبارك … وكانت فرصة لأعداء صدام حسين لشن حملة ضارية ضده. وهي حملة باطلة ولا تقف على أقدام؛ لأن صدام حسين سياسي مرن وعملي، ويحب امته العربية. وهو يدعو العرب إلى مساندة حسني مبارك لأنه زعيم عربي وطني، ومصر في ظله تختلف عن مصر تحت حكم أنور السادات.
على العموم، بعد نشر الحديث بيوم واحد، كانت جريدة السياسة قد نشرت صورة كبيرة للرئيس صدام حسين والعبد لله يجلس إلى جانبه. اتصل بي أحد كبار تجار سوق المناخ، ولم يكن لي به سابق معرفة، وطلب في إلحاح أن يلتقي بي في أي مكان. وبالفعل التقينا في فندق ماريوت في الكويت، وجاء معه ثلاثة من أصدقائه، تبينت أنهم أيضًا من تجار سوق المناخ. ومنذ أول لحظة راحوا يمطرونني بالأسئلة، وكلها تدور حول الرئيس صدام حسين وعن صحته، وعن الموقف العسكري على الجبهة، وهل تسقط «المحمرة» أم تقاوم؟ وهل يصمد صدام حسين، أم يستقيل كما فعل عبد الناصر بعد حرب الأيام الستة؟ ورويت لهم ما رأيته بعيني وقلت لهم: إن صدام حسين في خير صحة وأتم عافية، وربما هو في صحة أفضل مما كان عليه قبل الحرب، ويتمتع بهدوء أعصاب لدرجة أنني خلال الساعات الطويلة التي قضيتها معه، لم أشعر أنني أمام رجل يتحمل كل هذه المسئوليات الجسام، ويقود حربًا هي بالقطع واحدة من أبشع الحروب في التاريخ. كان يتمتع بأعصاب هادئة، وذهنٍ صافٍ، كان ينصت إلى كل حرف ويناقش في التفاصيل.
وقلت لتجار سوق المناخ: إن صدام حسين سيبقى في موضعه، وسيبقى رئيسًا لعراق حتى ولو دخل الجيش الإيراني حجرة مكتبه، وإن الحالة الوحيدة التي يتخلى فيها عن الحكم هي أن يدخل الجيش الإيراني مكتبه هو شخصيًّا ويطلق النار عليه، ولكن هذا لن يحدث قبل أن يطلق صدام حسين آخر رصاصة من مسدسه.
وهنا انفرجت أسارير تجار سوق المناخ، وبدأ البشر يطفح من وجوههم ثم استأذنوا وانصرفوا وهم في غاية السعادة والسرور.
ولقد كان هذا موقفًا طبيعيًّا من تجار سوق المناخ وغيره من الأسواق؛ فرأس المال هو أول ما يتأثر بنتائج الحرب. ولما كان رأس المال المتداول في الكويت هو رأس المال العربي، فانتصار العرب مصلحة له بدون أي شك. كما أن هزيمة العرب تعني الخراب بلا جدال؛ ولذلك ربطت ما حدث في سوق المناخ بما حدث في «المحمرة» بعد ذلك!
ولقد ترك حديثي مع الرئيس صدام حسين أثرا سيئًا في نفوس بعض الحكام العرب؛ اتُّهمت بأنني عميل لحزب البعث، واتهمني البعض بأن خلافي مع السادات لم يكن خلافًا مبدئيًّا، وإنما كان خلافًا شخصيًّا، وأنني أسفرت عن وجهي في أول فرصة وألقيت بنفسي في أحضان معسكر كامب ديفيد.
وهاجمني طفل «معجزة» في صحيفة خليجية، واتهمني بأنني أرزقي لأنني أقف مع العراق في حربها ضد إيران، واضطررت إلى الرد على الطفل المعجزة. ودفعني إلى ذلك رغبتي في الرد على من دفعه إلى ذلك، وهو مسئول في إحدى دول الخليج، يتصور نفسه خليفة عبد الناصر، مع أنه يقف إلى جانب إيران في حربها ضد عرب العراق.
ولقد كان للعبد لله رأي وما زلت متمسكًا بي وحتى النهاية. فمهما يكن الخلاف مع النظام العراقي، ومهما يكن الخلاف مع حزب البعث، إلا أن العروبة الحقة تُلزم كل عربي بالوقوف في خندق العراق وفي صفها؛ لأن أي اندحار للجيش العراقي وأي انتصار للجيش الإيراني في هذه المعركة هو هزيمة لكل عربي، وهو بداية النهاية لجنس العرب؛ ولذلك فإن موقف حسني مبارك من الحرب العراقية-الإيرانية يجعله أكثر قومية من بعض الحكام الذين يرفعون شعارات القومية ويرددون أناشيدها؛ لأن القومية ليست شعارات والعروبة ليست جنسية؛ ولذلك أيضًا فالعبد لله يقول: إن حكومة فرنسا بموقفها من حرب الخليج، تعتبر أكثر عروبة من بعض الحكومات العربية.
قضيت أيامًا في الكويت بعد نشر الحديث، والتقيت بعدد من المسئولين الكويتيين من بينهم الشيخ جابر العلي الصباح نائب رئيس الوزراء السابق، وهو رجل مثقف، وعلى صلة وثيقة بأغلب الكتاب والأدباء والفنانين في الوطن العربي، وقال لي الشيخ جابر العلي ونحن جلوس في مكتبه بالنقرة: حسنًا فعلت بإعلان تأييدك لحسني مبارك، وإنه طراز جديد من الحكام لم تشهده مصر من قبل. وقال: إنه سيحاول حل مشاكل مصر بطريقة تختلف عن طريقة سلفه السادات؛ فهو لن ينفرد باتخاذ القرار، وستشهد مصر على يديه نظامًا ديمقراطيًّا لم تشهده في عصرها الحديث. وكان هذا هو أول رأي من مسئول خليجي أستمع إليه في الرئيس المصري الجديد.
سافرت بعد ذلك إلى الخليج، ولكن دهشتي كانت كبيرة عندما استوقفتني شرطة مطار دبي وحجزتني لمدة ساعة دون سبب على الإطلاق، وعندما استفسرت منهم عن سبب وقوفي في المطار، قالوا: لا شيء، مجرد تشابه في الأسماء! ولكن هذا الحادث البسيط، جعلني أدرك أن الرياح تهب بما لا تشتهي السفن.
عندما اتصلت بصديقي الذي دعاني للإقامة في الخليج وجدت صدًّا؛ ولذلك قررت الرحيل من هناك، ولكن الأحداث كانت تتلاحق بشكل سريع.
خرج سيد مرعي من الحكم، وكان كبيرًا للمستشارين في عهد السادات، واختفى ممدوح سالم من الحياة. وذهب الدكتور حاتم إلى المجالس القومية المتخصصة، وعاد د. مصطفى خليل إلى البنك، وخرج المعتقلون السياسيون من السجن إلى قصر رئيس الجمهورية واجتمعوا به بعض الوقت، وسرَت في مصر روح جديدة أنعشت الحكومة والمعارضة على السواء، وعاد النبض إلى صحف القاهرة، وأقبل الناس على قراءتها من جديد. كل ذلك وأنا بعيد عن القاهرة أرنو إليها بعينٍ دامعة من فوق شاطئ الخليج.
ولكن ومضة أمل برقت فجأة وسط هذا الليل الطويل، فقد أعلن حسني مبارك في حديث له أن على المعارضين المصريين في الخارج أن يعودوا إلى وطنهم؛ فليس هناك قيود على عودتهم، ولنبدأ جميعًا صفحة جديدة.
واتصلت في المساء بشقيقي الفنان صلاح السعدني فطمأنني بأن كل شيء على ما يرام، وأنني سأسمع في الأسبوع القادم خبرًا يهمني في الدرجة الأولى، وأنه سيكون بالنسبة لي مثيرًا على نحو ما. وفهمت ما كان يعنيه صلاح السعدني عندما استمعت من إذاعة القاهرة بعد أيام إلى خبر إقالة النبوي إسماعيل من منصبه كنائب لرئيس الوزراء ووزير للإدارة المحلية، وكان وجوده في الوزارة يمثل عقبة في طريق عودتي إلى القاهرة؛ فأنا أعرفه منذ أن كان مديرًا لمباحث السكة الحديد.
والحق أقول: إن الرجل كان شديد النشاط في تعقب المجرمين والنشالين، ولم تكن لي أي اهتمامات سياسية. ولم تكن له أي تطلعات إلا أن يخرج إلى المعاش في سن مناسبة وعلى رتبة اللواء.
ولكن فجأة صار مديرًا لمكتب رئيس الوزراء، ثم أصبح وزيرًا للداخلية، ثم صار نائبًا لرئيس الوزراء. وهو كان من بين الأسباب التي أدت إلى قتل السادات وعجَّلت بنهايته؛ لأنه اعتبر مصر عزبة، واعتبر معارضة النظام خيانة عظمى، وهدد المعارضين بمطاردتهم في الشوارع وضربهم بالرصاص!
وكان الوزير الذي تولى أمر وزارة الداخلية في بداية عهد حسني مبارك رجلًا سياسيًّا بحق، وهو اللواء حسن أبو باشا. وكنت قد قابلته مرة وهو مسئول عن مباحث الجيزة، وقابلته مرة أخرى قبل انقلاب ١٥ مايو بقليل، وأعجبني انه استطاع بذكاء شديد أن يضع وزارة الداخلية على الطريق الصحيح، وأن يحولها من وزارة لقوى الأمن الداخلي — كما كانت في عهد النبوي إسماعيل — إلى وزارة للشئون الداخلية، سياسية واجتماعية وكما ينبغي لها أن تكون، وقررت أن أبدأ الخطوة الأولى بالاتصال رأسًا وبلا وساطة بحكومة مصر، وأدرت قرص التليفون من شقتي على شاطئ الخليج، وطلبت اللواء حسن أبو باشا وزير الداخلية، وكان العميد ثعلب مدير مكتب وزير الداخلية هو الذي رد عليَّ عندما حاولت الاتصال بوزير الداخلية حسن أبو باشا، وكان مهذبًا ورقيقًا إلى أقصى حد، وقال لي وهو يضحك: لقد قرأت كتابك «الولد الشقي» عشر مرات ولم أشعر بملل. لقد كانت حياتي في الطفولة صورة طبق الأصل من حياتك مع اختلاف في بعض التفاصيل. وسألني عما إذا كنت أواصل الكتابة في هذا الباب، ولما أجبته بالإيجاب طلب إليَّ أن أبعث إليه بالجديد من كتبي. ووعدته بأن أحضرها له بنفسي عند زيارتي له في مكتبه بإذن الله. وفي نهاية المكالمة اعتذر لي العميد ثعلب بأن الوزير أبو باشا في رحلة عمل إلى الإسكندرية، وطلب إليَّ أن أعاود الاتصال، وحدد لي يومًا معينًا، وساعة محددة وأعطاني رقمًا وتمنى لي التوفيق.
واتصلت في الموعد المحدد واليوم الموعود، وطلبت اللواء حسن أبو باشا، فأمهلني السكرتير قليلًا، وعندما سمعت صوتًا على الطرف الآخر يقول: أهلًا وسهلًا، قلت: أهلًا حسن بيه، ولكن الصوت عاد يقول: أنا مش حسن بيه، أنا فؤاد علام. ولم أكن أعرف فؤاد علام، ولم أكن قد سمعت به من قبل، ولكن صوت الرجل وطريقة حديثه كانا يدلان على شخصية قوية ومتزنة وتعرف حدودها تمامًا. وعندما قلت له: ولكني أريد التحدث إلى حسن أبو باشا، رد بأنه مكلَّف بالحديث معي نيابة عن حسن أبو باشا. ثم قال: هذه بلادك، وهي في انتظارك، وعندما تحضر سنكون هناك للترحيب بك في المطار. وقلت له مازحًا: الترحيب بتاعكم ده أنا عارفه! وإن شاء الله حترحبوا بي فين؟ في القلعة واللا في سجن القناطر؟ وقال ضاحكًا: والله انت حر بقى وانت اللي تختار. ثم غيَّر من لهجته على الفور وقال: شوف بقى احنا في عهد جديد وزمن تاني، وما فات مات، ونحن نتابع مقالاتك في الخارج، وموقفك موقف رجل وطني لم يكن ضد مصر، ولكنه كان ضد السادات، والسادات مات.
وقال: أنا أتحدث معك الآن من مكتبي بوزارة الداخلية، وما أقوله لك الآن هو الكلام الرسمي، ولا أستطيع أن أقول لك أكثر مما أنا مأذون به. وقال: لقد اتصلت بأخيك صلاح السعدني وشرحت له الموقف كاملًا، وعليك الآن أن تختار فإما أن تعود وعلى الفور وإما أن تبقى مكانك، وأنت في كل الأحوال مواطن مصري، ولك كل الحقوق، وعليك كل الواجبات.
وشعرت بطمأنينة من حديث اللواء فؤاد علام، وقلت له: إذن سأعود على الفور، ولكن لي طلب واحد. قال: نعم. قلت: أرجو استخراج تصريح عمل للعبد لله في الخارج؛ حتى إذا حضرت إلى مصر ولم يعجبني الحال، عدت مرة أخرى من حيث جئت وبشكل رسمي وقانوني ولا غبار عليه. قال: تستطيع أن ترسل أي أحد من طرفك وسيحصل على التصريح بعد أن يدفع الرسم. قلت له: سأرسل إبراهيم نافع غدًا ومعه الرسوم. سألني باهتمام: نافع بتاع الأهرام؟ قلت: لا إنه إبراهيم نافع بتاع الجيزة، ولكنك عندما تراه ستجد أنه كان أحق بأن يكون بتاع الجيزة والأهرام! قال: على بركة الله، وسيحصل على التصريح فور تسديد الرسوم. واتصلت بالحاج إبراهيم نافع في المساء، وطلبت إليه مقابلة اللواء فؤاد علام بوزارة الداخلية والحصول منه على تصريح عمل، واتصل بي الحاج إبراهيم في اليوم التالي وعندما سمعت صوته سألته على الفور: هل حصلت على التصريح؟ قال: لا. قلت: ليه؟ قال: لأنهم يريدون اسمك كما هو مدوَّن في حواز السفر، ورقم الجواز وتاريخ الإصدار، وأعطيت الحاج إبراهيم البيانات المطلوبة ولكني تنبَّهت وأنا أقلب صفحات الجواز أنه على وشك الانتهاء وأنني في حاجة إلى جواز سفر جديد.
ومنذ أن خرجت من مصر وجواز السفر كان سبب مشاكل كثيرة للعبد لله! كانت السفارات المصرية بالخارج تعتذر دائمًا بأن صلاحياتها تنحصر في منح المشاغبين أمثالي جواز سفر صالحًا لمدة عام، وكانوا يتلكئون أحيانًا ويسوِّفون أحيانًا، ولكنهم — والحق يقال — كانوا يجددون الجواز آخر الأمر ولمدة عام. واضطررت إلى عمل ثلاثة جوازات سفر في وقت واحد؛ جواز سفر ليبي تخلصت منه، وجواز سفر عراقي سافرت به إلى إنجلترا مرة، وإلى أمريكا مرة، وجواز سفر سوري حرصت على استخراجه ليعلم الجميع أنني مقيم في العراق فقط، ولست موافقًا على الخلاف الذي بين البلدين.
وكان لا بد أن أحصل على جواز سفر جديد، واستعرضت السفراء المصريين في منطقة الخليج واخترت سفارة مصر في الكويت لأحصل على جواز السفر. ووصلت الكويت في اليوم التالي، وقابلت حسين الكامل سفير مصر الذي وقع اختياري عليه ليكون هو السفير الذي أحصل منه على جواز السفر الجديد.
والحقيقة أنني اخترت حسين الكامل بالرغم من أن جميع سفراء مصر في المنطقة كانوا من الجيل نفسه، وهو جيل لم تشهد له وزارة الخارجية مثيلًا من قبل، واستطاع هذا الجيل العظيم أن يجعل من وزارة الخارجية بمثابة اللوبي في السياسة المصرية، وكان هذا اللوبي له رأي في اتفاقات كامب ديفيد، واضطر ثلاثة من وزراء الخارجية إلى الاستقالة اعتراضًا واحتجاجًا؛ وهم إسماعيل فهمي، ومحمد رياض، ومحمد كامل إبراهيم، ولكن حسين الكامل كان أنشطهم جميعًا، وكان يتصرف في الكويت كسفير لمصر بالرغم من أن العلاقات بين البلدين مقطوعة. وبالرغم من أن لقبه الرسمي هو رئيس قسم رعاية المصالح المصرية في الكويت. وهو رجل صاحب أفق واسع وعلى صلات عريضة بالمصريين في الكويت، وكان يختلف تمام الاختلاف عن زميله في العراق السفير أحمد كامل.
وأذكر هنا حادثةً طريفة حدثت بيني وبين السفير المصري في بغداد، فقد حدث بعد خروجي من مكتب الرئيس صدام حسين بعد لقائي به، أن ذهبت إلى مكتب السفير المصري الواقع خلف القصر الجمهوري، فاكتشفت أن الباب مغلق بسلسلة حديدية ضخمة وقفل من النوع المستخدم في إغلاق الدكاكين. هالني أن يكون هذا حال سفارة مصر في عاصمة عربية شقيقة، وضغطت على جرس الباب، فأجابني صوت اختبأ وراء أسوار سميكة في الداخل، وسألني ماذا أريد. أجبته بأنني أريد مقابلة السفير، فسألني اسمي، ثم أمهلني بعض الوقت، وغاب دقائق قبل أن يعود ليفتح الباب. واستغرق عدة دقائق أخرى ليفتح الباب، ثم استغرق عدة دقائق مثلها ليعيد إغلاقه من جديد.
ووجدت السفير أحمد كامل أمامي وفي حالة ليست على ما يرام. وسألني عن الأحوال فطمأنته بأنني قادم فورًا من مكتب الرئيس صدام حسين، وأخبرته أن حديث الرئيس صدام حسين عن مصر سيُحدث ضجة كبرى في كل الأوساط. وعندما طلب الاطلاع على الحديث، اعتذرت لأن الرئيس صدام حسين لم يوافق على نشره بعد، ووعدته بأن أطلعه عليه بعد الحصول على موافقة الرئيس صدام حسين. وعندما سألني: وما العمل الآن؟ قلت له مازحًا: انزع هذه السلسلة الضخمة التي تشبه سلسلة سجن القناطر، وافتح نوافذ السفارة ورش بعض الماء عند الباب. قال: ولكنهم يقابلوننا بتكشيرة في وزارة الخارجية، وأنا حتى الآن لم أقابل أي مسئول من وزارة الخارجية اللهم إلا بعض الموظفين الصغار.
قلت: ولكن الأمور ستختلف بعد الآن، وعندما يُنشر الحديث سيفهم الجميع إشارة الرئيس صدام. وقال السفير أحمد كامل في أسًى حقيقي: هل تعرف أن السفارة بلا تليفون حتى الآن. لقد طلبت إليهم كثيرًا تركيب تليفون في السفارة دون جدوى! وقلت أطيب خاطره إن هذا أمر يسير، ويمكن علاجه على الفور. قال: كيف؟ قلت لا أدري، ولكن سأحاول على كل حال.
واتصلت في المساء بالسيد طارق العبد الله أمين سر مجلس قيادة الثورة، ورويت له ما دار بيني وبين السفير بشأن التليفون، ورجوته أن ينقل هذا الحديث إلى الرئيس صدام. وعندما زرت السفارة في صباح اليوم التالي رأيت أربع سيارات من مصلحة التليفونات ومعها سيارة شرطة وقد انهمك الجميع في مد أسلاك وتركيب تليفونات، واستقبلني السفير وقد تغيَّر لونه عن الأمس، وتغيرت سحنته أيضًا. وقال وهو يرحب بي: ما الذي حدث؟ لقد جاءوا من تلقاء أنفسهم في الصباح الباكر، وأعطونا خطوطًا أكثر مما كنا نحلم. قلت: إنها السياسة. إذا ضاقت ضاقت الأرض بما رحبت، وإذا انفرجت أعطت من حيث لا تدري!
المهم، تحدثت مع حسين الكامل في أمور شتى. ثم سألني: ومتى ستذهب إلى مصر؟ قلت: فور تسلمي جواز سفر جديدًا من مكتبك. قال: إذن سأعطيك الجواز لمدة سبعة أعوام كأي مواطن. ولكن حسين الكامل سكت لحظة ثم قال: سنفعل كل ما نستطيع. وفي الصباح سلموني جواز سفر جديدًا، واكتشفت أنه صالح لمدة عامين فقط لا غير.
وعندما رجعت إلى السفير حسين الكامل قال ضاحكًا: لقد وعدتك بأن أفعل كل ما أستطيع، وكل ما أستطيع كسفير هو استخراج جواز سفر لمدة عام. ولكني جعلته لمدة عامين وعلى مسئوليتي الشخصية؛ وذلك إثباتًا لحسن النية ودليلًا على أن الأمور قد تغيرت بالنسبة لك.
وتسلمت الجواز، وطرت من جديد إلى الخليج، واتصلت بالحاج إبراهيم نافع، قال: إذن العمل سيكون جاهزًا بعد أسبوع. قلت: إذن سأسافر إلى بغداد لأبدأ في تسفير عائلتي إلى القاهرة. ثم أعود إلى مصر. وبالفعل سافرت إلى بغداد.
وانهمكت في الأيام التالية بسفر أولادي إلى القاهرة، وسافرت في البداية هبة وهالة وأمل، وكانت هبة قد حصلت على الثانوية العامة قبل ذلك، وحصلت أمل على بكالوريوس اقتصاد من جامعة بغداد، وكانت هالة لا تزال في السنة الرابعة في كلية الحقوق والسياسة. ثم سافر أكرم وحنان، وكانت حنان قد نُقلت إلى الثانوية العامة. وكان أكرم في السنة الثالثة في كلية الاقتصاد. واشترى مني تاجر عراقي أثاث المنزل بخمسة آلاف دينار، وكان يساوى خمسين ألف دينار، ثم سافرت مع أم أكرم إلى الكويت ومنها إلى لندن، وقضينا هناك أسبوعين سافرنا بعدهما إلى الأرض المقدسة.
واكتشفت في الطائرة البريطانية أننا نحلِّق فوق الأراضي المصرية في طريقنا إلى جدة، وألقيت نظرة من فوق على مصر، وعندما أصبحت القاهرة تحتنا حاولت أن ألقي نظرة على الجيزة، وأن أحدد مكان منزلي على شاطئ النهر، ولكني فشلت؛ فقد كانت المسافة بعيدة، وكنت مضطربًا إلى حد كبير. تمنيت وأنا ألقي نظرة على النيل لو أن الطائرة هبطت بي في مطار القاهرة لأنحني وأقبِّل الأرض.
كانت الاتصالات بيني وبين وزارة الداخلية مشجعة، وبدا من خلال كلمات اللواء فؤاد علام أن العهد الجديد يختلف تمام الاختلاف عن العهد الذي سبقه، ولَّى عهد الغطرسة، وكبير العائلة؛ فالشعوب ليست قبائل وليست عائلات، ولكنها شيء آخر أكثر تعقيدًا وأكثر عمقًا. واطمأنت نفسي كثيرًا وهدأت. أخيرًا سأرى مصر المحروسة. وسأعود إلى مراتع الصبا.
وبدأت مصر تطاردني في أحلامي؛ أحلام كانت أحيانًا مزعجة، ولكني كنت أسعد بها على أية حال، بدأت أستعد للسفر، واتصل بي كثيرون من المصريين في الخارج، وبعضهم كان يستحثني على سرعة العودة إلى القاهرة، والبعض الآخر كان ينصحني بالتمهل، وقلة قليلة كانت ترفض مبدأ العودة، وترفع شعارات ثورية للغاية، وتطالب بالإطاحة.
وللأسف الشديد كان هؤلاء الثوريون أصحاب مصلحة في البقاء خارج مصر! ارتفع مستواهم المادي والأدبي أيضًا، والبعض منهم لم يكن له أي شأن يذكر في مصر، وإذا بهم خارج مصر يصبحون زعماء وقادة يُدلون بالتصريحات، ويعقدون المؤتمرات الصحفية، ويتحدثون في كل المشكلات من أول مشكلة الشرق الأوسط إلى مشكلة فييتنام. ورحت ألتقي بالكثيرين من كل الاتجاهات رافعًا شعاري بالعودة إلى القاهرة، متمسكًا بتحليلي للوضع السائد في مصر، ولم يكن هذا التحليل نتيجة قراءة تقارير، أو اجتماعات من إياها، ولكنه كان نتيجة دراسة لرد الفعل العربي بعد ٦ أكتوبر.
كان هناك ترحيب من دول الخليج للتغيير الذي حدث في مصر، وكان هناك اقتناع تام حتى في العراق وفي سوريا، بأن مؤسسة الرئاسة الجديدة تختلف عن مؤسسة الرئاسة التي اختفت يوم ٦ أكتوبر، وأن هذا التغيير يشمل التفكير والسلوك والممارسات. وبينما أنا شديد السعادة لانتهاء الحرب بيني وبين النظام المصري، أكاد أطير فرحًا بقرب عودتي إلى القاهرة، وإذا بخبر مفجع يصدمني بشدة ويبدد فرحتي تمامًا.
ففي صباح أحد الأيام اتصل بي أحد الصحفيين العرب، وبعد أن اعتذر لي عن قصوره في الاتصال بي، وبعد أن برر هذا القصور بأنه لم يكن يعرف مكاني على وجه التحديد، وبعد مقدمة طويلة عريضة، فاجأني قائلًا: البقية في حياتك. وظننت أن أحدًا من أصدقائي قد توفي وشكرته على تعزيته الرقيقة، ولكني اكتشفت خلال حديثه أن أمي هي التي ماتت، واكتشفت أيضًا أنها ماتت من سنوات دون أن أدري، واعتذرت للصديق عن عدم استطاعتي الاستمرار في الحديث، ورجوته أن يضع سماعة التليفون لكي أنفرد بعض الوقت بنفسي.
يا لها من ضريبة ثقيلة يدفعها الإنسان إذا أجبرته الظروف على الاصطدام يومًا ما بالسلطة! في بلادنا بالذات. وعندما أقول: في بلادنا، فأنا أقصد بلادنا كلها من الخليج إلى المحيط. عندما يصطدم المواطن بالسلطة فمصيره مصير كلب يصطدم بسيارة نقل على الطريق السريع، تتناثر جثته ألف قطعة ولا يسرع أحد لنجدته ولا يهتم أحد بدفنه!
ها أنا ذا، وبعد أن دخت دوخة يني، ها هي أمي تموت وأنا بعيد، لم أحضر وفاتها، ولم أمشِ في جنازتها، ولم أنزل خلفها في غياهب القبر. ماتت المسكينة بعد مرض عضال لم يمهلها إلا قليلًا، ولكن عزائي الوحيد أنني كنت قد رأيتها في عام ١٩٧٨م.
والغريب أنها حضرت فجأة إلى العراق، واضطرت إلى ركوب الطائرة: ولم تكن قد جربت ركوبها من قبل؛ فهي لم تغادر مصر إلى الخارج إلا مرة واحدة حين ذهبت للحج وسافرت بالباخرة، ولكنها بالرغم من خوفها من الطائرة فإنها غامرت وركبت الطائرة وجاءت إلى العراق. وقالت لي وأنا أعانقها: أردت أن أراك، فأنا أخشى أن أموت دون أن أطمئن عليك. ولقد شعرت من نظراتها بعد ذلك أنها لم تطمئن على حالي كما كانت تؤمِّل. كنت أسكن في البيت العتيق وكان أولادي ينامون على الأرض. وكانت لديَّ حديقة جربانة اختارت هي أن تقضي فيها أغلب الوقت. وطفت بها في العراق. وسعدت جدًّا بزيارة النجف الأشرف وكربلاء. وقضت وقتًا طويلًا في رحاب مسجد سيدنا علي وبكت كثيرًا في مسجد سيدنا الحسين، وظنها البعض شيعية متعصبة مع أنها لم تكن قد سمعت في حياتها عن وجود مذهب يدعى الشيعة في الإسلام. كان الإسلام في نظرها أبسط من هذا بكثير، كانت تعرف الله والرسول وسيدنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين.
كان هذا هو الإسلام الذي تعرفه، وكانت تقدس الجميع وتؤمن بهم. وقضت أيامها على الأرض تسأل الله أن يحشرها معهم في جنه رضوان. كانت — يرحمها الله — نموذجًا لشعب مصر الطيب؛ لم يسمع بالخلاف الذي جرى بين علي ومعاوية، وربما سمع به ولم يهتم؛ فكلهم أبناء الله وكلهم عبيده. ولعل هذه هي معجزة الشعب المصري الذي لم يشترك في المباراة الطويلة التي بدأت منذ ألف وثلاثمائة عام ولم تنقضِ بعد، ورغم أن مصر كانت هي أول دولة شيعية في تاريخ العرب، برغم الحكم الفاطمي ومدارس الأزهر والأنور والأقمر، وكانت في الأصل معاهد أكاديمية لتدريس علوم الشيعة، برغم هذا كله ظل المصريون مسلمين فقط، يشهدون بأنه لا اله إلا الله وبأن محمد رسول الله ويقدسون الأولياء وأهل البيت والعلماء!
وسُرَّت أمي سرورًا عظيمًا عندما زارت الفلوجة. كانت قطعة من ريف مصر. ولكنها حزنت كثيرًا على الأرض الزراعية التي أُهملت، فصارت بورًا، وسألتها مرة عن رأيها في العراق، فقالت: بلد نظيفة قوي يا بني. وكان هذا هو تعليقها الوحيد. وتوطدت أواصر الصداقة بينها وبين عجائز «الحجيات» اللواتي كن يجاورننا في السكن، كانت تقضي معهن أوقاتًا طويلة تحكي لهم عن مصر، بينما «الحجيات» يسمعن إليها بشغف.
ولقد كانت أمي — يرحمها الله — برغم أمِّيَّتها تجيد فن الحديث. وكانت تهتم كثيرًا بالاطلاع على ما يدور حولها، وكانت تجبر أحد أحفادها على أن يقرأ لها الجريدة كل صباح. وكانت تعرف كارتر وجونسون وكيندي أيضًا. وكانت كلما ذكرت الأخير في حديثها تسبق اسمه بعبارة «الله يرحمه!» وكانت تعرف بكر وصدام والأسد ومعمر القذافي والملك حسين وكانت من أنصار عبد الناصر. وعندما زارني الرئيس السابق أمين الحافظ ذات مرة وهي عندي في منزلي قدمته إليها وسألتها عارفة مين ده؟ فأجابت: دا رئيس سوريا. ودُهش أمين الحافظ جدًّا. وكان دائمًا يردد هذه القصة في سهراته الرائعة. وبالرغم من قلقها الشديد على أحوالي كما لمستها بنفسها، فإنها كانت سعيدة لأن الأولاد ينتظمون في جامعة بغداد. وكان تعلقها بأكرم شديدًا للغاية، وطلبت مني مرة أن أسمح لأكرم بأن يعود معها إلى القاهرة؛ فهي تعيش هناك وحيدة، ووعدتها خيرًا بعد انتهاء العام الدراسي في بغداد، وفي ليلة السفر إلى القاهرة لم تنم. اجتمع حولها أولادي وراحت تحكي لهم قصصًا في طفولتها في القرية وعن شبابها في المدينة، واختلت بأكرم بعد ذلك، وبذلت جهدًا كبيرًا في إقناعه بالسفر إلى القاهرة. ولم يكن أكرم ابني في حاجة إلى إقناع؛ فقد كان يود من أعماقه لو سمحت له بالسفر معها فورًا.
وأخذتها في الصباح إلى المطار، وعانقتني بشدة ونحن على باب المطار، وبكت وطيَّبت خاطرها وقلت لها مازحًا: وبعدين معاكي، اللي بيعيط هنا بيمنعوه من ركوب الطيارة. نظرت نحوي ولم تعلق بشيء، ثم اختلست نظرة إلى السماء ولمحت تعبيرًا على وجهها ينم عن قلق شديد. فنظرت إلى السماء أنا الآخر. وإذا بالسماء ملبدة بغيوم سوداء كثيفة. فسألتها ضاحكًا: إيه، إنتي خايفة؟ وقالت: لأ، بس ازاي يا بني الطيارة هتطلع فوق السحاب والسحاب قافل السكة كده؟ قلت لها: ولا يهمك. الطيار معاه خريطة والسحاب له أبواب، والطيار بيعرف يفوت منها، قالت: طيب يا بني، أشوف وشك بخير.
وعانقتني ومضت، ومضت شهور وسنوات كثيرة بعد ذلك، كنت أسأل عنها شقيقي صلاح، فيطمئنني بأن كل شيء على ما يرام. ولم أكتشف الحقيقة إلا بعد ذلك بسنوات. فقد ماتت أمي بعد شهر واحد من مغادرة بغداد، وقبل أن تموت بأيام قالت للحاج إبراهيم نافع وهو يزورها زيارة أخيرة: أنا خايفة أموت ومحمود بره، أحسن ماحدش يمشي ورايا. ورد إبراهيم نافع ضاحكًا: لا ماتخافيش يا حاجة، أنا هاجيبلك الجيزة كلها.
وتحقق ما قاله إبراهيم نافع. خرجت الجيزة كلها تشيع الحاجة إلى مثواها الأخير. وفي المساء اضطر رجال الشرطة، إلى تنظيم المرور أمام السرادق الذي أقيم في وسط الجيزة؛ فقد كانت الجنازة والسرادق شبيهتين بمظاهرة صامتة.
وكان لوجود الفنانين الذين توافدوا على السرادق في الليل لتقديم واجب العزاء للفنان صلاح السعدني أثر في مضاعفة الإقبال على السرادق. ولم يحضر أحد من المسئولين في الجيزة أو في القاهرة. ولم يحضر من المسئولين السابقين إلا شعراوي جمعة ومحمد أحمد مدير مكتب جمال عبد الناصر، وعلمت أيضًا أن نور السيد علم بنبأ وفاة أمي من الأستاذ أحمد بهاء الدين عندما كان في زيارة للندن ولكنه كتم الخبر عني عملًا بنصيحة بهاء، وقضيت يومًا بأكمله وحيدًا أسترجع ذكرياتي معها، وألوم نفسي لأنني سببت لها كل هذا العذاب.
وفي الليل البهيم وأنا جالس وحدي اكتشفت أن رغبتي في العودة قد فترت وأن نصف مصر قد مات بالنسبة للعبد لله؛ فلم تكن أمًّا عادية ولكنها كانت عنيدة وشديدة البأس ومقاتلة شرسة لا تكف حتى تصل إلى كل الأهداف. وعندما جاءت لزيارتي أول مرة في السجن، لم تبكِ ولم تضعف، وقالت لي في نهاية الزيارة: انتبه لصحتك ولا تشغل بالك فأنت هنا أسعد حظًّا من الذين خارج الأسوار!
وذات مرة وهي عندي في العراق تجولت ببصرها عبر البيت الخراب الذي كنت أسكنه وقالت لي: بيقولوا في جرايد مصر انك بتقبض ملايين! ثم قالت: ربنا يخرب بيت الظالم. وعند عودتها إلى القاهرة، سألها الحاج إبراهيم نافع عن أحوالي، فردت باختصار: الحمد لله. ربنا ع المفتري!
وفي الصباح هدأت نفسي عندما اتصلت بالحاج إبراهيم نافع، وسألته عن ظروف موتها فقال: إنها ماتت في هدوء وفي سلام. كان قد أصابها مرض خطير لم يمهلها إلا أسابيع قليلة وبالرغم من أن جميع من استشارتهم قد نصحوها بعدم إجراء عملية. لأنها كانت مريضة بالسكر وتعاني من مضاعفاته. ولكنها أصرت على إجراء العملية وماتت بعد إجرائها بثلاثة أيام، ومن حسن الحظ أن أكرم ابني كان قد سجل لها حديثًا على شريط كاسيت، فجلست أستمع إليه ولم أهتم بذلك من قبل! هزني بشدة حديثها الساذج الطيب الصريح وهزني أنها تنبأت بموتها في الشريط. من المؤكد أن الإنسان يشعر بنهايته، ولعل هذا الإحساس هو الذي دفعها للسفر إلى بغداد. كانت تريد أن تراني قبل أن تموت. ولقد فعلت ذلك، ولم يعد لديها بعد ذلك أسباب للحياة. وانتهى الشريط. وانفردت بنفسي في حجرة بعيدة وانخرطت في بكاء عنيف.
أغرب شيء أنه بعد مجيء حسني مبارك واستقرار الأوضاع نسبيًّا في مصر، وبعد أن خرج رجال المعارضة من السجن إلى قصر رئيس الجمهورية، نشطت في الخارج حركة مريبة تزعَّمها أشخاص لم يكن لهم يومًا ما في الطور ولا في الطحين! والبعض منهم كانت تحوطه علامات استفهام كثيرة. فقد كانوا يومًا من زعماء التنظيم الطليعي، ثم أصبحوا من أكثر المتشنجين دفاعًا عن ثورة ١٥ مايو، ثم انضموا إلى جبهة الرفض وصاروا من دعاة الصمود والتصدي، وهي «سلاطة» سياسية أبهة بسمك لبن تمر هندي!
المهم بدأ هؤلاء الأبطال في عقد مؤتمرات صحفية في بعض مدن الوطن العربي يهاجمون فيها الأوضاع الجديدة في مصر، ويثيرون الشبهات حول حسني مبارك، باعتباره خليفة أنور السادات، والأمين على سياسته والسائر على دربه!
وكان واضحًا أن هؤلاء الزعماء يشتغلون بالأجرة، وأنهم مجرد مطايا لنظم عربية احترفت الحرب عبر الإذاعة، وتجيد القتال بالحناجر! وقد انساق مع هؤلاء في البداية الزعيم الثوري الكهربائي إياه، وهو الذي يملك مع «زعيم» آخر من نوعه شركة كهرباء مسجلة في بنما. ويبدو أن التعليمات التي صدرت إليه من النظام العربي الذي يتعامل معه كانت هي الاستمرار في نفس السياسة ومناهضة النظام المصري على نفس المستوى وبنفس الطريقة التي كانت سائدة في زمن أنور السادات.
ولكن لأن الله أراد أن يكتشف هؤلاء تطورت الأمور بعد ذلك، ولأن الظروف اضطرت النظام العربي الذي يتعامل معه الكهربائي إياه إلى مهادنة مصر فقد صدرت الأوامر من جديد لزعماء حزب الكهرباء بحل الحزب وتسريح أعضائه، ومهادنة النظام المصري. ولقد حدث بالفعل، وأعلن الزعيم الكهربائي في بيان حزبي خطير حل الحزب وتجميد نشاطه، وعلى الفور سافرت حرم الزعيم الكهربائي إلى الجزائر واجتمعت مع قواعد الحزب الكهربائي هناك، وكانوا ثلاثة وأبلغتهم بقرار حل الحزب! ولما استفسروا منها عن السبب، صرخت السيدة الغولة، وهو تعبير كان شائعًا بين قواعد الحزب الكهربائي، على وزن السيدة الأولى، صرخت السيدة زوجة الزعيم الكهربائي في وجوه القواعد الحزبية وقالت: إحنا حلينا الحزب وبس! مش عاوزة أسئلة، معنديش حاجة اقولها أكثر من كده. ثم اختتمت حديثها مع القواعد بحكمة خالدة: أنا جوزي كان وزير، والكبير هيفضل كبير والصغير هيفضل صغير، واللي مش عاجبه كلامي يروح يشرب من البحر!
وحدث بعد ذلك أن سافر مندوب من مجموعة الجزائر إلى أوروبا، واجتمع برئيس الحزب الكهربائي، واستفسر منه عن مصير ميزانية الحزب، فقرر رئيس الحزب أن الميزانية وهي ثلاثمائة وخمسون ألف دولار قد تم تجميدها في أحد البنوك كوديعة وإلى أجلٍ غير مسمى.
أخيرًا اكتشفت القواعد هول الأكذوبة التي كانوا يعيشون في ظلمها. لم يكن هناك حزب، ولم يكن هناك كفاح، ولكن المسألة كلها كانت عملية استرزاق استفاد منها السيد رئيس الحزب والسيدة حرمه، والميكانيكي نائبه والسيدة حرمه، واستخدموا فيها هؤلاء الشبان وضاعت سنوات من حياتهم في عملية لم يكتشفوا كذبها إلا بعد فوات الأوان!
نموذج آخر من هؤلاء الأرزقية رأيته في دمشق. والمصيبة أن هذا الأرزقي كان شابًّا وفي مقتبل العمر، وكان متزوجًا من شابة صغيرة، وعندما استقبلته في غرفتي في فندق الميريديان في دمشق، اكتشفت أنه يخفي مسدسًا في جيبه. وبعد أن تحدث معي عن كفاح حزبه من أجل الوحدة والحرية والاشتراكية، استأذنني في الانصراف لحضور اجتماع حزبي على مستوى عالٍ. ثم اكتشفت أنه سرق طقم شاي من متعلقات الفندق، وعرفت فيما بعد أنه مقيم في دمشق منذ سنوات طويلة، وأنه يعمل بصاصًا لأحد أجهزة الأمن!
ومعلم إلزامي آخر كان يعيش في ليبيا، ولأنه اشترك في مظاهرة في عام ١٩٧١م فقد قضى عامين في السجن، وخرج بعدهما وسافر إلى ليبيا بحثًا عن رزقه، عارضًا خدماته على من يريد متصورًا أن الشهور التي قضاها خلف الأسوار كفيلة بتغيير حالته الاجتماعية.
ولقد حدث أن جاء إلى بغداد في عام ١٩٨۰م، وبحث هناك عن وظيفة تليق بمكانته، ولما عرضوا عليه وظيفة مدرس بسبعين دينارًا في الشهر، رفض بشدة. وأصر على أن يتقاضى مرتبًا يساوي مرتب عبد الرحمن الخميسي، باعتبار أن المعلم الإلزامي إياه وعبد الرحمن الخميسي مناضلان ويعيشان معًا في المنفى!
والحق أقول: إنه بعد اضطراب الأحوال في مصر وفي الوطن العربي أيضًا، اضطر البعض إلى الخروج من مصر، وكان معهم مبررات الخروج. كان هناك كتَّاب وأدباء وشعراء أمثال عبد الرحمن الخميسي وأحمد عباس صالح ومحمود أمين العالم، وكان هناك صحفيون كبار أمثال فتحي خليل وسعد زغلول فؤاد وصافيناز كاظم، وكان هناك سياسيون أصحاب قضية أمثال أديب ديمتري وسعد الشاذلي وحسن معاذ … ولكن هناك أشخاصًا آخرين انتهزوا الفرصة فسرحوا في العالم العربي عارضين خدماتهم على من يدفع أكثر، وهؤلاء زاحموا الأصلاء، وكانوا عيونًا عليهم، ومصدر تعذيب لهم، فقد اشتغل البعض بالعمل الحزبي، ولكن هذه الأعمال كلها كانت للتغطية على حقيقة نشاطهم. والحقيقة أنهم جميعًا كانوا يعملون عيونًا لأجهزة الأمن.
ولكن أغرب نموذج على هؤلاء، كان يقيم في عاصمة عربية، وكان يعمل في هيئة تابعة للجامعة العربية، وسنطلق عليه هنا اسمًا حركيًّا وهو «ربحي شملول»، وهو في الأصل كان شيوعيًّا، وسبق اعتقاله في عام ١٩٤٦م، وبعد أن قضى في الحبس ثلاثة أسابيع، لزم داره فلم يخرج منها قط، وقطع صلته تمامًا بكل الحركات السياسية في مصر. وعندما صاهر الأستاذ ربحي أسرة مصرية كان معروفًا عنها التقوى والصلاح واظب الأستاذ ربحي على التردد على المساجد، وحافظ على مواقيت الصلاة، وسلك سلوك الدراويش وأبناء الطرق، لدرجة أن حكومة الثورة عندما دخلت معركة ضد الإخوان المسلمين في عام ١٩٥٤م، وألقت القبض على الأستاذ ربحي باعتباره واحدًا منهم، ولكن التحقيق الذي جرى معه في السجن الحربي كشف لهم عن حقيقته؛ فهو لم يكن إخوانيًّا في أي يوم وليس له علاقة بالتنظيمات الدينية، فأفرجوا عنه.
واختفى من جديد، ولم يره أحد أو يسمع به أحد حتى العام ١٩٧٧م، عندما ظهر في هذه العاصمة العربية موظفًا في إحدى هيئات الجامعة العربية، وبراتب قدره خمسة آلاف دولار في الشهر، وجواز سفر دبلوماسي، وهو حلم لم يكن يتصور أن يرى مثله في المنام. وبدلًا من أن يحمد الله ويتوارى في الظل، راح يدَّعي في سهراته أنه يقود تنظيمًا سياسيًّا داخل مصر، وشطح خياله إلى بعيد فراح يؤلف على الورق وزارات ويوزع مناصب على أمثاله من المناضلين، و«الشهداء»!
وذات مرة غضب غضبة عنترية لأن مسئولًا بالدولة التي كان يقيم فيها استقبل الكاتب يوسف إدريس ولم يستقبله هو. مع أن يوسف إدريس مجرد «كاتب قصصي لا هنا ولا هناك» على حد تعبير السيد ربحي نفسه. وكانت زجاجات الويسكي التي يفتحها في سهرات كفيلة بإقناع الذين يسهرون معه، وكان من بينهم لبناني احترف اللجوء السياسي. ومع أنه لم يرَ لبنان منذ خمسة عشر عامًا، ومع أنه كان ضابط جيش واشتغل بالسياسة عن طريق الصدفة، إلا أنه كان حريصًا على إرسال برقية كل شهر إلى قيادة الدولة التي يلجأ إليها يبدؤها بعبارة ضخمة رنانة «باسم الجماهيرية اللبنانية»، وكانت هذه البرقية الشهرية هي شفيعه وواسطته للامتيازات التي يحصل عليها باعتباره مندوبًا عن الجماهير التي يرسل برقياته باسمها!
الغريب أيضًا أن السيد ربحي شملول الزعيم الهمشري وجد في البلد الذي يقيم فيه من يصدقه ويدعو له ولحزبه المزعوم! والفضل لزجاجات الويسكي ولهداياه الكثيرة التي كان يعود بها من سفرياته المتعددة.
وإذا كان هذا النمط من السياسيين المصريين ساذجًا ومكشوفًا لحداثة عهده بهذا النوع من الحياة، فإن الإخوة السوريين كانوا أكثر حنكة وأكثر خبرة وأكثر دراية. وقد كان يعيش في بغداد مثلًا لاجئ سياسي فاضل هو الفريق أمين الحافظ، وكان بيته مفتوحًا لكل اللاجئين السياسيين من كل الأقطار، وكان على استعداد دائمًا لتقديم أية خدمات لمن يحتاج إليها، وكان شديد الحرص على زيارة الجميع والسؤال عنهم.
وكان هناك أيضًا مناضل قديم وعظيم مثل أكرم الحوراني الذي كان قليل الحركة بسبب مرضه، ولكنه ظل متوهج العقل والضمير واللسان. ولم يتوقف لحظة واحدة عن الاهتمام بقضايا أمته ومصيرها.
كان هناك أيضًا اللواء محمد الجراح الذي عاش في ليبيا خمسة عشر عامًا باعتبارها أرض القومية والوحدة، ثم هرب منها إلى بغداد بعد أن تبين زيف الشعارات وكذب الدعاوى، وعاش هو الآخر في بغداد.
ولكن إلى جانب هؤلاء الزعماء، كان يعيش في بغداد عشرات من السوريين «الكلاويشية» الذين اكتفوا من النضال بفتح دكاكين جزارة ودكاكين جبن ولبن، وباعتبار أن الله بارك في التجارة والنجارة! وخُيل إليَّ في وقت من الأوقات أن اللجوء السياسي صار مهنة يحترفها بعض الهاربين من كل مسئولية، والعاطلين عن كل موهبة، وأينما ذهبت إلى أي مكان في الوطن العربي، ستجد جمعًا قليلًا من اللاجئين السياسيين بعضهم هارب من بلاده بسبب، والبعض هارب بلا أسباب.
والنظم العربية في صراعها مع بعضها البعض، تستخدم كل من هب ودب، وتحاول أن تنفخ الروح في الجثة الهامدة، وتحول هذا الصراع المضحك بين أقطار الأمة العربية إلى سبوبة يرتزق من ورائها بعض من لا حيلة لهم حتى يتعجب أصحاب الحيل!
ولكن هناك أيضًا وسط هذه اللوحة المظلمة، نماذج مشرفة ومضيئة. بعضهم فضَّل النوم على الأرض، وعانى شظف العيش، ورفض أن يتنازل. من هؤلاء وعلى رأس هؤلاء نموذج مصري عظيم، مجرد فلاح دخل السياسة من باب الفلاحة، واضطر إلى مغادرة مصر في عام ١٩٧٧م وجاء إلى بغداد، واشتغل في اتحاد الفلاحين العراقيين براتب قدره مائة دينار في الشهر، وهو مرتب فراش في أحد الفنادق، مع أنه كان يومًا ما عضوًا في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، وكان أمينًا للفلاحين، ثم عضوًا في مجلس الأمة. وفي بغداد كانت له قصة مبكية ومضحكة معًا مع رئيس الحزب الكهربائي الثوري، وكان أمامه طريقان: أن يخضع لمطالب الزعيم الكهربائي ويصبح من أثرياء العصر، أو يرفض ويصبح من صعاليك الدهر. وقد رفض، ولكن هذه قصة أخرى.