وكل الأنهار في البحار
والآن، وبعد مائة شهر في المنفى وبلاد شبل وبلاد تحط. ماذا كسب الإنسان من تعبه وكده في الأرض؟! وإذا كانت كل الأنهار تصب في البحر والبحر ليس بملآن فلا الأنهار توقفت ولا البحر فاض؛ فهي دورة حياة متكاملة. وما الإنسان إلا مجرد صامولة في جهاز كامل جبار، ولكن المكسب الوحيد هو الخبرة. وإن كانت خبرة في غير أوانها وبلا عائد على الإطلاق؛ لأن الخبرة مفيدة إذا كانت في بداية العمر. أما والعمر قد ولَّى، والزمن راح فما فائدة الخبرة لرجل على المعاش؟! وما جدواها والزمن تجاوز الساعة الرابعة والعشرين؟! ولكنها تصبح مفيدة إذا نقلناها للأجيال القادمة. وإن كنت أشك في أن أحدًا يستفيد بتجارب الآخرين.
فالزعيم محمد فريد أثبت لنا في مذكراته أن الهجرة ضارة. وأن العمل السياسي غير فعال خارج الحدود. ومع ذلك قرأنا ما كتبه محمد فريد ولم نصدقه، أو قرأناه في ساعات المساء. ونحن «نتسلطح» على الفراش، وربما أقنعنا أنفسنا بأن الزمن تغير والظروف غير الظروف، وبالرغم من ذلك فأنا حريص على أن أقول لمن يقرأ هذا الكلام، بالصدفة أو عن عمد، إنني لم أتعلم شيئًا إلا في المنفى. وإن المائة شهر التي قضيتها هناك كانت أكثر فائدة وأعرض من الخمسين سنة التي سبقتها. وأنني عندما خرجت من مصر كنت مجرد أبله أصدق ما يقال في الإذاعة، وكنت مؤمنًا بما تردده الأغاني. كنت مؤمنًا بأننا أمة واحدة وإذا بي أكتشف أننا أمم شتى. تصورت أن هناك نظمًا تقدمية وأخرى رجعية فإذا بالحقيقة المرة تصدمني؛ وهي أن التصنيف حبر على الورق فقط، وأن الجميع سواء. مع فارق بسيط هو أن بعض النظم تلتزم الصمت وبعضها يجعجع بالكلام. ويعيش في شعارات ويستهلك أغاني ويمضغ عبارات. وأن الإنسان العربي مسحوق في ظل الجميع، ولكنه أكثر انسحاقًا في ظلم النظم التقدمية! وأن هذه النظم متقدمة فعلًا ولكن في أساليب القمع والقهر ومسح شخصية المواطن الممسوحة أصلًا ومن قديم الزمان.
وأدركت في المنفى أنه كلما علا صوت النظام قل فعله، وكلما كثرت الأناشيد كثرت الهزائم، وأنه بقدر ما يرتفع الزعيم في العلالي يندفن الشعب في التراب!
واكتشفت أيضًا أننا انهزمنا في داخلنا قبل أن تهزمنا إسرائيل في ساحات المعارك. والذي قتلني رعبًا أن الحملة على مصر لحظة ذهاب السادات إلى القدس لم يكن هدفها إصلاح الأخ الأكبر وعودته إلى الطريق القويم. ولكنها كانت تستهدف قتل الأخ الأكبر والاستيلاء على مكانه ومكانته. ولقد بدا هذا واضحًا عند تقسيم التركة ونقل مؤسسات الجامعة العربية من القاهرة إلى غيرها من العواصم والبلاد!
إن بعض المصريين للأسف الشديد نالوا الحظوة لدى بعض النظم التقدمية لأنهم لم يهاجموا نظام السادات، ولكنهم هاجموا مصر نفسها وهاجموا دورها، وأشاروا بأصابعهم صراحةً إلى البديل.
ومن غبائي أنني تصورت أن السياسة قصائد وخطب ومقالات، ثم اكتشفت أنها مصالح ومكاسب وفلوس، ومن خيبتي أنني قضيت فترة المنفى أعيش من أجري عن مقالاتي في الصحف، بينما اختصر البعض الرحلة وعاشوا كمهراجات الهنود!
وأعجب ما سمعته وأنا خارج مصر أن كل شيء في مصر فسد حتى الأرض. وأن خلاص مصر يتم عن طريق شتل فسيلة قوية نبتت بعناية في أرض خارج مصر. وأن على مصر أن تتخلى عن دورها كقيادة لتنتظم في الصف خلف قُطر آخر أكثر قدرة على النضال من أجل العبور، والحبور!
ورأيت في المنفى مَن غيَّر جلده أكثر من مرة، ومن انتقل من خندق نظام إلى خندق نظام آخر حسب الأجر المدفوع ورأيت في الخارج ماركسيًّا يشرف علي مركز ديني، ورجل دين يعمل لحساب نظام يدَّعي الماركسية! ورأيت جرائد للإيجار، وكتَّابًا للبيع، وموظفين في أحزاب ثورية ونظم تقدمية يعيشون في مستوى خلفاء بني أمية!
وخرجت من التجربة بأنني أعيش في أكذوبة ضخمة، وأننا عالم من ورق، وأن أمورنا السياسية ليست أكثر من حفلة تنكرية هدفها الوحيد قضاء العمر كله دون أن ننتبه أو نفيق. ولكن الحق أقول: إن هذه الحالة لم تصب جسم الأمة، ولكنها في الشرائح العليا، وشرائح المشتغلين بالسياسة وبالثقافة، جماعة النصابين الذين احترفوا الكلام وبرعوا فيه. أما الشعب العادي المنصوب عليه فلا يزال سليمًا، لم تصل إليه الغرغرينة بعد؛ الشعب كله، سواء في سوق الشيوخ بالعراق، أو مصراته في ليبيا، أو كلباء في الإمارات، أو أم الجماجم في السعودية، أو المرقاب في الكويت، أو خنيفرة في المغرب، أو أبو طشت في الصعيد. وأن الشعب المغلوب على امره في كل مكان يعيش في خدعة كبيرة والسيرك السياسي المنصوب هدفه الوحيد تسليته وعدم إعطائه فرصة للتدبير أو التفكير! يا لها من فترة سوداء حقيرة أتمنى إلا يقع فيها مواطن غبي وشريف في نفس الوقت.
أما إذا كان المثقف أو السياسي مستعدًّا للبيع والشراء فما أوسع الأبواب التي ستنفتح أمامه، وما أطول دفتر الشيكات الذي سيحصل عليه!
أعرف «مكافحًا» اشترى شقة في لندن بنصف مليون دولار، والتُّحف التي في داخلها تساوى عدة ملايين! وأعرف مكافحًا آخر يدير عدة مطاعم ومَلَاهٍ في أوروبا وفي بلاد عربية ثورية تقدميه من النوع الثقيل … وعشرات وعشرات من المكافحين إياهم سبحوا مع التيار وأسسوا شركات للميكانيكا والكهرباء!
ولكن هناك آخرين — في المقابل — يعيشون حتى الآن مع الصراصير، وينامون أحيانًا بلا عشاء.
هناك فتحي خليل الصحفي الذي مات حزنًا وغمًّا. وهناك جورج البهجوري الذي يعيش في مستوى أقل من مستواه الذي كان يعيش عليه في مصر، وهناك صبحي شفيق، وأديب ديمتري، وأمين الغفاري، وعاش محمود العالم في المنفى أسوأ حالًا مما كان في مصر، كذلك الحال مع حسن معاذ رميح، وعاش أحمد بهاء الدين في منفاه الاختياري كصحفي محترف وليس كسياسي على الإطلاق، وعاش ألفريد فرج الكاتب المسرحي ملطشة للكل، وتقدم الذين لا يحسنون شيئًا إلا البغبغة والكلام، وعاش نبيل بدران كاتب المسرح مشردًا في المنفى إلى أن ذهب إلى الكويت، وعاش هناك من وظيفته في المسرح، وعاش علي الشوباشي كصحفي في وكالة الأنباء الفرنسية ولم يشترك في كفاح الأرزقية ولم يمد يده مرة واحدة إلى أولاد الإيه! وهناك آخرون ربما نسيتهم الذاكرة، أو سقطوا من سن القلم، ولكن الشرفاء كثيرون والحمد لله.
وهناك أرزقية عرب وشرفاء عرب، ولكن وجيعتي هي مصر والمصريون. وإذا كنت قد خرجت من مصر وأنا مؤمن بالقومية في يوم من الأيام. وعدت بيقيني أن الحرب العربية -العربية أشد ضراوة من الحرب العربية-الإسرائيلية. وأننا نعيش عصر «داحس والغبراء»، وإن كان الذي نعيش فيه أخطر؛ لأنه حرب «دواحس وغبراوات»!
التقيت في العراق برجلٍ يدعى «الدهش»، لطع مثقفًا مصريًّا على الباب ساعة، ثم أجلسه أمامه ساعة أخرى يعلِّمه فيها تاريخ العرب كما تعلَّمه في الدكان الذي ينتسب إليه.
وقابلت في ليبيا واحدًا بشنب، اسمه شلقم أو شلغم، وكان رئيسًا لتحرير «الفجر الجديد» أو «الفقر الجديد» كما أطلقت عليها، وهو أقل كثيرًا من مستوى طالب في قسم الصحافة، جلس معي عدة ساعات ليشرح لي أسرار الصحافة الجديدة، حسب نصوص النظرية الثالثة. وحمدت الله لأنني لم أفهم حرفًا مما قال!
واجتمعت في دمشق بزعيم ثوري ونوري معًا، راح يشرح لي الخطوات اللازم اتخاذها لانبثاق عالم عربي موحد منغلق على البنية الأساسية، منفتح على العالم الواسع، ملتف في دولة «طوق» مستعد للانطلاق في الوقت المناسب للتحرير، وللتعمير!
وجلست في الجزائر مع صحفي كان يشغل منصبًا رسميًّا في أعلى أجهزة الأمن، راح يحلم أمامي بعالم عربي واحد، يقوده سيادته مع آخرين، ولكني لم أفهم شيئًا؛ لأنه كان يتحدث بلغة فرنسية تتخللها بعض كلمات بني قحطان!
وأدركت أنه ويل للأسير إذا وقع في قبضة آسريه، وويل لمن يهجر أرضه ليلعب سياسة في أرض الآخرين!
ولقد بكيت كثيرًا من سلوك شيء اسمه هبار وحاجة اسمها باصى، وقد تصوَّر هذان الشيئان أنهما «نبوخذنصر» قام من جديد لتحرير القدس. كان هبار أجهل من دابة، أخرق من وحيد القرن، وكان يتوهم أنه من علماء الأرض، وأن العناية الإلهية أرسلته لهداية الضالين، وليملأ الأرض عدلًا بعد أن امتلأت بالشرور! وكان مرتشيًا، يقبل أي شيء من الملابس إلى زجاجات الويسكي، إلى عزومة على وجبة طعام، وكان مسئولًا يومًا ما عن إصلاح مسيرة مصر وردِّها إلى الخط العربي، وقد سار على الخط الصحيح، فاشتغل سكرتيرًا للزعيم الكهربائي، ومديرًا لأعماله ونجح في حشو دولاب ملابسه بالجديد من محلات لندن وباريس!
أما الشيء الذي اسمه باصى فلم يكن جاهلًا ولم يكن متعلمًا، ولم يكن ثريًّا ولم يكن فقيرًا، ولم يكن مقتدرًا ولم يكن مسحوقًا، ولم يكن أي شيء على الإطلاق. ومع ذلك كان ينظم وينظِّر ويعقد الحلقات ويأمر ويشخط في الأسرى الذين أوقعهم غدر الزمان بين يديه.
وكان عبد الغني قمر وهو على فراش الموت يصرخ من شدة الألم: آه يا باصى! وكان فتحي خليل يردد: أموت وفي نفسي شيء من باصى! وأغرب شيء أن هذا الباصى كان مسئولًا عن الإذاعة الموجهة إلى شعب مصر، تدعوه صباح مساء إلى النهوض من عثرته، واستئناف المسيرة القومية التقدمية المهلبية يا!
ويدعوني الإنصاف الآن إلى القول بأنه حتى في المستويات الأعلى داخل النظم إياها يوجد رجال على خلق وعرب حقيقيون، وزعماء شعبيون مخلصون باستطاعتهم تحقيق المستحيل لو توافرت الظروف الحسنة والجو المناسب.
لقد كان مصطفى الخروبي عضو مجلس قيادة الثورة الليبية واحدًا من هؤلاء؛ فهو عربي بحق، وثائر بلا انفعال، ومخلص إلى حد الاستشهاد، وكان هناك في طرابلس أيضًا محمد تبو وزير الزراعة الذي أقيل في ظروف مريبة، وهناك إبراهيم ابجاد وهو عربي بالفطرة ولكنه مغلوب على أمره ويسبح الآن مع التيار! وهناك إبراهيم البشاري وهو شاب شديد الإيمان بالعروبة شديد الحب لمصر، ولكنه من الجيل الذي خدعته الشعارات، وخطفت بصره أنوار اللافتات!
وفي بغداد كان هناك الثائر العربي الحقيقي نعيم حداد. ولقد كان نعيم بمثابة واحة من العروبة والتواضع، وكان كالمرهم يداوي الجروح والأوجاع. وكان هناك منيف الرزاز نائب رئيس القيادة القومية، وهو طبيب تعرفت إليه عندما كان يدرس ويعيش في القاهرة، وهو في الأصل من عمان في الأردن، ولكنه — باعتباره بعثيًّا — تولى المسئولية في دمشق مرة، وفي بغداد مرة، وكان رجلًا مثقفًا وواسع الأفق وبعيد النظرة، وفاهمًا لمشكلات المرحلة وحجم المعوقات، وكان يضع يده أحيانًا على سر المشكلة، وأحيانًا كان يضطر إلى أن يبدو كالآخرين!
وكان هناك المقدم أرشد، كبير حرس الرئيس صدام. ولقد تدخل أرشد كثيرًا من أجل حماية العبد لله من كيد صغار الموظفين الذين انطلقوا وراء اللاجئين في بغداد كالكلاب المسعورة. كما أنه كان عونًا للكثيرين خلال المحن والأزمات.
ولأن رحلة الضياع والصياعة لم تكن كلها شرًّا. ولكن كان فيها جانب مضيء، وهو أنني تعرفت إلى شخصيات عربية كنت أفقد كثيرًا لو لم أصادفها خلال رحلة الحياة: الشيخ صباح نائب رئيس الوزراء الكويتي، وهو رجل ذكي ومستنير، ولو أنني أصغيت إلى نصائحه لكان حالي الآن أفضل مما هو عليه، وأحمد خليفة السويدي العربي الشهم الأصيل، ولو كان في الوطن العربي ألف كادر مثل أحمد السويدي إذن لفتحنا أوروبا كما حدث في أيام موسى بن نصير! وهناك علي الشرفا الطيب القلب الطيب النوايا، والشيخ عيسى الكواري رجل الدولة البسيط الذكي، والدكتور محمد عبده يماني المثقف، والشيخ شمس الدين الفاسي الإنسان الذي لم يتنكر لأصدقاء الصياعة والضياع، والوزير أديب النحوي الذي لم يتنكر للعيش والملح الذي أكلناه معًا في قهاوي القاهرة ومطاعم الرصيف، والعم الكبير أمين الحافظ الذي كان بمثابة القلعة التي أحتمي فيها عندما يشتد الحصار على العبد لله، البطل الشجاع الذي أثخنته سيوف العرب، ولم تنل منه سيوف الأعداء.
وإذا كان هؤلاء في القمة، ففي القاعدة كسبت مئاتٍ وألوفًا من الناس الطبيين، هؤلاء هم الذين أكدوا إيماني بالشعب العربي، وحالوا بيني وبين إعلان كفري بأمة بني شيبان! مئات وألوف من الشعراء والأدباء والصحفيين والكتاب والخبراء والمهندسين والحرفيين وأرباب الصنائع والصياع. وكلهم — في كل أرض عربية — لو وجدوا فرصة لصنعوا المعجزات. ولكن الزمن الرديء كتم أنفاسهم وقطع ألسنتهم وأزهق أرواحهم فأصبح أغلبهم جثثًا تمشي على الأقدام.
وهؤلاء المسحوقون أكدوا عندي الإحساس باننا لن نهزم إسرائيل إلا إذا هزمنا الهزيمة التي في أنفسنا، وأن أمتنا العربية في حاجة إلى ألف شاعر كالمتنبي ليبصق علينا، وألف زجال كبيرم التونسي ليفضح عيوبنا أمام العالمين!
والآن، وقد انتهت الرحلة، وانتهى الدرس بالنسبة للغبي الذي هو العبد لله … أرجو من الله إلا تتكرر هذه المحنة، وألا يقع فيها إنسان؛ خصوصًا إذا كان من صنف الشرفاء، وأدعو الجميع — والشباب خصوصًا — إلى التعامل مع الواقع وليس إلى التعامل مع القصائد والأشعار؛ فنحن أمة ممزقة، ودويلات صغيرة، وكل دويلة لها مصالح وأهداف مهما حاول البعض إخفاء هذه الحقيقة بالكذب أو بالشعارات، وكل عربي هو مواطن درجة ثالثة في مسقط رأسه، ولكنه يصبح مواطنًا من الدرجة العاشرة إذا لجأ إلى أقطار الآخرين، وكل جماعة سياسية في الوطن العربي الكبير تتصور أن الحل لديها، والشفاء على يديها، وخطها هو الخط الصحيح والمستقيم!
ولكن هذه مجرد تصورات وأحلام وأوهام، لا يصدقها إلا السذج، أما أصحابها أنفسهم فهم يختفون خلفها من أجل الهبر والعبث اللذيذ! إنها محنة أيها الخلان، ولكن لأنها محنة شديدة فهي تبشر بالانفراج … ولكن حتى يأذن الله بهذا الانفراج، لا بد أن نتعامل مع ما هو كائن وليس مع ما ينبغي أن يكون، وعلينا أن نُسقط هؤلاء الذين يرفعون شعار الوحدة ليمارسوا أبشع أنواع التعذيب التي عرفها تاريخ البشر.
فالوحدة لن تقوم إلا باختيار الناس، والنهوض لن يجدي إلا بإرادتهم. أما حكم الأجهزة ورجال المكاتب ورجال العصابات فلن ينتج إلا كوارث ومصائب، ويصبح الاحتلال الأجنبي عندئذٍ أهون بكثير!
واعذرني أيها القارئ إذا كنت قد تفلسفت أو حاولت أن أبدو على هيئة المثقفين … فما أنا إلا واحد من عباد الله المسحوقين، أوقعني سوء الحظ في محنة ليس لها نظير. أنا الذي جربت الصياعة والضياع ومحنة السجنين الحربي والمدني والنفي في أعماق الصحراء. كل ذلك يهون أمام تجربة المنفى واللجوء عند أولاد العم والإخوة الأشقاء!
ولكن لأنه رُب ضارةٍ نافعة، فالحمد لله الذي لم يشأ أن يذهب بي إلى قبري، وأنا مُغمض العينين أهبل العقل والفؤاد، الحمد لله الذي هداني إلى اكتشاف الحقيقة قبل أن ينطوي العمر ونذهب جميعًا إلى لقاء الرحمن. وإذا كان هذا الكلام سيُغضِب كثيرين، فلا شكَّ أنه سيسعد كثيرين.
ولعلَّ الشاعر الكبير نزار قباني يذكر لقاءً بيني وبينه في مدينة أبوظبي، ولعلَّه يذكر نصيحته للعبد لله: اذهب بعيدًا عن الأرض العربية إذا كنت تُريد أن تكون نفسك لا بوقًا للآخرين! ربما لم أفهم معناها في تلك الأيام، ربما دفعني غروري إلى عدم الفهم. ولكن آه، كم تذكَّرت عمنا نزار قباني كلَّما انهالت الشباشب على أم رأسي، وكلَّما نزلت البصقات على عقلي! نعم، هذه نصيحتي لك وللآخرين، وهي نفسها نصيحة عم نزار قباني الكبير: إذا حكمت عليك الظروف، أيها الفنان أو المثقف أو السياسي، أن تغادر بلدك، فاذهب بعيدًا عن الأرض العربية قدر ما تستطيع. أما إذا كنت من هواة إنشاء شركات الكهرباء، أو تأسيس مطابع ودور نشر أو فتح فروع لميكانيكا العرب في مصر وفي غيرها من البلدان، وإذا كنت من أنصار العمل في الإنتاج التليفزيوني، وإنشاء استديوهات للتسجيل والتحليل، فاذهب إلى أي مكان تشاء، ولا بأس لأن تقول لمن يسألك من أين لك هذا؟ إنه حصيلة مدخراتك في البلد الذي كنت تقيم فيه.
أما عن تجربتي فلم يكن لديَّ مدخرات، ولم يكن مرتبي يسمح بأي مدخرات. كنت أتقاضى في بغداد مائتَي دينار عراقي، وكان مرتبي عند أحمد الجار الله الذي انقطع لظروف خارجة عن إرادتي وإرادة أحمد الجار الله منذ ١٩٧٦م وإلى ١٩٨۰م؛ أقول، كان مرتب السياسة الكويتية هو الذي يساعدني على الحياة وفي الحياة. والنقود التي خرجت بها من بغداد هي نتيجة بيع أثاث بيتي وسيارة هالة ابنتي، وكان صدام كريمًا فسمح بتحويلها بالدولار، رغم متاعب الحرب وظروف العراق … ولولا ذلك لخرجت مدينًا من العراق … ولذلك أتساءل أحيانًا كيف تمكنوا من ادخار كل هذه المبالغ التي أسسوا بها مطابع في لندن واستوديوهات في روما ومصالح هنا وهناك؟!
عفوًا إذا كنت قد صدعت رءوسكم بهذا اللغو الفارغ من الكلام، ولكن يشفع لي أن كل حرف كتبته في هذا الكتاب هو الصدق بعينه. لم أزوق شيئًا ولم أزيف أي شيء … ربما أخفيت أشياء، ولم يحن الوقت للكشف عنها بعد، وتعمدت ألا أنشر كل الغسيل القذر حتى لا أضرب فكرة العروبة نفسها في الصميم، لعل أملًا يكون هناك فيما هو قادم من الأجيال والأعوام والقرون.
وإنني أشعر الآن بأنني طردت البخار الذي كان محبوسًا في صدري، وبأنني انتقمت بما فيه الكفاية لسنوات الذل ومحاولات التقزيم. ولكن لأنه لا يصح إلا الصحيح؛ فالكاتب هو الذي ينتصر أخيرًا، حتى ولو قتلوه بالرصاص؛ لأن الكلمة الصادقة هي التي تمكث في الأرض أما شغل القرود وكلمات الرطانة من نوع المنجوري والحنجوري والمتدفق نحو الشفق الأعلى في سبيل الشعور بحالة الخصوصية، من أجل الشبحور والمشكور في المنحور، فهذه كلها مجرد أكاذيب، وأضاليل، ولا بد أن تذهب جُفاءً كغثاء السيل!