والمفكرة لا تزال في جيبي
عندما ذهبنا — الأستاذ بهاء وأنا — لزيارة العقيد القذافي، في المستشفى العام بطرابلس، اكتفينا بتسجيل أسمائنا في سجل التشريفات مع كلمة رقيقة تمنينا فيها الشفاء العاجل للعقيد معمر القذافي، نزلنا الدرج الكبير متجهين إلى باب المستشفى الخارجي.
ولكننا فوجئنا باثنين من أعضاء مجلس قيادة الثورة: بشير هوادي ومحمد المقريف يدعواننا إلى لقاء العقيد على الفور وترددت قليلًا في قبول الدعوة، والسبب أنني كنت وعدت السفير المصري فتحي الديب بعدم زيارة العقيد القذافي في المستشفى!
وأصل الحكاية أننا كنا على مائدة عشاء بدعوة من السفير المصري فتحي الديب في الليلة السابقة، وعندما أبلغناه بنيَّتنا في زيارة العقيد في المستشفى، قال فتحي الديب على الفور: أرجوك لا تذهب إلى العقيد القذافي في المستشفى. وصمت قليلًا قبل أن يضيف: وهذا رجاء من العقيد القذافي نفسه. وربما خاف السفير المصري أن أسيء تفسير الأمر أو أسيء فهمه. فقال ضاحكًا: لقد طلب مني أن أرجوك ألا تذهب إليه في المستشفى، ولكنه حريص على أن يراك في بيته بعد أن يترك المستشفى ويعود إليه. ولقد طلب مني أن أرجوك في عدم مغادرة ليبيا حتى يتم شفاؤه ويعود إلى المنزل.
واستغرق فتحي الديب في ضحكة عميقة ثم قال إنه يخشى لو رآك أن تسوء حالته؛ فالجرح لم يلتئم بعد. وعندما استفسرت من السفير فتحي الديب عن العلاقة بين زيارتي والجرح الذي لم يلتئم في بطن العقيد، قال إنه لم ينسَ سطور كتابك الذي نشرته على حلقات في مجلة صباح الخير الشيخ لعبوط يتلعبط، وقال العقيد إنه كلما تذكَّر محمود السعدني ضحك بشدة. وهو يخشى أن يستغرق في الضحك إذا رآني فينفتح الجرح الذي لم يلتئم بعد.
ووعدت السفير فتحي الديب ونحن نغادر بيته بعد العشاء بعدم زيارة العقيد في المستشفى. وبدا من الارتياح الذي ظهر على ملامح وجه الديب أنه كان جادًّا في مطلبه. ولذلك حاولنا الاعتذار عن رؤية العقيد دون جدوى، وصحبنا محمد المقريف وشريف هوادي، وفتح المقريف الباب ودخل دون استئذان. ودعانا إلى الدخول.
كانت حجرة العقيد القذافي في المستشفى عادية للغاية، أرضية الغرفة عارية تمامًا والجدران أيضًا، وسرير العقيد يتوسط الحجرة، سرير صغير وعادي أشبه بسرير طالب في مدرسة داخلية، وبجانب السرير مائدة صغيرة وضع عليها بعض الأدوية وعلبة مناديل ورق وزجاجة مياه غازية. وكان العقيد يرتدي بيجامة مقلمة، وقدماه عاريتان ورأسه أيضًا، وفي يده جهاز راديو ترانزستور صغير، ولم يكن بالحجرة أحد سواه.
وعندما رآنا أمسك ببطنه وراح يضحك بلا سبب، أو لعله ضحك للسبب الذي ذكره السفير فتحي الديب، وجلسنا مع العقيد لمدة ساعة ونصف الساعة، وكنا بين الفترة والأخرى نحاول الاستئذان والانصراف ولكنه كان في كل مرة يصر على أن نبقى معه، وبعد أن تحدَّث معي فترة عن الشيخ لعبوط وعن مذكرات الولد الشقي وعن السعلوكي في بلاد الأفريكي، استدار نحو الأستاذ بهاء وقال: لقد سببت لنا مقالتك في المصور مشاكل كثيرة. وأبدى بهاء دهشته لأن مقاله لا يحتمل هذا التفسير الذي ذهب إليه بعض الصحفيين الليبيين وحملوا حملة شعواء على بهاء بسببه. وقال العقيد: لكن أعداء الثورة يصطادون في الماء العكر وهم سيفسرون الكلمات حسب أهوائهم ووفق مصالحهم. وقال بهاء للعقيد. ولكن ألا ترى سيادتك أن الإجراء الذي اتخذته مع هؤلاء الصحفيين كان عنيفًا، مع أن الموضوع كله كان يمكن اعتباره زوبعة في فنجان؟!
وبعد أن شرح العقيد وجهة نظره في الموضوع نظر نحوي وقال: سأطلب منك طلبًا بسيطًا وأرجو أن تستجيب. قلت: الأمر يتوقف على الطلب نفسه يا سيادة العقيد. وقال العقيد: إنه طلب بسيط، واعتبرني من قرائك، فأنا أريد أن تكتب لنا رواية في حلقات على طريقة الشيخ لعبوط!
صمت العقيد القذافي فترة نظر خلالها عدة مرت إلى بشير هوادي، وقال: سأعطيك المادة التي تصلح لهذه الحلقات. وأضاف: لقد عثرت لجان الجرد في مكتبة الملك السنوسي على مفكرته الشخصية التي كان يدون بها مذكراته يومًا بيوم. وعندما تقرأ هذه المذكرات ستكتشف أن الشيخ لعبوط هو أرسطو بالنسبة للملك السنوسي. وستجد في هذه المذكرات مجال إضحاك أكثر مما وجدت في حياة الشيخ لعبوط وحياة غيره من لعابيط هذا الزمان. وقال لبشير هوادي: اذهب مع السعدني وافتح الخزانة وأعطه المفكرة. ونظر إليَّ وقال: لا تترك بشير حتى تصبح المفكرة في حوزتك.
وكان هذا إيذانًا بانتهاء المقابلة التي استمرت أكثر من تسعين دقيقة، قطعها الحرس ثلاث مرات ليستأذنوا العقيد في استقبال سفير إحدى الدول العربية، وفي كل مرة كان العقيد يرسم على وجهه تعبيرًا يجبر الحارس على التراجع وإغلاق الباب. وعندما خرجنا من غرفة العقيد كان السفير لا يزال يجلس في غرفة الحرس ينتظر الإذن له بالدخول.
وعندما تصفحت مفكرة الملك السنوسي ضحكت بالفعل، ولكنه كان — على رأي المتنبي — ضحكًا كالبكاء. أيُّ عيشة غلبٍ كان يعيشها الملك السنوسي في ليبيا! وعندما تسمع كلمة ملك قد يشرد ذهنك إلى حياة الملوك المترفة التي كان يعيشها ملوك أسرة محمد علي في مصر، وقد يذهب خيالك بعيدًا بذاكرتك إلى ليالي بغداد أيام خلفاء بني العباس.
ولكن الحقيقة — من خلال هذه المذكرات — كان السنوسي يعيش عيشة موظف حكومي درجة ثالثة في القاهرة. ولم يكن عيبه هو الإسراف أو الترف، ولكن عيبه هو ضعفه الشديد كحاكم. فلم يكن يحكم أبعد من حجرته في القصر. كانت بني غازي في يد الإنجليز، وكانت طرابلس في قبضة الأمريكان، وكانت فزان في براثن الفرنسيين، وكان القصر الملكي في قبضة زوجته، وكانت حجرته هي المكان الوحيد الذي يستطيع أن يأمر فيه وأن يحكم في مساحتها على هواه.
كان حرصه الشديد في مذكراته على العلف الذي يقدَّم للخيول. وأحيانًا كان يأمر بصرف عشرة دنانير لبعض الأصدقاء وبعض خاصته المقربين. وفي إحدى الصفحات طلب إلى ناظر الخاصة إحضار ثلاثة رءوس ضأن من مزارعه لإحياء ليالي العيد، ثلاثة رءوس ضأن ثمنها في تلك الأيام عشرون جنيهًا لا تزيد!
الأغرب من هذا أن المفكرة هدية للملك من الشمولي، وهو صاحب مكتبة في شارع محمد علي بالقاهرة، ويطبع كل عام مفكرات رخيصة يطرحها في الأسواق لعامة الناس، ولم تكن مفكرة السنوسي إلا واحدة من هذه المفكرات، وكانت تحمل في صفحتها الأولى المطبوعة عناوين المحطات الرئيسية لترام الجيزة والمدبح والسكاكيني والعباسية، وأرقام تليفونات إسعاف ومطافئ ونجدة القاهرة. والأغرب من ذلك، أنه كتب في أولى صفحاتها، وتحمل تاريخ أول يناير ١٩٦٩م: اللهم نجِّنا من كل شر وجنبنا غدر الزمان، آمين! وبعد ثمانية أشهر من هذا التاريخ وفي يوم الفاتح من سبتمبر ١٩٦٩م لم تشفع له دعواته وقضى الزمان على الملك السنوسي أن يبقى خارج أرضه غريبًا حيًّا وميتًا. وقد دُفن السنوسي في القاهرة، و… المفكرة لا تزال في جيبي.
•••
آه من الولد الشقي! يموت ولا يتعلم، ويخرج من نقرة ليقع في دحديرة ولا يستفيد، كأنني المثل الحي الذي يثبت أن الإنسان أصله حمار، وأحيانًا كثيرة يخُيل إليَّ أنني مثل بغل أسترالي عنيد، كلما جذبوه إلى الخلف بعيدًا عن المهالك اندفع من جديد إلى خط النار ليغرق في الهموم والمشاكل.
وما زلت أتذكَّر تلك اللحظة التي هبطت فيها الطائرة أرض مطار طرابلس. كانت تلك اللحظة هي أول خطوة في رحلة الأسى والضياع. كان الوقت مساء، والشمس غطست كلها في مياه البحر تاركة ذيولها في الأفق تعكس نورًا أشبه بحريق يشتعل في مكان بعيد، وكانت الدنيا بين الشتاء والربيع، ويبدو أن الشتاء عز عليه أن ينسحب قبل أن يبدد آخر خيط من جهده الذي استمده من صحوة الموت؛ فالريح كانت تعصف، والأمطار كانت تهطل بغزارة، والبرق يأتي من ناحية الصحراء، يضيف إلى الجو الكتيب لونًا من ألوان الرهبة والفزع. وكأن الطيار أراد أن يشارك الطبيعة جنونها فألقى بالطائرة على أرض المطار كأنها حجر ألقاه السيل من علٍ، على رأي عمنا امرئ القيس.
في هذا الجو العاصف غادرت الطائرة مع الأستاذ طلال سلمان لأجد في انتظاري — ولا أقول: في انتظارنا — شابًّا ليبيًّا من المقربين للعقيد هو الأستاذ إبراهيم البشاري، وكان يشغل وقتها منصب مدير إذاعة ليبيا قبل أن تتحول إلى جماهيرية بعد ذلك بأعوام.
والحق أقول: إن إبراهيم البشاري شاب يمتلئ حماسةً وإيمانًا بالعروبة، وبدا من نظراته لرفيقي في السفر أنه ليس مرتاحًا لوجوده. وبعد أن رحب بي اصطحبني معه إلى فندق الشاطئ، وهو فندق أشبه بمطارات الدول النفطية، فيه أبهة فخمة وخدمة رديئة، وفيه زحام ولكن نادرًا ما تدخل الخزينة نقود؛ فهو فندق الدولة وغرفه معدة لاستقبال المكافحين والمناضلين العرب الذين كثر عددهم في السبعينيات فأصبحوا أكثر من الهم على القلب، ولا تخطئهم العين في ردهات الفنادق الكبرى من طنجة إلى صنعاء.
وودعت إبراهيم البشاري عند باب الحجرة وقال: سنلتقي فيما بعد. أعدت ترتيب ما في حقيبتي من ملابس وتهيأت لفترة راحة بعد العذاب الذي لقيته في الطائرة، ولكن لم أهنأ طويلًا؛ فقد سمعت طرقًا على الباب، وكان الطارق هو طلال سلمان ومعه حقائبه. وقال طلال وهو يعتذر: لم أجد حجزًا لي في الفندق، فهل أستطيع أن أقضي الليلة هنا؟ وأجبته: مرحبًا، تستطيع أن تقضي الليلة هنا وكل ليلة. ولم تلبث الحجرة التي أقيم فيها أنا وطلال إلا وقتًا قليلًا حتى ضاقت بالزائرين، بعضهم من أهل طرابلس جاء يرحب بنا، وبعضهم من قدامى المكافحين بالفندق جاءوا يتفرجون على المكافح الجديد، ويلتمسون عنده أخبارًا جديدة.
من بين هؤلاء المكافحين واحد هزَّني بعنف، وهو تونسي كان عضوًا في الحزب الحر الدستوري، وكان أحد الكوادر الحزبية التي وضعها بورقيبة على عينه وشمِله باهتمامه على نحو خاص، كان اسمه عبد الله، وكان سمينًا بعض الشيء، ومتكلمًا يجيد صنعة الكلام ويهواها على نحو ما. وكان يمكن للعبد لله أن يصبح وزيرًا كغيره من الذين استُوزروا بعد الاستقلال. وكان يمكن أن يصبح ثريًّا يشار إليه بالشيكات كالغالبية العظمى من المكافحين الذين زاملوه في فترة الكفاح قبل الاستقلال. ولكنه لحظِّه العاثر انضم لصالح بن يوسف وجماعته لحظة الخلاف الذي نشب على الساحة التونسية بعد أن استولى الثوار على مقاليد السلطة في البلاد. ولأن عبد الله انضم إلى الجانب الخاسر فقد خسر كل شيء، حتى تونس نفسها، واضطر إلى الهروب من البلاد تحت جنح الظلام، وتحول الثائر القديم إلى جاسوس وخائن ومطلوب للمقصلة عند حكام اليوم زملاء النضال في الأمس القريب.
وساح عبد الله في بلاد الله، ومنذ عام ١٩٥٧م لا يعرف شيئًا عما أصاب أسرته الصغيرة، ولكنه كان يبكي أحيانًا كلما سمع عن وفاة أحد أفراد عائلته، وغالبًا كان يسمع بالنبأ بعد حدوث الوفاة بسنوات. ولكن مأساة عبد الله ليست في هذه الأحداث التي سردتها؛ فهي قصة كل مناضل هارب من بلاده شاء له حظه العاثر أن يخسر المعركة على طول الخط.
ولكن شيئًا آخر هزني في مأساة عبد الله؛ فقد كان معه شاب في الخامسة عشرة من عمره وفي سن ابني الوحيد أكرم، وله هيئته وحجمه، وبعد أن قدمه إلينا راح يحكي لنا قصته مع ابنه الوحيد، فقد تركه رضيعًا لحظة خروجه هاربًا من تونس ولم تقع عينه عليه بعد ذلك، غير أن أحد الناس الطيبين تطوع في عام ١٩٦٢م وأرسل إليه صورة ابنه ولم يكن قد جاوز الخامسة من عمره بعد، وأصبحت هذه الصورة هي الصلة التي تربطه بابنه وبعائلته وبتونس كلها، وكان ينظر إليها كلما أحس بالحنين أو استبدت به الغربة، حتى بهتت الصورة وضاعت معالمها على مدى ستة عشر عامًا ظل عبد الله ينتقل مع تيار الثورة العربية إلى هنا وهناك.
وفي البداية كانت الأحوال قد استقرت به في مصر في زمن عبد الناصر، ولكن بعد رحيله جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن. فغادر مصر إلى اليمن الجنوبي، ومن اليمن الجنوبي إلى دمشق، ومن دمشق إلى بيروت، ثم شد الرحال أخيرًا إلى طرابلس، وقرر أن يقيم فيها على الأقل ليتسنى له أن يشم ريح تونس، وحدودها لا تبعد عن طرابلس أكثر من ساعة.
ولكنه بعد انقضاء عدة أشهر عليه في طرابلس وبينما كان مستلقيًا على مقعده الذي اعتاد الجلوس عليه كل أمسية في بهو فندق الشاطئ، وكان لحظتها مغمض العينين سارحًا في أحكام الله سابحًا في تصاريف القدر، عندما استيقظ فجأة على صوت يناديه، ونظر إلى صاحب الصوت فإذا به شاب صغير ظنه في البداية أحد عمال الفندق، وكان الغلام الواقف أمامه يسأله هل أنت فلان؟ وبالرغم من أن عبد الله أجاب بالإيجاب، إلا أن الغلام راح يكرر السؤال أكثر من مرة، وعندما تأكد أنه هو الشخص الذي يقصده، أجهش الفتى بالبكاء؛ فقد كان ابنه وكان الجالس أمامه هو أباه.
لا أعتقد أن مؤلفي السينما ومؤلفي المسرح قد توصلوا إلى موقف درامي من هذا النوع؛ أول لقاء بين رجل وابنه، مع أن الأول في الخمسين من العمر والآخر في السادسة عشرة، فرَّقت بينهما الظروف السياسية التعسة وخلافات السلطة والرئاسة التي قضت على سلطان العرب وعلى وجودهم أيضًا في عديد من الأماكن هنا وهناك.
وسرحت بعيدًا عن الحاضرين، وتصورت أني سألقى مصير عبد الله وأن عيني لن تقع على أكرم ابني مرة أخرى. فعبد الله لحظة افترق عن ولده كان في الخامسة والثلاثين، بينما العبد لله في السابعة والأربعين، وصحيح أن الأعمار بيد الله، ولكن من يدري ماذا يخبئ القدر، وله أحيانًا تصاريف تفوق خيال كل الشعراء والمؤلفين!
وانتزعني من أفكاري رنين تليفون متواصل ظل يصرخ بلا انقطاع، كان موظف الاستقبال في الفندق على الناحية الأخرى من الخط، ورجاني أن أهبط لأمرٍ هام، وعندما نزلت وجدت في انتظاري ثلاثة شبان أشداء يبدو من شكلهم ومن هيئتهم أنهم من أبناء المعسكرات، وبعد أن حيَّاني أكبرهم همس في أذني: الأخ العقيد ينتظرك الآن وستذهب معنا. قلت: الآن في هذا الجو؟! ووقفت مترددًا لحظات خُيِّل إليَّ أنهم أعدائي، وأنهم ربما جاءوا لاختطافي؛ خصوصًا أن تونس على بعد ساعة من الفندق، وهممت بأن أسأل عن هويتهم، ولكني امتنعت في آخر لحظة، واهتديت إلى حل آخر، فقلت لهم: إن الأستاذ طلال سلمان معي في الحجرة وهو بالطبع سيذهب معي، فأرجوكم الانتظار حتى أستدعيه، ولكن كبيرهم رد بشكل قاطع وبحسم شديد: العقيد يريدك أنت وحدك ولا يريد أحدًا سواك. وستذهب معنا الآن على الفور.
وألقيت نظرة على موظف الاستقبال؛ نظرة تحمل طلبًا للإنقاذ، ولكن وقفته المؤدبة وقامته التي تقوست أمام الثلاثة أدخلت الطمأنينة إلى قلبي؛ فلا بد أنه يعرفهم ويعرف مدى السلطان الواسع الذي يتمتعون به. وتحركت معهم إلى الخارج كأسير يبدأ رحلة المجهول دون أن يدري، إلى أين؟
كانت السيارة تنهب بنا الطريق بينما العاصفة تزأر في الخارج، والمطر يخفي معالم الطريق عن أعين السائق، بينما بدت شوارع طرابلس كأنها بقايا مدينة ميتة، ولم يقع بصري على أحد يتحرك خارج السيارة رغم طول الرحلة، إلا عندما توقفت السيارة أمام حاجز أمني، وتحرك شبح يُشهر مدفعًا رشاشًا. كان جندي الحراسة يرتدي بالطو يقيه من المطر، ويخفي وجهه بلثام، ولا يبدو منه إلا عيناه، ولكنه سرعان ما تراجع عندما وقع بصره على الرجل الذي يجلس بجوار السائق وأدى تحية عسكرية وسمح للسيارة بالمرور!
واكتشفت عندما اجتزنا البوابة أننا في ثكنة عسكرية، وعندما سألت رفاق السيارة هل العقيد يقيم هنا؟ لزم الجميع الصمت، بينما كانت السيارة تتوقف أمام مبنى قديم على الطراز الإيطالي، ولم يكن هناك أحد أمام المبنى إلا ضابطًا برتبة نقيب يعلق مسدسًا كبيرًا في وسطه، قدَّم نفسه: علي مفتاح ثم تقدمني وصعد السلالم إلى الشرفة، واكتشفت وأنا أصعد الدرج خلف النقيب علي أن السيارة التي جاءت بي قد تحركت وغابت داخل المعسكر.
ودخلنا مكتبًا عاريًا تمامًا إلا من مكتب ومقعد واحد، ونظرت حولي أبحث عن مقعد أجلس عليه، ولكن الضابط علي أشار عليَّ بالدخول من باب جانبي، وخُيل إليَّ أني سأدخل في عدة مراحل يفرضها البروتوكول على الذين تتيح لهم الظروف فرصة مقابلة الحكام والولاة، وخُيل إليَّ أن النقيب علي هو مجرد حارس مهمته استقبال الضيوف عند الباب، وأن هناك جيشًا من السكرتارية ورجال التشريفات؛ ولذلك لم أهتم بإطفاء سيجارتي عند النقيب علي، وكنت قد أشعلتها وأنا في السيارة لأستعين بها على مواجهة البرد، ودخلت من الباب الذي أشار إليه النقيب علي والسيجارة تستقر بين شفتيَّ وأنا أفرك في يدي.
وما إن نظرت داخل الباب حتى اكتشفت أني داخل قاعة فسيحة ليس بها إلا مقعدان في ركن بعيد، بينما وقف رجل في ثياب عسكرية وبلا غطاء رأس على مقربة من المقعدين، وما إن وقع بصري عليه حتى انتزعت السيجارة من بين شفتيَّ؛ فقد كان العقيد نفسه هو الذي يقف في نهاية القاعة، وحاولت الاعتذار بدخولي والسيجارة بين شفتيَّ، ولكنه لم يترك لي فرصة للكلام؛ استغرق في الضحك أولًا ثم عانقني بحرارة، ودعاني للجلوس، فاستأذنت منه ليسمح لي بالخروج لأطفئ السيجارة في مكتب النقيب علي؛ فلم يكن في القاعة التي التقينا بها شيء يصلح لهذا الغرض، ولكنه أشار عليَّ بمواصلة التدخين، فقلت له: يا سيادة العقيد، ولكني لا أدخن في حضرة رؤساء الدول. فقال: ما عليك إننا الآن نجتمع كأصدقاء، وأخفيت السيجارة في راحة يدي وأطبقت عليها بأصابعي وجلسنا متقابلين.
وبدأ العقيد الحديث، سألني: لماذا لم تحضر إلى ليبيا بعد خروجك من مصر مباشرة؟ وأجبته أنني خرجت من مصر في الواقع لعلاج ابنتي هالة ولم يكن في نيتي أن أغادر مصر، ولكنهم أجبروني على ذلك؛ فقد علمت وأنا في لندن أنني لن أعود إلى الصحافة، وأن هناك إصرارًا على أن أبقى موظفًا في المقاولون العرب؛ ولذلك قررت البقاء في الخارج، وأنني جئت إلى ليبيا بعد أن تلقيت دعوة من القيادة السياسية، ثم أضفت أن الأشياء مرهونة بأوقاتها، وعلى كل حال، ها أنا ذا في ليبيا أخيرًا.
وقال العقيد: وكيف رأيت ليبيا الآن؟ وضحكت وأنا أقول: لم أر شيئًا إلا العاصفة والأمطار. وراح العقيد يحكي تفاصيل العلاقة بينه وبين السادات، وقال: لقد توسطت لك عنده، قلت للسادات عندما التقيت به عقب سجنك: إن وجود السعدني في المؤامرة ليس أكثر من نكتة، ولكن السادات ردَّ عليَّ قائلًا: إن السعدني سليط اللسان، وقد سبني يا معمر وسب بيتي، وأذاع نكتًا كثيرة حولي كلها نكت جارحة، وأنا لا أحقد عليه، ولكني غضبان، وسأقرصه من أذنه فقط.
وقلت للعقيد: لقد سمعت بنبأ هذه الوساطة وأنا في السجن. نقل إليَّ الخبر الأستاذ مصطفى أمين نقلًا عن الأستاذ محمد حسنين هيكل عندما زاره في سجن طرة، وأرسل إلى الأستاذ مصطفى أمين في سجن القناطر هدية ورسالة مع فريق كرة القدم بسجن طرة الذي جاء إلى القناطر ليشترك في مباراة مع فريق سجن القناطر، وكانت الهدية عبارة عن شيكولاتة وسجاير كنت ورسالة تقول: محمود لا تقلق، سيفرج عنك قريبًا، فقد توسط لك العقيد القذافي عند الرئيس السادات، كما روى لي الأستاذ هيكل عندما زارني في السجن.
ولقد عشت أيامًا في السجن بعد هذه الرسالة متصورًا أن الإفراج بات وشيكًا، ولكن لم يفرج عني إلا بعد قضاء مدة العقوبة بأربع وعشرين ساعة قضيتها في مكتب الرائد محمد شرشر بمباحث أمن الدولة، ولازمني خلالها شقيقي الفنان صلاح السعدني وصهري الأديب عبد الرحمن شوقي وابني الوحيد أكرم، ولم يفرج عني إلا في الساعة الخامسة صباحًا، عندما تلقى الضابط أمرًا بذلك من مجهول عبر التليفون.
قال العقيد وهو يضحك: هل تعلم؟ لقد فكرت في اختطافك من السجن، قلت للمخابرات الليبية أحضروا السعدني إلى هنا ولو في شوال، ولكنهم قالوا لي: قد انقضى عام عليه في السجن، ولم يبقَ عليه إلا عام واحد، قلت: إذن اتركوه ليقضي هذا العام، ثم بعد ذلك نتدبر الأمر. وضحكت وأنا أقول للعقيد القذافي: الحمد لله أنكم صرفتم النظر عن موضوع الشوال، وإلا كنت لقيت حتفي مخنوقًا داخله.
ضحك العقيد القذافي، ثم مرت علينا فترة من الصمت، رفع رأسه خلالها وحدق في سقف القاعة، وتبدلت ملامح وجهه الوسيم، واكتست لونًا من ألوان الحدَّة والصرامة، وخُيل إليَّ أنه غاب عني وعن القاعة، وأنه حلَّق في آفاق أخرى بعيدة لا يعلم مداها إلا الله. وقطعت عليه سرحانه البعيد، وقلت مازحًا: إن هناك اختراعًا عظيمًا اكتشفته البشرية وأرجو أن تكونوا قد حصلتم عليه … وقطع العقيد سرحته ونظر إلى منتبهًا، وقال: أي اختراع تقصد؟ وأضفت: اختراع اسمه الشاي، وهو مفيد جدًّا في أيام الشتاء وفي مواجهة البرد.
وضحك العقيد ضحكة صافية وعميقة وقال: إنني أعيش هنا كما ترى يا محمود، ولكن على أية حال سأحاول، فأنا أيضًا أريد كأسًا من الشاي. وقام العقيد بنفسه وخرج من القاعة إلى مكتب النقيب علي، ثم عاد بعد لحظات، وقال: اطمئن، الشاي في طريقه إلينا بعد دقائق، إن الأخ علي سيتدبر الأمر. وعلى رشفات الشاي الساخن الذي جاء سريعًا، راح العقيد يسألني: هل كنت تسمع إذاعة ليبيا في القاهرة؟ فلما أجبته بالإيجاب، قال: ما تأثيرها في الشارع المصري؟ أجبته بأن تأثيرها في حدود ضيقة، ولكن أثره مضمون؛ لأنكم تذيعون خطب عبد الناصر بصوته، وهي مادة ممنوعة في مصر، وكل ممنوع مرغوب كما تعلم يا سيادة العقيد.
قال العقيد وقد غيَّر اتجاه الحديث: لقد قرأت ما كتبته في «السفير»، وكنت أتابعك كل يوم … واستغرق فجأة في نوبة ضحك شديدة ثم قال: لقد أعجبني مقالك عن ثورة ۲۳ حمروش.
وأتوقف هنا قليلًا لأحكي لكم قصة هذا المقال، الذي أثار إعجاب كلٍّ من العقيد القذافي والرئيس السادات على حد سواء، مع أنهما على طرفَي نقيض؛ فقد روى لي الأستاذ أحمد بهاء الدين أن المرة الوحيدة التي ذكر فيها السادات اسمي بالخير أمامه كانت بشأن هذا المقال، وروى لي الأستاذ بهاء أنه عندما كان في لقاء مع السادات سأله عن رأيه في كتاب ثورة يوليو للأستاذ أحمد حمروش، ووصف الأستاذ بهاء الكتاب بأنه ليس تأريخًا ولكنه وجهة نظر رجل شارك في الأحداث.
ويبدو أن رأي بهاء لم يعجب الرئيس السادات، فسأله الرئيس: هل قرأت ما كتبه الولد السعدني عن هذا الكتاب؟ (ملحوظة: وصف الرئيس السادات للعبد لله بالولد هو شرف لو تعلمون عظيم، وهي رتبة منحني إياها كبير العائلة المصرية، الذي اعتاد أن يطلق على جميع الناس لقب أولادي، أولادي ضباط الجيش، أولادي الصحفيين، أولادي أساتذة الجامعة، وأولادي الوزراء)، حتى شاه إيران الابن أنعم عليه السادات بهذا اللقب؛ الواد شاه إيران الجديد، كما أطلق عليه الرئيس السادات في إحدى خطبه الشهيرة، واستغرق الرئيس السادات في ضحكة مفاجئة، ثم قال لبهاء: لقد اقترح الولد السعدني تغيير اسم الكتاب من ٢٣ يوليو إلى ٢٣ حمروش. وكنت قد اقترحت هذا فعلًا في مقال نشرته جريدة «السفير» بعد أن استرعى انتباهي أن الأستاذ حمروش ركز في كتابه على الأعمال التي قام بها أو اشترك فيها شخصيًّا. وقلت في المقال: لقد خُيل إليَّ بعد قراءة الكتاب أن ثورة ٢٣ يوليو في الحقيقة ثورة ۲۳ حمروش. ولم أكن قد سمعت من الأستاذ بهاء هذه القصة قبل جلوسي مع الرئيس القذافي الذي أبدى لي إعجابه الشديد بالمقال، وقال لي العقيد: إن كتاب حمروش يجعل من دور الرئيس عبد الناصر دورًا ثانويًّا في الثورة. ثم قال فجأة: لقد قرأت لك مقالًا هاجمتني فيه شخصيًّا وإن لم تذكرني بالاسم. قلت له: لقد ذكرتك بالاسم يا سيادة العقيد، ولكن رئيس التحرير هو الذي حذف الاسم. وقال: لقد كان واضحًا أنك تذكرني أنا بالذات، وكان مقالك عن حديث أدليت به إلى مراسل صحيفة إيطالية، وأضاف: لقد جاء على لساني في الحديث أن المصريين هم أمة من الغنم، ولكني لم أقل هذا الكلام. الصحفي الإيطالي هو الذي فبركه، وكنت أتصور أنك عجوز في الصحافة وتعرف أن هؤلاء الخواجات يفبركون على ألسنتنا كلامًا لم نذكره؛ بقصد الفتنة والوقيعة. قلت: ولكنك يا سيادة العقيد لم تكذِّب الحديث! قال: لأن التجارب علمتني أن التكذيب يشارك في انتشار ما تريد تكذيبه؛ ولذلك آثرت الصمت. وصمت العقيد وغاب عني وعن القاعة إلى مكانٍ ناءٍ بعيد!