ليالي الرعب!
عشت أيامي في بيروت في رعب قاتل، كان التليفون يدق أحيانًا، ثم لا أسمع شيئًا، وأحيانًا كان ينبعث من التليفون صوت أشبه بالفحيح، وفي ظلام الليل كان باب الغرفة يدقه شخص ما دقاتٍ رتيبةً منتظمة وعندما أفتح الباب لا أجد أحدًا هناك.
وأقنعت نفسي بأنها مجرد أوهام وخيالات، وعشت الرعب وعايشته، ولم يكن هناك مفرٌّ من التعايش معه في كل الأحوال. لقد كنت أسكن في فندق ينزل فيه زعماء منظمة التحرير الفلسطينية، وكان الفندق محطَّ أنظار رجال المخابرات من كل جنس ومن كل ملة، ومع ذلك مضت الحياة بنا في بيروت هادئة وعادية، ولم يؤنس وحشتي إلا الصديق بكر الشرقاوي الذي لازمني كظلي في الفندق، وبنت بيروتية جدعة اسمها ثروت ولا داعي لبقية الاسم. ولقد أثبتت في المحنة أن بعض النساء أكثر رجولة من بعض الرجال.
وما دام الشيء بالشيء يذكر، فلا بد من ذكر الأيام التي قضيتها مع الملك محمود نصير، ومحمود نصير كان ملكًا غير متوج على بيروت، ولم ينازعه الملك إلا فريد شوقي وإن بقي الصولجان دائمًا في يد نصير. ومأساة محمود نصير تحتاج إلى معددة تلطم على وجهها ببرطوشة، وفنان صايع مثل زكريا الحجاوي ليؤلف ملحمة عن يتيم الدهر الذي عاش غريبًا في المنفى، ومات غريبًا في بلاده، ولم يتعرف أحد عليه وهو حبيس ثلاجة مستشفى أم المصريين في الجيزة.
وأصل الحكاية أن محمود نصير كان يعمل ممثلًا في فرقة فاطمة رشدي، وسافرت الفرقة في رحلة عربية ذات يوم من أيام عام ١٩٤٧م. وركب الجميع القطار من محطة القاهرة إلى محطة القدس، توجهوا إلى يافا وإلى حيفا، ومن هناك إلى بيروت، ومن بيروت إلى طرابلس وحلب، ومن حلب إلى اللاذقية فدمشق، ومن دمشق عادوا من جديد إلى بيروت، وعندما حان وقت الرحيل والعودة إلى القاهرة، كان طريق القطار قد أُغلق في وجوه المسافرين، وكانت حرب فلسطين قد نشبت وبعدها قامت دولة إسرائيل. وعادت الفرقة إلى القاهرة بطريق البحر.
ولكن محمود نصير لم يعد. بقي في بيروت. فقد أحب المدينة وأحب الناس وأحب نمط الحياة هناك.
وتزوج محمود نصير من نرجس شوقي، وهي مطربة عراقية قديمة لها أصول مصرية. وعاش معها آخر حلاوة وآخر انسجام. وعوضني الفنان محمود نصير عن أصدقائي الذين افتقدتهم في القاهرة، رأيت فيه خليطًا من ملامح زكريا الحجاوي وحنان حسن فؤاد، وطيبة الصديق الفلاح إبراهيم نافع. وبين هذا الثالوث: ثروت وبكر ومحمود نصير، عشت حياتي في بيروت.
وفجأة وصلت زوجتي إلى بيروت تحمل خطابًا من عثمان أحمد عثمان ما زلت أحتفظ به ضمن أوراقي، كان في الخطاب عرض بالعودة سريعًا إلى القاهرة قبل أن تتطور الأمور إلى الأسوأ. ولم أفهم ما هو الأسوأ الذي كان يقصده عثمان! وشرحت الأمر لزوجتي، فالعودة إلى القاهرة ستكون خسارة بالنسبة لي، ما دام هناك إصرار على أن أبتعد نهائيًّا عن الكتابة وسينتهي الأمر بي إلى حبسي على مقهى حسن عوف بالجيزة، ألعب الطاولة طول النهار وأتقاضى مرتبًا آخر الشهر من المقاولون العرب، وهو وضع لا أستطيع أن أعيشه ولا أتصور أن أجد نفسي فيه. أنا رجل عشت حياتي مع المطابع وقضيت حياتي صحفيًّا، وسأموت صحفيًّا، وسأُبعث يوم القيامة على لائحة الصحفيين.
وبعد محاولات ومحادثات طويلة وافقت الزوجة الأصيلة على رأي العبد لله، وركبت ذات صباح ورجعت إلى الأولاد الخمسة في القاهرة على أمل أن تلحق بي إذا استقرت الأمور خارج الديار، ولكن الأمور لسوء الحظ لم تستقر بالعبد لله إلا بعد ذلك بعام كامل. وشاءت الأقدار أن تستقر بي الأمور بعيدًا عن بيروت.
وكانت آخر ليلة للعبد لله مشحونة بالرعب والخوف؛ فقد عدت آخر الليل مع الصديق سيد الغضبان. وسيد الغضبان — للعلم — كان مذيعًا في إذاعة صوت العرب. ولكن التغيير الذي حدث في مصر بعد ثورة التصحيح، أطاح به بعيدًا عن الإذاعة، فاضطر إلى الاشتغال كسائق تاكسي بعض الوقت في القاهرة، ثم غادرها إلى بيروت. وأثبت سيد الغضبان هناك أن الكفاءات لا يمكن حصارها ولا يمكن وقف نموها؛ فسرعان ما ازدهرت أعماله وصار واحدًا من رجال الأعمال في بيروت.
المهم أننا عدنا إلى الفندق بعد سهرة طيبة فإذا الفندق والمنطقة كلها تسبح في الظلام وحول الفندق عشرات من حرس الثورة الفلسطينية يطوقون المكان كله بالسلاح. واضطررت إلى الهرب من الفندق، وبت ليلتي في بيت سيد الغضبان، وعدت إلى الفندق في الصباح وحملت حقائبي إلى المطار، لأبدأ خطوة جديدة في رحلة الضنى والشقاء والعذاب. ولم أحزن على شيء وأنا أغادر بيروت إلا حزني على فراق العم العجوز محمود نصير الذي سألته وهو مصرٌّ على ملازمتي حتى باب الطائرة: مارحتش مصر في السنين دي كلها ليه يا عم محمود؟ وردَّ في هدوء شديد: ولا حاجة، كسل وحياتك.
ولكن الكسلان أتيح له أن يذهب إلى القاهرة بعد أن اشتعلت بيروت بالنيران، وعاد يعمل ممثلًا كما كان في الأيام الخوالي. ورأيته بعد ذلك في لندن. وكان سعيدًا لأنه عاد إلى موطن الرأس بعد غيبة طويلة. وراح يحكي لي عن أعماله في مصر وسهراته وقعداته … وتركني في لندن وعاد إلى مصر على وعدٍ منه لأن يعود. ولكن عم محمود الطيب لم يهنأ بالعودة إلى القاهرة؛ فقد صرعته سيارة مسرعة في طريق الهرم بالجيزة، ورحل عن دنيانا العم محمود نصير ملك بيروت غير المتوَّج وأعظم من قام بدور ابن البلد قبل عبد الفتاح القصري. وبكيت محمود نصير كما بكيت زكريا الحجاوي.
وكأن الحياة قد تحالفت ضدي بخطف الأصدقاء! مات عبد الحليم حافظ وأنا في المنفى، ومات محمد علوان، ومات صلاح منصور، ومات الشيخ عبد الحميد قطامش، ومات غير هؤلاء كثيرون لحكمة لا يعلمها إلا الله، لكي أبقى غريبًا بين غرباء في بلد غريب!
وتذكرت صرخة العم زكريا الحجاوي في كتابه الأول: أقدارنا بيد السماء القاسية يا نهر البنفسج! لقد جف النهر من البنفسج، لم يعد في المجرى إلا أوشاب وأعشاب وطين وبقايا جثث وجيف تدور على وجه الماء، ورحلتي القادمة إلى طرابلس الغرب، و…
ومايجيش من الغرب شيء يسر القلب على رأي ستي، يرحمها الله. وفي الطائرة المتجهة بنا إلى طرابلس اكتشفت أن جاري في الطائرة هو الأستاذ طلال سلمان صاحب ورئيس تحرير «السفير»، مع أنه كان معي قبل السفر بساعات ولم يخبرني بهذا الأمر قط!
وأثناء تحليق الطائرة على البحر، مال طلال سلمان على أذني وهمس لي أنه قرر رفع مرتبي إلى الضعف، وقلت: يا سبحان الله! وسرحت في ملكوت الله، وتعجبت من تصاريف القدر؛ فالعبد لله حتى ساعة ركوب الطائرة كان يتقاضى راتبًا شهريًّا قدره ألف وخمسمائة ليرة لا تزيد. وهو مبلغ متواضع للغاية بالنسبة لكاتب عجوز كالعبد لله كان إلى عهد قريب رئيسًا لتحرير أنجح مجلة أسبوعية على مستوى الوطن العربي هي مجلة صباح الخير، ولكن هكذا المثل المصري الشعبي: من خرج من داره قل مقداره، وأضيف إلى المثل المصري: خصوصًا مَن خرج من داره قسرًا ولا يستطيع العودة إليها.
ورثيت لحال الفلسطينيين؛ فهم في مثل محنتي وإن كانت محنتهم أشد. وقررت في تلك اللحظة — وبالتحديد في تلك اللحظة — أن أكف عن الكتابة في جريدة «السفير»، وسرحت بأفكاري وعدت القهقرى إلى بيروت. وعندما أتذكَّر بيروت فلا بد أن أتذكر أمين الأعور، وأمين الأعور مناضل عربي قديم جرى عليه ما جرى لكل صاحب رأي في بلادنا، ولكن ظروف أمين الأعور كانت تختلف كثيرًا عن ظروف الآخرين. هو في الأصل من عائلة درزية كبيرة ولها نفوذ. وقد بدأ حياته كرئيس لبلدية قرنايل، وهي قرية على أعلى قمة في لبنان. ولقد سرت على أرضها يومًا ما، ولم أستطع أن أتبين موضع خطواتي لأن السحاب كان يلفنا تمامًا ويحجبنا عن الأنظار. ولكن أمين لم يستمر طويلًا في منصبه بالبلدية ولم يلبث أن هجرها وجاء إلى بيروت.
واشتغل بالصحافة والسياسة، وصار عضوًا في الحزب الشيوعي اللبناني، ثم عضوًا في اللجنة المركزية، ثم انقلب على الحزب الشيوعي وتحوَّل إلى ناصري شديد الناصرية، وكان صوته أعلى الأصوات التي وقفت إلى جوار عبد الناصر بعد الهزيمة. وبعد رحيل عبد الناصر آمن بثورة الفاتح وتوقع الخير على يد العقيد القذافي، وأصدر مجلة بيروت المساء وصار رئيسًا لتحريرها، وكان هدفه أن تصبح المجلة تعبيرًا حيًّا عن النظرية الثالثة في الفكر والثقافة. ولكن جاذبية أمين الأعور وسحره أنه ظل رئيسًا للبلدية في كل الأعمال التي تولاها في حياته … ولذلك أيضًا كانت مجلة بيروت المساء أقرب من المنشور الثوري إلى المجلة، وكان بينها وبين الصحافة جسور مقطوعة وخلافات مزمنة.
وعندما أبديت له رأيي في الجريدة أفهمني ببساطة أن مجلة بيروت المساء تختلف بالفعل عن كل المجلات التي على وجه البسيطة؛ لأنها التعبير الحي المجسم للنظرية الثالثة. وعرض عليَّ أن أهتم بكتابة عمل أدبي وأن يتكفل بكل نفقاتي في بيروت. والحق أقول: إني مدين لأمين الأعور بأشياء كثيرة، وخلال رحلة صياعتي في الوطن العربي سيكون أمين الأعور هو صاحب الفضل الأول، وسيكون أحمد الجار الله صاحب الفضل الثاني، وسيكون لشعب العراق الطيب صاحب التاريخ الباهر والأمجاد العظيمة الفضل الأخير. ولكن هذا سابق لأوانه، ولنتمهل حتى تكون الأحداث حسب تسلسلها الطبيعي وتواريخها المضبوطة.
تذكرت الأيام الأخيرة في بيروت؛ الرصاص الطائش الذي اخترق سماءها شرقًا وغربًا … ولكن رصاصة واحدة من تلك الرصاصات هزتني بعنف وجذبتني إلى الهم والتفكير؛ رصاصة طائشة انطلقت في الجنوب اللبناني واستقرت في قلب الزعيم معروف سعد. وصرخ الرجل وهو يلفظ أنفاسه: يخرب بيتكو. بدنا نهدي الأحوال عما تقوصونا! وكان موته سابقة خطيرة في جنوب لبنان؛ فالرصاص يتطاير كل يوم في سمائها، ولكن يصيب الزلمات دائمًا ولا يصيب الزعماء! وكان مقتل معروف سعد هو أول خروج على قواعد اللعبة، وكان ذلك إيذانًا بأن اللعبة في بيروت قد اختلفت، وأن عصرًا جديدًا سيشهده البلد الذي عاش حياته على لعبة التوازنات.
وقررت مغادرة بيروت، ولكن إلى أين؟! ليس هناك مكان على وجه التحديد، أصبحت مثل التائه، عليَّ أن أضرب في شعاب الأرض، ولكن بلا وجهة وبلا هدف، وأيضًا بلا متاع، وتذكرت موقفًا غريبًا حدث لي في الأيام الأخيرة في بيروت، فبعد أن بدأت أنشر مقالاتي في جريدة «السفير» بدأت محاولات السفارة المصرية بإقناعي بالكف عن الكتابة والعودة إلى القاهرة، وفجأة ووسط هذه المحاولات اتصل بي زميل صحفي قديم من القاهرة وقال لي إنه يريدني لأمر هام. وتوقعت الأمر الهام الذي كان يريدني من أجله، كذلك توقعه الذين كانوا معي لحظة اتصاله بي تليفونيًّا.
وكان معي وقتئذٍ، الأستاذ بهجت عثمان رسام الكاريكاتير الشهير والأستاذ حسين عبد الرازق رئيس تحرير جريدة الأهالي، وكانت توقعاتنا على أساس أن الصحفي إياه كان يعتبر نفسه من أبطال ثورة ١٥ مايو، وهو نفسه كتب في إحدى المناسبات أنه اشترك في ثورة ١٥ مايو بالسهر حتى الصباح في قهوة الحميدية مع مجموعة كبيرة من الأبطال.
المهم، جاء زميلنا إياه وعرض عليَّ أن ألتقي بالمستشار الصحفي بالسفارة المصرية، ويدعى الجمل، وقبلت اللقاء ورفضت المكان، وقلت: إذا كان لا بد من الاجتماع فليكن في مكان عام. وحددت مطعم البلدزدار على شاطئ الروشة. وبعد مشاورات ومناكفات اجتمعنا في النهاية، الجمل والزميل إياه وأنا. وقال المستشار الجمل وهو يؤكد على صداقته لي وإعجابه الشديد بالعبد لله وحرصه على مصلحته: إذا كنت تريد البقاء في لبنان فلا مانع، ولكن لماذا تكتب في «السفير»؟ وحكيت للمستشار الجمل قصتي مع الصحافة اللبنانية؛ كيف حاولت، وكيف رُفضت ولم يرحب أحد بالعمل معي إلا الأستاذ طلال سلمان، فقال الجمل وهو يبدي دهشة مصطنعة: إذن أنت لا تعارض في الكتابة في صحف نعتبرها صديقة لنا؟ قلت: بالطبع لا اعتراض لي على شيء من هذا النوع. فقال: إذن ما رأيك في الصياد؟ قلت: تاني! قال بحزم: نابليون بونابرت وافق وسننشر مقالاتك في الصياد، فقط أعطني مهلة أسبوع، وستحل جميع المشكلات، وانتظرت أسبوعين ثم اتصل بي المستشار الجمل من جديد، وقال: تستطيع أن تذهب وتعمل من الغد في جريدة اليوم، وسيكون مرتبك هناك خمسة آلاف ليرة في الشهر.
ولولا العيب وتمسكي بأخلاقي لقمت بحركة إسكندراني للأخ المستشار! ولذلك اكتفيت بالصراخ في سماعة التليفون وقلت له وأنا أكتم ثورة في أعماقي: أنا لست طالب عيش ولا طالب وظيفة. وأنا لن أكتب في جريدة اليوم حتى ولو كان المرتب المعروض مائة ألف ليرة. وسأكتب في «السفير» ما دمت في بيروت. ورجائي الوحيد أن تقطع هذا الحوار الآن. وسكت فترة قبل أن يقول: لقد سمعت أنك تلقيت دعوة لزيارة ليبيا! وقلت له: نعم، هذا صحيح. سألني: وهل ستذهب إليها؟ قلت: أعتقد أنني سأذهب عندما أشاء. قال: أنصحك بعدم الذهاب إلى ليبيا؛ لأنك إذا ذهبت تقطع الحبل. فقلت: لكن الحبل مقطوع من زمان؛ ولذلك لن أسمح لأحد مهما كان أن يحدد خطواتي القادمة. وانقطعت المكالمة بيني وبين المستشار بعد أن ظل صوته يلعلع على الناحية الأخرى من الخط بكلمات التحذير بعواقب الذهاب إلى ليبيا. لدرجة أنني في الصباح فتحت الخريطة لأتأكد أن ليبيا ليست مكان إسرائيل!
وعندما حلقت الطائرة بمحاذاة شاطئ الإسكندرية، ألقيت نظرة على البحر في محاولة من العبد لله لرؤية الأرض التي وراء البحر والتي حرموني من رؤيتها بفرمان همايوني من حاكم عانى الويلات مثلنا في حياته، ولكنه تصوَّر بعد أن وصل إلى السلطة أنه ظِلُّ الله في الأرض!
وخطر لي خاطر أفزعني: ماذا لو هبطت الطائرة الآن في الإسكندرية وألقت السلطات القبض على العبد لله؟ إن الأحداث التي تلي ذلك مباشرة أحداث تعسة وغاية في البشاعة، فيا ويل من يناهض السلطان في بلادنا! إنك ستقرأ اتهامه ولكنك لن تسمع دفاعه. وعندما يكون السلطان هو الخصم والحكم، فويل عندئذٍ للمهزوم في صراع السلطة. وزمان كان يدفع المهزوم حياته ثمنًا للهزيمة، واليوم يدفع حريته وسمعته أيضًا! فهو غالبًا لص ومختلس وتاجر في السوق السوداء، وهو دائمًا عديم الذمة والشرف وليس لديه ذرة واحدة من أخلاق القرية!
في آخر مرة دخلت فيها السجن أذاع المسئولون عن الأجهزة أنهم عثروا عندي في منزلي على أربعة ملايين جنيه، وأنني أمتلك أربع عمارات في المعادي وسبعة عشر فدانًا في الشرقية! صحيح أنني في الأصل من الشرقية، وهرب أجدادي من المملوك الملتزم الذي كان يضرب الفلاحين على أقدامهم بالعصا الطويلة، ويحرق جلودهم بالمسامير المحمية، واستوطنوا بلادًا بعيدة، وانقطعت الصلة بين الفرع والأصل؛ ولكني لا أعتقد أن أحدًا من عائلتي في الشرقية أو المنوفية أو الجيزة يملك سبعة عشر فدانًا، كما أنني لا أملك من أرض مصر إلا تسعة قراريط وبضعة أسهم اشتريتها في عام ١٩٦٤م، بخمسمائة جنيه مصري. وبالرغم من ذلك وجدت الأجهزة من بين السذج من صدَّق روايتها وراح يضيف إليها من خياله الشيء الكثير!
عدت من جديد بخيالي إلى بيروت، وتذكرت نماذج أخرى من الأصدقاء، جمعتنا المهنة في البداية، ثم فرقت بيننا السبل كلٌّ في اتجاه، أحد هؤلاء الأصدقاء اشتغل في الصحافة عشرة أعوام، كتب خلالها خمس مقالات لا غير، ولكنه تقاضى أجرًا عليها مرتبات ومكافآت وبدل سفر وانتقالات ربما عشرة أضعاف ما تقاضاه طه حسين في حياته، وهو شكلًا ورسمًا يقطع بأنه من سلالة مماليك عظام أتوا من الأناضول أو القوقاز وحكموا مصر يومًا ما، وهو يعشق الكلام ويجيده في سهرات الأنس وحفلات العشاء.
ولقد شاءت الأقدار لهذا المملوك القديم أن يقيم في بيروت، وأن تصبح له مكانة خاصة هناك، وكان يقضي سهراته والمسدس على المائدة التي بجواره، عندما كان يتجول ليلًا في شوارع بيروت كانت يده لا تفارق جيبه، وأصابعه على الزناد، ولكنه بالرغم من ذلك لم يطلق رصاصة واحدة في حياته، ولم يرهق نفسه في اكتشاف طريقة استعمال المسدس! ولكن الجلالة كانت تأخذه أحيانًا فيتحدث عن قتلاه الذين صرعهم برصاصه، وأحيانًا كان يشطح بعيدًا، فيردد بأسف حقيقي أنا بقالي كتير مقتلتش!
وذات مساء، وكنا قد انتهينا من سهرة طويلة، خرجت معه، وانتظرنا في الشارع طويلًا، حتى توقفت لنا سيارة أجرة وافق سائقها أن ينقلنا إلى الجهة التي نقصدها، وعندما فتحنا الباب الخلفي للسيارة اكتشفنا وجود راكب فيها، فقد كانت السيارة تعمل بنظام السرفيس الذي يسمح للسيارة أن تنقل عدة أفراد إلى عدة جهات في وقت واحد.
كان الرجل الجالس في المقعد الخلفي عجوزًا جاوز الستين بزمن طويل، كان يبدو عليه الإرهاق والتعب بالإضافة إلى أنه كان مريضًا بأمراض الشيخوخة. لقد كانت يده ترتعش ويبدو من حركة شدقيه أن فمه بلا أسنان. وفجأةً صرخ صديقي الأناضولي وكأنه واقف على خط النار في الجليل الأعلى، وشهر مسدسه في وجه الرجل الغلبان وأمره بالتسليم فورًا!
ولم يدرك الرجل ما هو المقصود بالتسليم؟ إذا كان الخضوع والاستسلام فهو على هذه الحالة منذ ولدته أمه، وإذا كان التسليم هو السلام فيده مرتعشة ولا تقوى على المصافحة خصوصًا في هذا الزمهرير!
وابتسم الرجل في سذاجة، وربما ظن أننا بعض الشبان العابثين، وأننا نمارس لعبة جديدة، ولكن أمام صرخات زميلي المتلاحقة بمغادرة السيارة ألقى الرجل بنفسه في الشارع دون مناقشة وكأنه حمد الله أنه نجا من هذا الشر المستطير!
ونحن في السيارة إلى الفندق الذي نزل فيه، سألت صديقي عن سر هذا التصرف الذي لم نكن في حاجة إليه قط، فاتهمني على الفور بأنني أهبل وأنني لا أعرف بيروت، وأن هذا الرجل ربما كان جاسوسًا أو فدائيًّا يعمل لحساب الصهيونية والاستعمار. وأدركت السر في وكستنا في ساحات القتال وانتصاراتنا في استديوهات الإذاعة! لو كان هذا الرجل جاسوسًا حقيقيًّا أو إرهابيا حقيقيًّا، لما جرؤ صديقي على رفع المسدس في وجهه، ولكن منظر الرجل المطحون هو الذي شجع صديقي على سحب المسدس والصراخ ولا عنترة العبسي في معارك اليمن!
وشدتني من أفكاري حركة الطائرة وهي تستعد للهبوط في مطار طرابلس. وبنظرة سطحية عابرة على المطار اكتشفت أنه هو نفس المطار القديم لم يتغير، فقد سبق لي الذهاب إلى ليبيا مرتين؛ مرة في عام ١٩٥٦م، وقبل العدوان على مصر. وكنت في طريقي إلى تونس للقاء الرئيس بورقيبة بعد أن أصبح رئيسًا للجمهورية في بلاده، وفكرت في الذهاب إلى طرابلس في طريقي إلى تونس، وتقدمت بطلب إلى سفارة ليبيا بالقاهرة أطلب السماح لي بالتوقف في طرابلس لمدة ٢٤ ساعة، ولكن السفارة رفضت طلبي بحزم ودون إبداء للأسباب!
وبالرغم من ذلك، عندما هبطت بي الطائرة المصرية في مطار طرابلس، طلبت من جندي الجوازات السماح لي برؤية طرابلس ولو ليوم واحد، وكان الجندي الليبي عربيًّا أصيلًا وكريمًا، فمنحني تأشيرة لمدة أسبوع، ونزلت في فندق المهاري أعظم فنادق طرابلس في ذلك الوقت، هو في الشكل والحجم والمستوى ليس أفضل من أي فندق من فنادق العتبة الخضراء. عشت في طرابلس أسبوعًا تمكنت خلاله من دخول قاعدة هويلس الأمريكية ونشرت عنها تحقيقًا صحفيًّا بالصور في جريدة الجمهورية.
وفي عام ١٩٧۰ سافرت إلى ليبيا للمرة الثانية في صحبة الرئيس عبد الناصر، ونزلت في فندق واحد مع الأستاذ الكبير أحمد بهاء الدين. وذهبنا معًا لزيارة العقيد القذافي في المستشفى لنجد في انتظارنا مفاجأة كبيرة!