الزعيم شملول

وإذا كان نموذج الأخ ربحي شملول يصلح نموذجًا لجيش الأرزقية الذي سرح في أنحاء العالم العربي مستغلًّا الظروف المنحطة والأوضاع المتردية، فإن حسن معاذ كان نموذجًا آخر يختلف عنه أنه نموذج للسياسي الشريف الذي يموت جوعًا ولا يأكل بعرق الضمير. وفي البدء كان حسن معاذ رميح مجرد فلاح يشتغل بالأرض، ثم اشتغل بالعمل السياسي، ووصل إلى عضوية اللجنة المركزية، وإلى رئاسة الاتحاد التعاوني، ولعب دورًا هامًا في الحركة الفلاحية. ثم جاءت ظروف على حسن معاذ رميح منعته من الاشتغال بالسياسة، وحرمته من الاشتغال بالفلاحة، فاضطر في النهاية للاشتغال بالتجارة ولم تكن التجارة إلا أشياء بسيطة ومن هذا النوع الذي يستخدمه الأطفال في ألعابهم. ولم يكن دكانه إلا سردابًا صغيرًا في إحدى العمارات. ولكن سوء حظه جعله يفلس في النهاية، فأعلق دكانه وأغلق باب بيته على نفسه، وعاش في الظل وفي الصمت.

وسافر بعد ذلك إلى العراق، واشتغل موظفًا في الاتحاد العام للفلاحين العراقيين براتب قدره مائة دينار في الشهر. في الوقت الذي كان فيه بعض النكرات يعملون في ليبيا وفي سوريا وفي العراق بمرتبات تفوق مرتبات الوزراء. والمصيبة أن هؤلاء النكرات لم يكونوا على علاقة بأحد في موطنهم الأصلي، حتى ولا أفراد الأسرة التي ينتمون إليها!

وبالرغم من ذلك لم يغضب حسن معاذ ولم يحتج، واشترك مع عشرة من عمال مصر في مسكن متواضع في إحدى ضواحي بغداد البعيدة، وكان كلٌّ منهم يدفع عشرين دينارًا في الشهر. ولما كان المسكن يقع على مسافة ٢٥ كيلومترًا من قلب العاصمة، فقد كان على حسن معاذ أن يقطع هذه المسافة يوميًّا بوسائل مواصلات بائسة. وفي المساء كان حسن يلزم داره فلا يبرحها حتى صباح اليوم التالي. وهكذا قضى سنواته كلها في العراق حتى قُدِّر له أن يعود أخيرًا إلى القاهرة. وذات مرة اصطحبني الزعيم الثوري الكهربائي لزيارة حسن معاذ رميح، واستقبلنا حسن معاذ في مكتبه المتواضع، وعندما سأله الزعيم الكهربائي الانضمام لحزبه الثوري الحديدي الذي سيحكم العالم العربي ويحل جميع مشاكله! اعتذر حسن بكثرة أشغاله. فلما ألح عليه الزعيم وضغط عليه بشدة، وعده حسن خيرًا، دون أن يرتبط معه بشيء محدد على الإطلاق.

وتكررت زيارات الزعيم الثوري الكهربائي لحسن وأنا معه. ولكن كل المحاولات التي يبذلها الزعيم الثوري لضم حسن إلى الحزب فشلت. وخُيل إلى العبد لله أن حسن معاذ ربما انتابه القرف الشديد من العمل السياسي، وربما آثر الابتعاد عن المشاكل. وابتعدت عن التفكير في حسن ومشاكله إلى أن قمت بزيارة في مسكنه المتواضع ذات مساء، وهالني سوء الأحوال التي يعيش حسن في ظلها. كان ينام على الأرض ويعلق ملابسه على مسامير مغروزة في الحائط، وعندما أراد أن يقدم لي الشاي، فتح النافذة ونادى على صبي القهوة التي في أسفل البيت وطلب إليه إحضار كوبين من الشاي. وأخذني الحماس في اليوم التالي، ففاتحت الزعيم الثوري الكهربائي في ضرورة التدخل لحل مشكلة حسن، ولكن الزعيم الكهربائي نظر نحوي في إشفاق، ورسم على شفتيه ابتسامة صفراء، وقال لي بلهجة حكماء أثينا: إنت بتغرك المظاهر؟! حسن دا خطير جدًّا! ولما ظهر على وجهي عدم الفهم قال لي بلهجة المسئول الذي يعرف كل شيء: حسن دا وراه سر خطير، وعلشان كده أنا عدلت تجنيده في حزبنا.

ماذا يقصد الزعيم الثوري الكهربائي؟ لم أشأ أن أجادله أكثر من ذلك فسكتُّ دون أن يبدو على ملامح العبد لله أنني اقتنعت بحرف واحد مما قال، ويبدو أنه شعر بعدم اقتناعي فأوفد إليَّ نائبه في الحزب وفي شركة الكهرباء أيضًا، وهو شخص طويل وعريض وأجبن من فأر. وبعد أن خاض الوكيل الكهربائي معي في موضوعات شتى لا علاقة لها بالهدف الذي جاء من أجله، فجأة مال عليَّ الوكيل الكهربائي وقال لي بصوت خفيض كأنه يذيع سرًّا حربيًّا لأول مرة: على فكرة، بلاش تزور حسن؛ أحسن عندنا معلومات انه بيشتغل مع الجماعة إياهم!

ولقد كانت هذه العبارة هي بداية طريق شكوكي في الحزب الكهربائي وزعمائه. وتكررت زياراتي بعد ذلك لحسن، وفي كل مرة كنت أقارن بين حاله وحال الآخرين. وبينما كان حسن يعيش على الأرض، كان زعماء حزب الكهرباء يسكنون القصور، ويستخدمون السيارات المرسيدس.

ولقد بدأت الغشاوة تنقشع عن عيني، وبدأت في اكتشاف حقيقة الزعيم الكهربائي، عندما بدأ الزعيم إياه في نشر سلسلة من الأكاذيب نسبها إلى عبد الناصر، وكان قد وقع اختياره على العبد لله لإعادة كتابة هذه الأكاذيب؛ باعتباري من أركان حزبه الحديدي، فلما راجعت الزعيم الكهربائي ونبهته إلى خطورة نشر هذه الأكاذيب؛ لأنها بالتأكيد ستساهم في هدم صورة زعيمه أمام الجماهير أجابني قائلًا: وما العمل إذا كان هذا هو التاريخ؟

والحقيقة أنه لم تكن هناك علاقة بين التاريخ وبين أكاذيب الزعيم الكهربائي، ولكنها كانت مجرد صفقة قبض ثمنها ثلاثين ألف دينار، وكان هذا هو أول رحلة استفتاح في رحلة استرزاق الزعيم الكهربائي الثوري، وعندما باع نفس الأكاذيب لنشرها في مجلة ٢٣ يوليو، قبض عشرة آلاف جنيه إسترليني، مع أننا كنا نعاني بشدة، وقبض المبلغ بشيك لا يزال كعبه في جيبي. واضطررت إلى إلغاء ثلاث حلقات من هذه الأكاذيب؛ لأنها كانت أشبه بطعنات موجهة إلى قلب الزعيم الذي كان الكهربائي يعمل رئيسًا لخدمه.

وبالصدفة أيضًا اكتشفت أن الولد الذي اختاره الزعيم الكهربائي سكرتيرًا لحزبه يركب سيارة لون رقمها يختلف عن أرقام سيارات الناس العاديين. ولاحظت أيضًا أن عساكر الشرطة يضربون له «تعظيم سلام» عندما تقترب السيارة منهم. وعندما فاتحت الزعيم الكهربائي فيما لاحظته في هذا الموضوع، نصحني بالصمت، وقال حكمة مأثورة: نحن في غربة يا محمود، «يا غريب كن أريب». وعندما اتضحت لي الصورة بعد ذلك قررت أن أصمت وأن أبتعد.

كانت الصورة رهيبة وخطيرة، ولم يكن حزب الزعيم الثوري الكهربائي إلا غطاء لتأسيس حزب قومي مصري في الخارج، ثم إعادة شتله في أرض مصر، ولم يكن دور الزعيم الثوري الكهربائي وحزبه إلا التمويه والتغطية على الآخرين الذين يقومون بتأسيس هذا الحزب! ولكن لا يتصور أحدهم أن العبد لله ضد تأسيس الأحزاب أو رفض الاشتراك في تأسيسها، فهذا حق كل مواطن مصري شريف، ولكن الاعتراض على أن يقوم مواطن مصري بالعمل كناطور ومن أجل التغطية على آخرين، ومع أنه — أي الناطور — لم يكن مؤمنًا في أية لحظة بالتنظيم الذي كان ينتمي إليه من قبل، كما أنه ليس مؤمنًا بالتنظيم الذي يعمل ناطورًا لحساب الذين يقومون بتأسيسه، إيمانه الوحيد كان بالأجر الذي سيقبضه وبالثروة التي سيحصل عليها.

وقد حقق هدفه كما خطط له بالضبط، واشترى منذ شهر شقة في إحدى العواصم الأوروبية دفع نصف مليون دولار ثمنًا لها، وتبلغ ثروته الآن عدة ملايين في بنوك لندن وسويسرا ولوكسمبرج.

أما الميكانيكي وكيل أعماله فقد صار من أثرياء العصر، وتبلغ تبرعاته الآن لبعض الهيئات والجماعات مئات الألوف من الدنانير والجنيهات.

ولقد حدث أن قمت بزيارة حسن معاذ رميح في مسكنه ببغداد قبل أن أغادرها بأسبوع، وجلسنا معًا على الأرض، فلم يكن يملك مقاعد نجلس عليها. ولما فاتحته بنيَّتي في فضح الحزب الثوري الكهربائي، قال حسن بهدوء: طب وانت زعلان قوي منهم ليه؟ دا فيه كتير كده. وأجبته بأن السر الحقيقي وراء غضبي أنهم خدعوني فترة طويلة، وأنني اكتشفت في النهاية أنني مجرد غر ساذج، وأنني في البداية تصورت أننا نعمل في حزب حقيقي، وأن الثوري الكهربائي يعمل لصالح شعب مصر. وعندئذٍ ضحك حسن معاذ ضحكة هادئة وقال: لا أحد يتصور أنك ساذج إلى هذا الحد، وأضاف: لقد كان واضحًا من البداية أن العملية كلها بغرض الاسترزاق والهبر، وعندما عاتبته لأنه لم يكشف لي الحقيقة في أول الأمر، قال حسن ببساطة: لا تؤاخذني يا محمود، فقد تصورت أنك فاهم مثلهم، وأنك مشترك معهم، وأن لك نصيبًا في الغنائم والأرباح.

وودعت حسن تلك الليلة، ولم أره بعد ذلك إلا في القاهرة بعد أن وصل إليها بعد وصولي بعدة شهور. ولقد جاء كما ذهب. جيوب خالية وضمير شديد النقاء. وكان حسن معاذ نموذجًا للمصري الشريف الذي جاع ولم يأكل بعرق الضمير، ونام على الأرض بينما نام الكلاب على الحرير، وشعر بالبرد في ليالي الشتاء بينما اشترى الخونة قصورًا في أوروبا وامتلكوا دفاتر شيكات أطول كثيرًا من الحدود التي بين العرب وإسرائيل.

ولم يكن حسن معاذ هو الوحيد الذي تسلَّح بالشرف وسار على الطريق المستقيم، ولكن كان هناك عشرات ومئات فضلوا الجوع على العمالة، والفلس على الخيانة، وظلوا على ولائهم لشعب مصر وتحملوا في سبيل ذلك كل الشدائد والأهوال.

أخيرًا قُدِّر للعبد لله أن يرى مصر! تحدِّد يوم عشرين ديسمبر ١٩٨۲م للعودة إلى القاهرة، ووقع اختياري على دولة الإمارات لتكون محطة انطلاقي إلى دولة الرأس. وفي الموعد ركبت الطائرة المصرية، وكنت قد قاطعت ركوبها لمدة عشر سنوات. وجلست على مقعدي ساهمًا أحدِّق في السحاب والسماء!

•••

كان مضيف الطائرة التي حملتني إلى القاهرة، رجلًا متوسط العمر وخفيف الظل أيضًا. وفي البداية ظننت أنه يعرفني عندما اختصَّني بخدمة من نوع خاص، ثم اكتشفت بعد ذلك أنه لا يعرفني، ولم تكن القراءة من بين هواياته، وكان يبدو شديد الغلب كثير المشاكل. وعندما جاء ليجلس إلى جواري، راح يشكو سوء الأحوال وغلاء المعيشة وقلة المرتب، ثم رجاني أن أحمل عنه جهاز راديو يابانيًّا اشتراه من سوق الشارقة؛ لأنه ممنوع عليه أن يدخل مصر بهذه الأشياء. وبدا عليه الارتباك الشديد وضربت معه لخمة عندما رويت له قصتي بالتفصيل، وأنني أعيش خارج مصر منذ عشر سنوات، واضطرب بشدة عندما قلت له: إنني لا أعرف مصيري على وجه التحديد، وقد أغادر الطائرة إلى السجن، أو إلى الحرية. واستأذن من العبد لله، وغاب فترة ثم عاد وأخذ جهاز الراديو الذي كان قد سلَّمه لي وقال: لقد وجدت أحد أقاربي على الطائرة وقد تطوَّع لحمل الراديو إلى منزلي!

وابتعد عني بعد ذلك، فلم يعد يختصني بخدماته، واكتفى بالابتسامة لي من بعيد لبعيد. وللأسف الشديد فإن حال الناس جميعًا يشبه إلى حد كبير حال هذا المضيف الطيب، إذا اكتشفوا أنك على علاقة سيئة بالسلطة، ابتعدوا عنك بقدر الإمكان، واكتفوا بالابتسام لك من بعيد لبعيد؛ ولذلك لم أغضب من مضيف الطائرة ولكني التمست له العذر.

فقد فعل معي نفس الشيء أصدقاء منذ عهد الطفولة، أحدهم كان يعمل بلد عربي عندما خرجت من السجن، وجاء إلى القاهرة في إجازة لمدة شهر، ولكنه لم يكلف خاطره بالاتصال بي ولو عن طريق التليفون، ثم اشترك بالتشنيع على العبد لله بترديد ما كانت تثيره أجهزة السادات عن ثروتي التي تضخمت إلى عدة ملايين. وأحدهم أيضًا، وكان لي دور بارز في المكانة التي وصل إليها وفي الثروة التي حققها، قاطعني بعد السجن، وقاطعني بعد العودة من المنفى، ولكنه عاد يتصل بي بعد أن اطمأن إلى أن الأمور تسير سيرًا حسنًا، وبعدما تأكد من أن السلطة الجديدة لا تطلبني ولا تتعقبني، ولكن رفضت التحدث إليه ورفضت مقابلته وقطعت علاقتي به وبالصديق الآخر، وإلى الأبد!

أخيرًا هبطت الطائرة في مطار القاهرة، وكنت أول من خرج منها، وألقيت نظرة على أرض المطار، واستنشقت هواء مصر بقوة وبعمق. هذه أول مرة أشم فيها رائحة مصر بعد غيبة مائة شهر بالتمام والكمال. وتمنيت ساعتها أن أهبط الدرج بسرعة وأن أركع على الأرض واتمرغ في ترابها، باعتبار أن التمرغ في التراب هو نوع من أنواع الاستحمام بالنسبة لبعض الحيوانات! ولكني لم أفعل شيئًا من هذا.

نزلت الدرج ببطء، واكتشفت أن شقيقي صلاح السعدني يقف أسفل الدرج ومعه ضابط اسمه فاروق مكي، شديد التهذب، جم الأدب، وكان مع صلاح طفل صغير، لا بد أنه أحمد ابنه، لقد وُلد وأنا خارج مصر وبلغ الخامسة من عمره ولم أكن قد رأيته، وقال له صلاح: هذا عمك. فأقبل نحوي واحتضنته وقبلته. وسأله صلاح: ما رأيك في عمك محمود؟ فأجاب على الفور حلو بس مقطع شعره! لم يكن شعري فقط هو الذي تقطع ولكن أشياء كثيرة تقطعت خارج جلدي وداخله أيضًا.

ومن حسن الحظ لم يلحظ الطفل الصغير إلا الآثار التي تقطعت خارج الجلد. لو علم أحمد السعدني ماذا تمزق من نفسي ومن روحي ومن أعصابي، لبكى تأثرًا على ما حدث لعمه. لو عرف أحمد السعدني كم عانيت في الغربة، وكم مرة احتبس الدمع في عيني، واحتبست الكلمة في فمي! لو علم ما حدث بيني وبين موظف إعلامي كبير في دولة عربية، كان الخالق الناطق شبه ممثل كوميدي عربي مشهور، وكانت هذه عقدة حياته، فقد كان منظره يدعو إلى الضحك، بينما كان يتصور نفسه نابليون زمانه! وكان يحتقر الصحفيين في أعماقه، وكان يتصور أن أي صحفي يمكن شراؤه، وتأكد هذا الشعور عنده بعد أن نجح في شراء عدد كبير منهم في أنحاء العالم العربي، وبعد أن استطاع إصدار عدة صحف في أنحاء العالم بدءًا من لندن في بريطانيا وإلى ملبورن في أستراليا.

وقد وقع أول اشتباك بيني وبينه عندما أبلغته باحتجاجي على المعاملة السيئة التي لقيها شاعر مصري كبير. وحاول عند لقائي به أن ينسب إلى الشاعر تهمة التجسس والخيانة، ولكني رفضت هذا المنطق، وافترقنا دون أن أقتنع بما قدمه من حجج وأكاذيب.

وكانت المرة الثانية عندما مات عبد الحليم حافظ، وامتنعت أجهزة الإعلام التي كان يقودها عن إذاعة الخبر. وفي أول لقاء معه بعد موت عبد الحليم، قلت للمسئول الإعلامي: لقد أسلمت آذان مواطنيك إلى إذاعات الأعداء لكي تعرف نبأ موت عبد الحليم حافظ. وردَّ على المسئول الإعلامي باستعلاء شديد: إن عبد الحليم حافظ مطرب الضائعين والمساطيل. ونحن لا نذيع نبأ وفاة شخص مثل هذا. وأبديت دهشتي لهذا المنطق الغريب، فعبد الحليم حافظ أكبر مطرب وأشهر مطرب على مستوى العالم العربي، ووفاته خبر يهم الجماهير، خصوصًا أنه مات وهو في قمة الشهرة والتألق والانتشار، ومهمة أجهزة الإعلام أن تُعلِم الجماهير بما يقع في العالم من أحداث، فإذا لم تقم بهذا العمل فقدت اسمها وفقدت وظيفتها أيضًا.

ويبدو أن المسئول الإعلامي غضب بشدة فقال دون وعي: إنت أصلك زعلان لأنه مطرب ناصري! وقطعت المناقشة، فلم يكن هناك جدوى من استمرارها.

وحدث ذات مرة أن أرسل أحد رجاله في طلبي، وطلب إليَّ الرجل في أدب شديد أن أكف عن كتابة المقالات في إحدى المجلات التي كانت تصدر في لندن، وطلب إليَّ أن أنشر مقالاتي في إحدى المجالات التي كانت تصدر في باريس.

ولما لم يكن هناك سبب يدفعني إلى عدم نشر مقالات في مجلة لندن، ونشرها في مجلة باريس، فقد اعتذرت للرجل في عدم استطاعتي تلبية الطلب. ولكن الرجل راح يعدد لي الجرائم التي ارتكبها صاحب مجلة لندن، والفلوس التي سرقها، وكيف أنه لا يعمل بالصحافة في حقيقة الأمر، ولكنه يشتغل بالسياسة وأشياء أخرى أعف عن ذكرها في هذا المجال، ولكني تمسكت بموقفي؛ لأن رئيس التحرير الذي كنت أعمل معه كان صديقًا وكان صحفيًّا ممتازًا، ولم يمنع نشر مقال لي قط ولم يشطب جملة كتبتها في مقالي.

وكان ظهور «٢٣ يوليو» في لندن، والتي شرفت برئاسة تحريرها، هو السبب في القطيعة بيني وبين هذا المسئول الإعلامي؛ لأنني أصدرت العدد الصفر دون علمه، وفوجئ هو بإعلانات عن قرب صدور المجلة في بعض الصحف العربية، ولما كان المسئول الإعلامي إياه يعتبر نفسه مسئولًا عن الإعلام في أنحاء الكرة الأرضية، فقد اعتبر صدور المجلة دون علمه نوعًا من أنواع التمرد، وينبغي أن ألقى العقاب المناسب عليه.

ولعل هذا هو السبب في أن المجلة حوربت بشدة بعد ذلك، ولعل هذا أيضًا كان السبب في عدم صدور أي كتاب للعبد الله من دار نشر من الدور التي كانت تتبعه، وما أكثرها! ولعله شيء غريب أن أعيش في المنفى مائة شهر لم أتمكن فيها من إصدار كتاب واحد، مع أنهم سواء في بغداد أو في دمشق أو في طرابلس الغرب نشروا كتبًا كثيرة، حتى للسمكرية، وحتى للكهربائية، وحتى لآخرين لم يتعلموا القراءة والكتابة بعد!

وفي مرات كثيرة، تمنيت أن أقول رأيي الصريح للمسئول الإعلامي إياه، ولكني لم أستطع. كان يملك كل شيء، ولم أكن أملك شيئًا، مجرد صحفي وكاتب هارب من بلاده! وحتى بعد أن أطيح بالمسئول الإعلامي إياه، لم أستطع أن أقول رأيي فيه؛ شعرت بأن القضية بيني وبينه قد انتهت، وكنت أود لو استطعت أن أقول رأيي فيه وهو في موقعه العالي، عندما كان عدوانيًّا و متغطرسًا ومغرورًا إلى أقصى حد … ولكن أحمد السعدني الذي لم يلاحظ إلا ضياع شعري ما كان يستطيع أن يدرك مدى ما عاناه عمه في الغربة، حتى لو شرحت له الأمر.

المهم أن الضابط مكي رحَّب بي في مصر، بلدك — على حد قوله — وأبلغني تحيات اللواء حسن أبو باشا وزير الداخلية، وأخذني في سيارة مع صلاح وابنه إلى خارج المطار، وتولى بعض رجاله مهمة ختم جواز سفري، وسألني عن متاعي الذي أحمله فأجبت بأنني حضرت بلا متاع، تحسبًا لأية مفاجأة قد تحدث في مطار القاهرة. ولم أصدق نفسي وأنا خارج المطار مع صلاح السعدني، ولم يكن ينتظرني خارج المطار إلا الحاج إبراهيم نافع وأولاده وأكرم ابني.

وقطعت شوارع القاهرة وأنا أتلفت حولي أشاهد التغيرات التي حدثت في غيابي. وقطعت كوبري ٦ أكتوبر، وألقيت نظرة على القاهرة من فوق. كم تغيرت القاهرة، وكم تغيرت أنا! هذا الكوبري بالذات، أنا كنت أول من سار عليه مع المهندس عثمان أحمد عثمان عندما انتهت مرحلته الأولى وقبل افتتاحه بعدة سنوات. وهذه هي الجيزة، كل شيء باقٍ على ما هو عليه، حتى زبائن قهوة حسن عوف وزبائن قهوة إبراهيم عبد اللاه، هم أنفسهم، لم تتغير حتى مواقع جلوسهم، والولد ريعو الجرسون لا يزال يحجل كالغراب بعد أن ازداد نحولًا وشحوبًا، وها هو ذا الحاج محمد قطب مأذون الجيزة وسعد قطب شقيقه والحاج حامد الحوراني تاجر السمك، وها هو ذا سيد البواب، والجمعية الاستهلاكية والطوابير أمامها ازدادت، والحفر كما هي، والأرصفة المتآكلة ازدادت تأكلًا، والرصيف الذي أمام منزلي صار جراجًا للسيارات، والمرور متوقف، والازدحام يخنق الأنفاس، والنيل العظيم يتهادى معشوشبًا نحو الشمال، كما كان حاله منذ ألف مليون عام. الشيء الذي لفت نظري هو ارتفاع مستوى المعيشة بشكل ملحوظ، ها هو الكليفتي صار تاجرًا ولديه سيارات!

وتساءلت بيني وبين نفسي: كيف حدث هذا الارتفاع في مستوى المعيشة ونحن لا ننتج شيئًا ولا نزرع شيئًا؟ من أين هذا الخير المتدفق على الناس؟ مع أنهم ازدادوا كسلًا، وازدادوا وخمًا! وبدا لي أن سؤالي سيظل بلا جواب!

•••

كان لقائي باللواء حسن أبو باشا وزير الداخلية مفيدًا للغاية. أدركت منذ اللحظة الأولى أن عهدًا جديدًا في مصر قد بدأ، عهدًا لا يرفع الرئيس إلى مرتبة الإله، ولا يخفض الشعب إلى مرتبة الرعية. وأدركت أن ديمقراطية السبعينيات التي زينوها وزرعوا لها أظافر وأنيابًا، ستصبح حقيقة واقعة، وسيشارك المواطنون في صياغة حياتهم، وفي تقرير مصيرهم، وأن مصر تشهد عصرًا جديدًا، ربما لم يكن لها به عهد من قبل.

والحق أقول: إن علاقتي بوزارة الداخلية، كانت صورة من الحياة السياسية المهتزة المضطربة المضحكة المبكية معًا، وأول مرة دخلت وزارة الداخلية كانت في عهد سراج الدين أيام كان وزيرًا للداخلية، وكنا في سنة ١٩٥١م. كانت معركة قناة السويس التي خاضها جنود الشرطة ضد قوات الاحتلال لا تزال محتدمة، وكان أحد السياسيين —وهو الأستاذ رفيق الطرزي — قد عهد إليَّ باثنين من الصحفيين الأجانب لاصطحابهما معي إلى السويس لمشاهدة الأحوال هناك، ولرؤية المعركة على الطبيعة. وذهبت إلى وزارة الداخلية للقاء الأستاذ علي الزير لكي يقوم بالاتصال بالمسئولين في السويس حتى يكون ممثلا الصحافة الأجنبية في حماية الشرطة؛ خصوصًا أن الأحوال في السويس كانت قد اضطربت اضطرابًا شديدًا، واختلط الحابل بالنابل كما يقولون، ولأن عناصر مشبوهة كثيرة كانت قد اندست في صفوف المواطنين، وتكررت عدة حوادث اعتدى فيها مجهولون على بعض الأجانب الذين كان يعملون في بعض الشركات أو في الميناء باعتبارهم جواسيس. فقد رأيت أن هذا واجبي — وقد أصبح هذان الصحفيان في عهدتي — أن أحتاط للأمر كي أضمن عودتهما سالمَين إلى بلادهما. وبالفعل قام الأستاذ علي الزير بالاتصال باللواء الصبان حكمدار السويس في ذلك الزمان، وسافرات معهما برًّا ذات يوم من أيام شهر نوفمبر، ولكن ما حدث لنا خلال الرحلة كان أغرب من الخيال!

استوقفني الجنود الإنجليز عند الكيلو ٩٩، وبعد أن تأكدوا من شخصيات ركاب السيارة، سمحوا للسيارة بالمرور، لكنهم ألقوا القبض على العبد لله واصطحبوني إلى المعسكر. ولقد كان منظري مضحكًا للغاية باعتباري سبع الليل المكلف بإسباغ حمايته على الصحفيَّين الأجنبيَّين. ولذلك استغرقت في ضحك هستيري وأنا محبوس في غرفة الشاويش الإنجليزي، بينما ضيفاي الأجنبيان يبذلان مساعيهما لدى قائد المعسكر للإفراج عني. لقد كان حالي هذا أشبه بحال مصر في تلك الأيام، أنا المواطن صاحب الأرض وصاحب الحق محجوز في معسكر جيش أجنبي، بينما اثنان أجنبيان أيضًا يتوسطان للإفراج عني من أسر الإنجليز!

ورقَّ قلب القائد الإنجليزي فأفرج عني إكرامًا لخاطر عيون الأجنبيين اللذين كانا مع العبد لله. ولكن؛ لأن فترة حبسي امتدت إلى أربع ساعات، فقد وصلنا إلى السويس مساء، واكتشفنا أن منافذها قد أغلقت، ومُنع الدخول إليها، والسبب أنهم — لظروف الأمن — كانوا قد قرروا إغلاق منافذ السويس من العاشرة مساء حتى السادسة صباحًا. وكان علينا أن نقيم في الصحراء حتى الصباح.

وكان على العبد لله أن يتصرف حتى لا ينام الصحفيان الأجنبيان في الصحراء. ولم يكن هناك مسئول إلا شاويش شرطة مصري عجوز، وبعد التحيات والسلامات وتقديم نفسي إليه باعتباري مندوب جريدة صوت الأمة ومجلة النداء الوفديتين وأنني أصطحب معي صحفيَّين أجنبيَّين لمتابعة ظروف المعركة الدائرة في السويس، وأن الكرم المصري وطيبة القلب المصرية، كلاهما يفرض على الشاويش الحمش أن يسمح لنا بالدخول. ولكن الشاويش بعد أن استمع عميقًا، راح يتفرس في وجهَي الصحفيَّين، ثم سألني سؤالًا باغتًا: أمال الإنجليز دول معاك ليه؟

ورحت أشرح للشاويش من جديد كيف أنني صحفي ومندوب لصحف الحكومة، وأن الاثنين اللذين معي هما ضيوف مصر، وأن أحدهما صحفي إيطالي والآخر صحفي فرنساوي، وأن حكمدار المدينة في انتظارهما، وأن الواجب والكرم والشهامة كلها يفرض على حضرة الشاويش أن يسمح لنا بالدخول إلى المدينة، ولكن وبعد أن دقق النظر في بطاقتي الصحفية، وتفرَّس في وجهَي الاثنين، قال في طيبة شديد: أنت تخش، ولكن الإنجليز لا، ومضت ساعتان وأنا أجادل الشاويش العجوز دون جدوى، وفي النهاية سمح لي بالاتصال تليفونيًّا بسعادة الباشا الحكمدار ليرى ما يراه وليأمر بما يريد؛ فهو «صاحب الأمر يا بني وأنا عبد المأمور»، وحاولت الاتصال باللواء الصبان بدون جدوى، فاتصلت بالصاغ زكي جبران، وكان رئيسًا للقسم المخصوص بالسويس، وأشهد أنه كان رجلًا مستنيرًا وعلى مستوى المسئولية واستطاع أن يحمي السويس من مذبحة رهيبة كادت تقع فيها لولا حكمة الرجل وصبره.

وضحك زكي جبران وأنا أحكي له ما حدث لي بالتفصيل، ثم قال الرجل: ولا يهمك، اديني الشاويش، وناديت الشاويش وسلمته السماعة، ولم يقل الرجل شيئًا إلا تمام يا افندم، حاضر يا افندم، تحت أمرك يا افندم، اللي تشوفه يا افندم، إن شاء الله يا افندم … ووضع سماعة التليفون، فابتسمت له ابتسامة عبيطة، وقلت له: سلام عليكم بقى، ولكنه لم يرد التحية، لا بمثلها ولا بأحسن منها، ولكنه سألني: سلام عليكم؟ إنت رايح فين؟ قلت له: هانروح السويس. قال: لا، ممنوع. سألته: هو قال لك ممنوع؟ فسألني هو الآخر: هو مين ده اللي قاللي؟ قلت له: البيه مدير المباحث. قال: وأنا اش عرفني ان ده مدير المباحث؟ أهو واحد بيتكلم في التليفون. وساعة أخرى قضيتها أشرح للشاويش الطيب عواقب رفضه لدخولنا، وأن مثل هذا العمل المتشدد، ستكون له آثار سيئة عند معالي وزير الداخلية، ولكن الشاويش الحمش رأسه وألف سيف لا بد أن يطبق القانون، ولو تجمدنا نحن الثلاثة في برد الصحراء!

ولكن الله كتب لنا السلامة فحدثت مفاجأة لم تكن على البال. جاءت سيارة جيب عسكرية يقودها ضابط جيش مصري، وذهب الشاويش ليتحقق من هوية الراكب والسيارة، وانتهزت الفرصة أنا الآخر، واتجهت إلى الضابط لأشرح له الأمر.

وكم كانت فرحتي عظيمة عندما اكتشفت أن الضابط الذي في السيارة هو الكاتب الفنان الصديق عبد المنعم السباعي. وقال عبد المنعم السباعي دهشًا: إنت بتعمل إيه هنا؟ قلت له: ركنا الأول وبعدين أقول لك. فسألني: إنتم رايحين السويس؟ قلت: أيوه. قال: اركبوا. وقفزنا نحن الثلاثة في السيارة، ومرقت بنا نحو البوابة.

ولم يفعل الشاويش شيئًا سوى أن رفع يده وضرب لنا تعظيم سلام! ولم أدخل وزارة الداخلية مرة أخرى، إلا في سنة ١٩٥٥م، وباستدعاء من الصاغ صلاح الدسوقي الذي حذرني من نشر الشائعات حول السيد زكريا محيي الدين وزير الداخلية وقال: سنضرب صفحًا عما حدث هذه المرة، ولكن في المرة القادمة لن يمر الموضوع بسلام. والمرة الثالثة كانت عندما أفرجوا عني في سجن الواحات الخارجة في سنة ١٩٦٠م، ودخلت الوزارة ويدي اليمني مكبلة بالحديد، بينما الفردة الأخرى من الكلبش تكبل اليد اليسرى لأحد رجال الشرطة، وفوجئت باللواء حسن المصيلحي حين دخولنا مكتبه يقف وقفة احترام، ويمد يده مرحبًا وهو يقول: أهلًا بالسعدني بيه. وقلت له: يا سعادة اللواء، أولًا أنا لا بيه ولا تيه، وثانيًا أنا لا أستطيع أن أصافح سعادتك فيدي مكبلة بالحديد.

والحق أقول: إن اللواء حسن مصيلحي كان ودودًا ورقيقًا للغاية في تلك المقابلة، وأصر على أن يشتري لي دواء من الصيدلية، فقد كنت مصابًا بنزلة برد شديدة، أصابتني خلال رحلتي من الواحات إلى القاهرة في قطار بائس بلا نوافذ ولا أبواب. ولم أدخل وزارة الداخلية محترمًا إلا في عهد شعراوي جمعة، وهو وزير داخلية ليس له نظير بين وزراء الداخلية الذين تولوا أمرها في مصر.

فقد كان رجل سياسة من الدرجة الأولى، وبعد ذلك كان رجل أمن، ولا يقترب من شعراوي جمعة إلا حسن أبو باشا الذي كانت له نفس الصفات ونفس المزايا، ولكن هذا الاحترام الذي حظيت به في وزارة الداخلية لم يدم طويلًا، ففي ١١ مايو ١٩٧١م، خرج معي وزير الداخلية ليودعني حتى الباب، وفي ١٣ من الشهر نفسه أي بعد يومين اثنين فقط دخلت وزارة الداخلية مخفورًا باثنين من رجال الحرس، وعند باب السرداب الذي يقع أسفل الوزارة، دفعني أحدهم بقبضة يده ولم أستطع أن أحفظ توازني، فسقطت على أرض السرداب، وآلمتني الضربة بشدة وعانيت منها بعد ذلك عدة أيام.

والمرة الثانية كانت عند خروجي من سجن القناطر بعد انقضاء مدة العقوبة، احتجزوني لمدة ٢٤ ساعة في مكتب أحد الضباط حتى صدر قرار الإفراج عني، وأعتقد أنه كانت لديهم النية لاعتقال العبد لله لولا أن الظروف لم تكن تسمح. ولم تسنح الفرصة للعبد لله بدخول وزارة الداخلية بعد ذلك إلا لمقابلة حسن أبو باشا، وكان يحضر لقاءاتنا اللواء فؤاد علام واللواء محمد ثعلب. والحق أقول: إنني سعدت بلقاء الرجال الثلاثة وشرفت أيضًا، وفي آخر لقاء قال لي اللواء حسن أبو باشا وأنا أصافحه مودعًا بمناسبة سفري إلى الخارج: لا تسافر غدًا، وأجِّل سفرك ثلاثة أيام، وسألته مازحًا: ليه؟ خير إن شاء الله! فأجابني: ستقابل الرئيس حسني مبارك بعد غد.

لقائي بالرئيس حسني مبارك آية تثبت وجود الله سبحانه. ففي الوقت الذي كنت فيه أجتاز بوابة مقر رئيس الجمهورية كان قد مضى اثنا عشر عام ونصف العام على سجني، وكم تعرضت خلال المحاكمة والسجن إلى شائعات نشروها وأذاعوها ضدي، وكان قد مضى أكثر من مائة شهر وأنا طريد بلادي أتنقل كالوحش المفترس من مكان إلى مكان؛ لأنني كنت محل غضب السلطان. فقد تعرضت أسرتي أيضًا لشتى أنواع الأكاذيب والشائعات، وكلما اشتدت أزمة النظام اشتدت الحملة ضد العبد لله، حتى بلغت ذروتها بعد حملة سبتمبر الشهيرة التي زج فيها النظام بكل رجالات مصر وقادتها إلى السجن، تلك الحملة الشهيرة التي وصفها بعضهم بثورة سبتمبر ووصفها الآخرون بأنها إنجاز تاريخي ربما أكثر خلودًا وأشد روعة من حرب أكتوبر نفسها!

ولم يخجل وزير داخلية النظام في ذلك الوقت من وصف المعارضين الذين فروا من سجنه إلى الخارج بأنهم شواذ ومدمنو مخدرات ومساطيل فقدوا الوعي، بالإضافة إلى كونهم خونة وعملاء ومرتزقة باعوا شرفهم مقابل الدينار والدولار!

وها أنا ذا بعد حوالي سنتين فقط من الخطاب التاريخي لوزير الداخلية في البرلمان، ها أنا ذا أجتاز بوابة مقر رئيس الجمهورية. وهتفت: يا سبحان الله! يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويعطي الملك لمن يشاء وينزع الملك ممن يشاء، بيده الملك، وهو على كل شيء قدير. ولقد استقبلني داخل بيت رئيس الجمهورية اللواء طيار عبد الوهاب زكي، وهو برغم شبابه فقد نصف شعره، كما أن العمل الشاق الذي يتولاه كان واضحًا تمامًا على ملامح وجهه.

واستقبلني الرجل بترحاب شديد، واعتذر لي الرجل بأن بيت رئيس الجمهورية في حالة إعداد، وأدخلني حجرة، واعتذر لي لأن الرئيس مبارك موجود الآن في مقابلة مع أحد الزوار، وأنني سأقابل الرئيس فور انتهاء الزيارة، ولبثت داخل الحجرة نحو عشرين دقيقة أتأمل الأثاث الموجود، وهو أساس بسيط للغاية. ورحت أفكر في ملكوت الله؛ ما أغرب الحياة! أين ذهب السلاطين العظام والملوك الطغاة؟ هؤلاء الذين عاشوا يتقلبون في النعيم ويرفلون في الحرير، ويأكلون في صحاف الذهب. كم تغيرت الحياة! وكم تغيرت الظروف، وها أنا ذا أخيرًا في بيت السلطان، لا حرير هناك ولا ذهب، إنما حياة عادية وشاقة ومرهقة. ويا سبحان الله! لو أنني خطر في مخي أنني سأكون داخل هذا البيت منذ عامين اثنين فقط، لقلت: إنني أحلم. ولكن ها هو الحلم أصبح حقيقة، ها أنا ذا الآن في بيت رئيس الجمهورية! ودخل اللواء عبد الوهاب زكي الحجرة وقال: اتفضل. وسرت من خلفه خارج الحجرة، وتصورت أنني في طريقي إلى مكتب الرئيس، وكم كانت دهشتي كبيرة حين فوجئت بالرئيس أمامي في حديقة البيت. صافحته بحرارة شديدة، كان صورة طبق الأصل من الصور التي تُنشر له في الجرائد. كان يمتلئ شبابًا ويفيض بالحيوية، وكان في الخامسة والخمسين لحظة وقع بصري عليه، ولكن شعر رأسه كان أسود فاحم السواد، وكان يؤكد بخطوته ونظرته وبنيانه الجسماني أنه من الرجال الذين اعتادوا حياة المعسكرات وعاشوا فيها وقتًا طويلًا.

وأخذني الرئيس من يدي وسار في الحديقة، ثم توقف لحظة أمام نافورة فقيرة المنظر، وأشار نحوها وقال بلهجة ساخرة: أهي دي النافورة اللي انت هاجمتني عليها. ونفيت ذلك بشدة للرئيس. لم أكن هاجمته قط من أجل نافورة، ربما هاجمناه على صفحات «۲۳ يوليو» في سياق الهجوم العام الذي كنا نشنه على نظام السادات، ولكني لا أذكر أن هذه النافورة ورد ذكرها على صفحات «۲۳ يوليو». وقال الرئيس وهو يرفع مقعدًا من مقاعد الحديقة الضخمة: هات لك كرسي انت راخر وتعالى ورايا. وهممت برفع الكرسي ولكني تبينت أنه من النوع الثقيل، وهرع أحد رجال الحرس ليحمل الكرسي عني، ولكني رفضت وصممت على حمل الكرسي بنفسي ما دام الرئيس قد حمل كرسيه بنفسه، لكن هذا العناد كلفني أسبوعًا في الفراش. لقد التوت فقرات ظهري تحت عبء الكرسي الثقيل.

استمر اللقاء بيني وبين رئيس الجمهورية الرئيس محمد حسني مبارك نحو الساعة، ولأنني لم أستأذنه في النشر، فلم أذكر شيئًا مما دار بيني وبين الرئيس، ولكن لا بأس من وصف الجو الذي أحاط بالمقابلة. كان جوًّا ودودًا، وكان لقاء بين مصري وطني يعمل رئيسًا للجمهورية ومصري وطني يعمل بالصحافة. لقد أتيح للعبد لله أن ألتقي وأشاهد عن قربٍ الحكام الذين حكموا الأعوام الخمسة والثلاثين الأخيرة. أشهد بأن حسني مبارك هو الوحيد الذي ترك في نفسي انطباعًا بأن الرجل الذي أمامي متواضع في غير اصطناع وبسيط في غير تكلف، وأنه يؤمن بالرأي والرأي المخالف.

•••

وفي نهاية المقابلة، قلت للرئيس مازحًا: عاوز أقول لسيادتك سر يا ريس. وسألني الرئيس باهتمام: إيه يا محمود؟ أجبت: تعرف يا ريس أول ما سيادتك تسلمت الحكم أنا شعرت بأسى حقيقي. وسألني بدهشة: شعرت بأسى يا محمود؟ قلت: أيوه يا سيادة الريس، والسبب أنك أول رئيس يحكم مصر، ويكون أصغر مني سنًّا، فمع الآخرين الذين سبقوك، كنت مطمئنًّا إلى أنني سأذهب خلفهم إلى المقابر، أما أنت فسيكون الحال معك مختلفًا، وبالتأكيد سيذهب مندوبك خلف جنازتي إلى الدار الآخرة.

وبدت الدهشة على وجه الرئيس وقال: إنت أكبر مني؟ قلت: نعم يا سيادة الرئيس، وفي العمر فقط، فسيادتك من مواليد ١٩۲٨م وأنا من مواليد ١٩۲٧م. فضحك الرئيس ضحكة عالية وقال: على كده بقي الواحد لازم يحترمك علشان سنك.

وعندما وقفنا وصافحته مودعًا سألني الرئيس: موش عاوز حاجة يا محمود؟ أجبته: أيوه يا افندم، عاوز من سيادتك خدمة. وقال: الرئيس باهتمام: عاوز إيه؟ قلت: عاوز أولادي ينتقلوا من جامعة بغداد إلى جامعة القاهرة. قال: مافيش مانع. وقال الرئيس للواء عبد الوهاب زكي الذي كان يقف على مقربة منا: كلم الدكتور حسن حمدي خليه يقبل أولاد السعدني في جامعة القاهرة. وقال لي الرئيس: اتصل بجمال كلما كانت هناك ضرورة للاتصال بنا. وتمنيت التوفيق للرئيس وصافحته وعانقته بحرارة. وغادرت مقر رئيس الجمهورية، وأنا في حالة من السعادة ربما لم أشعر بمثلها من قبل.

لقد شعرت بأن هذا اللقاء كان تتويجًا لرحلة العذاب والآلام التي استمرت مائة شهر طويلة خارج الحدود، واعتبرتها نهاية لسلسلة المظالم التي حطت على رأس العبد لله من جانب مصر الرسمية، واعتبرتها أيضًا بداية لعصر جديد في مصر يصبح فيه الحاكم والمعارض وجهين لعملة واحدة لمصلحة مصر، ومن أجل مصر. ولم أغضب بعد ذلك عندما فشلت في إلحاق أبنائي بجامعة القاهرة، ولم أغضب أيضًا عندما منعوا نشر مقالاتي على صفحات مجلة صباح الخير وروزاليوسف، ولم أغضب أيضًا للعقبات الصغيرة التي صادفتني هنا وهناك. فقد كنت أعلم بالتجربة أن طريق العودة ليس مفروشًا بالورود. ولكن الذي كان يحز في نفسي أحيانًا، أنني كنت أعامَل من بعض الجهات على أساس الدور الذي لعبته أيام السادات، وليس على موقفي أيام حسني مبارك، وكان عزائي الوحيد أنه في يوم وفي شهر وفي سنة وفي سنتين، سيظهر رجال حسني مبارك، وسيختفي رجال السادات.

فهذا حكم الطبيعة والأقدار؛ فلا أحد يستطيع أن يحكم من القبر، والحياة دائمًا أقوى من الموت، والدنيا تسير دائمًا إلى الأمام، ولا يمكن للحياة أن تتراجع خطوة واحدة إلى الخلف. ولذلك أيضًا قررت أن أخوض المعركة الانتخابية إلى جانب حسني مبارك، بالرغم من عدم إيماني بالحزب الوطني. ولقد أحدث هذا الموقف من جانبي متاعب كثيرة للعبد لله. فقد تصوَّر بعض الأصدقاء أنني تراجعت عن مواقفي السابقة، ولكن ما حدث بعد المعركة الانتخابية التي انتهت بفوز ساحق لحزب مبارك، أصاب العبد لله بخيبة أمل شديدة. فقد كانت كل التصريحات للمسئولين، وكل المؤشرات تؤكد على أن مجموعة ١٥ مايو سيُرفع عنها العزل السياسي بعد المعركة الانتخابية. ولكن الذي حدث للأسف الشديد أن الموقف ظل بالنسبة لهذه المجموعة كما هو بلا أدنى تغيير. وما زال العبد لله حتى هذه اللحظة محرومًا من حقوقه السياسية، معزولًا بقرار من سلطة غاشمة تصورت في لحظة أنها أصبحت ظل الله في الأرض، وأن مصائر العباد والبلاد بيدها وتحركها وتقيدها بالشكل الذي ترغبه، وفي الوقت الذي تحدده!

ولكن ومع التجاوز عن الموقف الشخصي، فما زلت مؤمنًا بأن عصر حسني مبارك هو عصر الأمن والأمان بالفعل. إنني لم أستمتع بالنوم ليلًا إلا في ظله وفي عصره. إنه أشاع جوًّا من الحرية والطمأنينة لم يكن لنا بهما سابق عهد. وإنه إذا كان عصر عبد الناصر هو عصر المعارك، وعصر السادات هو عصر الهبر، فإن عصر حسني مبارك هو عصر الديمقراطية والحرية للجميع والسلطة للأغلبية، والحكم للقاضي، وسيادة القانون فوق سيادة الرئيس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥