الحلم، والفقر الجديد

أثناء غياب العقيد في سرحته البعيدة اكتسى وجهه بلون قاتم نوعًا ما، تم تبدلت ملامحه الوديعة فأصبحت أكثر شراسة، ومضى وقت طويل وأنا أحدق النظر فيه دون أن أتكلم، تم بدأ يعود إلى طبيعته الأولى، عادت ملامحه إلى وداعتها، وأكد وجهه لونه الأصيل وقال بصوت خفيض وكأن هناك من يسمعنا في القاعة: هل قررت الإقامة في الخارج؟ فلما أجبته بالإيجاب، قال: هل اخترت المكان؟ قلت: في الواقع أنا لم أقرر شيئًا حتى الآن، وأشعر منذ خرجت من مصر أني أشبه بحطام قارب يتقاذفه الموج في كل اتجاه. ولقد كنت أود الإقامة في بيروت، ولكن ما حدث في بيروت يؤكد أن الحرب الأهلية على الأبواب. وفي الأيام الأخيرة إلى قضيتها في بيروت، حذرني البعض من مغادرة بيروت الغربية. والتقط العقيد الخيط وقال: تستطيع العيش في بيروت لو أردت، ما رأيك لو أصدرت مجلة في بيروت؟ وهتفت مستنكرًا: أنا؟!

ولم أترك فرصة للعقيد القذافي للتعقيب واستطردت قائلًا: إني سأكون هدفًا سهلًا للجميع، وسألقى مصرعي قبل أن يصدر العدد الثاني. وقال العقيد القذافي بحزم شديد: ولكني سأتولى حمايتك في بيروت.

كان واضحًا من الحديث أن الذي سيتولى حمايتي هو نظام العقيد وليس العقيد وحده، وأعتقد أنه كان يعني ما يقول، وأنه كان قادرًا على ذلك أيضًا، وقلت: أنا واثق أنك تستطيع هذا وأنك قادر عليه، ولكن المشكلة يا سيادة العقيد، أن الخطر لن يكون مصدره مصر أو أي نظام آخر، ولكن الخطر الحقيقي سيكون مصدره بعض تجار الصحافة في بيروت؛ فإصدار الصحف التي من هذا النوع، حرب لها فرسانها في بيروت، ولن يسمحوا لأحد الهواة بدخول السوق. وأعتقد أن إصدار مجلة في بيروت، سيكون مغامرة خاسرة، وسيكون أشبه بفريق كرة قدم يلعب على أرض بعيدة ووسط جمهور غريب، وتحت رحمة حكم متحيز. وفي ظل ظروف كهذه، النتيجة معروفة.

وصمت العقيد القذافي فترة، ثم قال: إذن اسكن هنا معنا في طرابلس. قلت: ليس أحب إلى قلبي من هذا. إنني خرجت من مصر لكي أتمكن من الكتابة، ولا أعتقد أن في طرابلس مجالًا لهذا الذي خرجت من أجله. قال: تستطيع الكتابة في جريدتنا هنا. قلت: فين؟ في الفقر الجديد؟! كانت الجريدة التي أعنيها هي «الفجر» الجديد، ولكنني غيرت حرفًا واحدًا من اسمها، وقلبت الاسم إلى الفقر الجديد، وأعقبت ذلك بضحكة. وأشهد الآن أنني قلت ذلك دون وعي، ولم أقصد إهانة العقيد أو جريدته، ولكن النكتة حبكت معي فنطقت بها، وغاب عني لحظةً أنني في حضرة رئيس الدولة، وأنه فخور بجريدته اليومية، وإن كان للصحفيين وأبناء المهنة رأي آخر في الجريدة يختلف عن رأي العقيد.

وبدا على العقيد أنه لم يشعر بالارتياح للنكتة التي أطلقتها، وقال: بعد فترة صمت استمرت أكثر من دقيقة: على كل حال تستطيع أن تعيش هنا، وأن تنشر في المجلات التي نصدرها خارج ليبيا. ومرة أخرى قلت بصراحة كاملة: ولكن يا سيادة العقيد لقد نجح الكثيرون في تشويه صورتك أمام الجماهير، واستطاع هذا الإعلام بذكاء أن يثبت في عقول الجماهير أن كل من يتصل بك مرتشٍ يسعى لجمع الفلوس وليس لأي شيء آخر، وإقامتي في ليبيا ستضعف من تأثير كلماتي عند الناس، فيعتقدون أنني مأجور، وأنني أحارب بالثمن.

ومرة أخرى لم تلقَ هذه الكلمات قبولًا في نفس العقيد، وسرح بعيدًا مرة ثالثة، وغاب في هذه المرة أكثر من خمس دقائق، وتكرر هذا الغياب بعد ذلك أكثر من خمس مرات في اللقاء الذي استمر بيننا على مدى مائتين وخمس عشرة دقيقة، وراح يسألني أسئلة غير مباشرة، ثم سألني فجأة خلال الحديث: لو فكرت في إصدار مجلة، فأي مكان تختاره لإصدارها من هناك؟

وفكرت قليلًا قبل أن أجيبه: إذا فكرت في إصدار مجلة، سيكون المكان الوحيد الذي تصدر منه هذه المجلة هو لندن. وقال العقيد وصوته يحمل رنة سخرية: مجلة عربية في لندن؟! وقلت للعقيد: نعم، وأعتقد أن لندن ستكون هي المجال الصالح والوحيد لإصدار صحف عربية في الأعوام القليلة القادمة؛ خصوصًا بعد الذي حدث في بيروت. وتمتم العقيد بصوت خفيض: غريبة! ثم غاب في سرحة جديدة امتدت دقائق. سألني: وهل في ذهنك تصور لهذه الجريدة إذا فكرت في عمل من هذا النوع؟

قلت: في الواقع يا سيادة العقيد، ليس عندي تصور، ولكن لديَّ حلم أريد تحقيقه منذ زمن بعيد؛ فمنذ حوالي ثلاثين عامًا عملت محررًا في جريدة كانت الأولى والأخيرة من نوعها، وكان اسمها كلمة ونص، وكان يرأس تحريرها مأمون الشناوي وصلاح عبد الجيد، وصدرت هذه المجلة عدة أشهر، كانت تعتمد على المقالات القصيرة اللاذعة وعلى الرسوم الكاريكاتيرية التي هي أبلغ من كل مقال، وكان لها تأثير شديد على عقول القراء — خاصة الشباب منهم — ولكن اضطرت إلى الاحتجاب لأسباب مادية. وأعتقد أن مجلة من هذا النوع، ستحقق انتشارًا رهيبًا، وسيكون لها تأثير شديد؛ لأن الناس أصابهم الضجر من مقالات الحنجوري، وفن الواقع، والموقف الاستاتيكي الذي يتعارض مع المضمون، من أجل تحقيق طموحات الشواشي العليا للبرجوازية.

وابتسم العقيد، وسألني: هل وضعت تصورك هذا على الورق؟ وحينما استفسرت منه عما يقصده بالضبط، قال: هل وضعت تصميمًا لهذه المجلة؟ قلت: تقصد الماكيت؟ قال: نعم. قلت: لا، لم أفعل بعد، ولكنه أمر سهل، وأستطيع أن أضع هذا التصميم في يوم واحد. قال: إذن، سأقابلك مرة أخرى خلال هذا الأسبوع، وأرجو أن يكون معك هذا التصميم عندما تأتي إلى هنا.

وقلت: سأحاول إن شاء الله. وانتهت المقابلة بعد منتصف الليل بوقت طويل، وودعني العقيد إلى مكتب النقيب علي الذي كان جالسًا مكانه كما تركته منذ ساعات، وأدهشني أن العلاقة بين العقيد والنقيب هي علاقة زمالة وليست علاقة رئيس ومرءوس.

كانت العاصفة لا تزال تضرب طرابلس بقسوة وأنا أجتاز بوابة الثكنة التي يقيم فيها العقيد، وكانت الأمطار قد زادت عن ذي قبل وراحت تضرب سقف السيارة وكأنها قبضات جماهير غاضبة تحاول اعتراض طريق السيارة والفتك بمن فيها، وكانت الشوارع كما رأيتها في طريق الذهاب خالية تمامًا إلا من بعض رجال الحرس الذين كانوا يقفون عند الحواجز الأمنية، ولكن الطريق كان يفتح لنا على الفور بمجرد رؤيتهم للسيارة، ووصلت فندق الشاطئ والفجر على الأبواب. وبالرغم من ذلك كان هناك عشرات يتناثرون في البهو، وكان واضحًا تمامًا أنهم ليسوا من نزلاء الفندق، وكانت ملابسهم متشابهة، وسحنتهم المميزة تؤكد أنهم عيون على هؤلاء النزلاء.

واستلقيت على فراشي حتى الصباح الباكر أفكر فيما دار بيني وبين العقيد، وفيما سوف يجري في الأيام القليلة القادمة. فالواقع أنني حضرت إلى ليبيا دون تدبير سابق ودون تخطيط، وربما كان السبب الحقيقي في حضوري إلى ليبيا هو تحدي السلطة المصرية التي أبدت النصح لي أكثر من مرة عن طريق الممثلين الرسميين والمتطوعين ألا أذهب إلى ليبيا حتى لا يحدث لي ما لا يحمد عقباه. لقد أردت أن أثبت للجميع أنني أستطيع الذهاب إلى ليبيا إذا أردت، وأنه ليس في استطاعة أحد أن يحدد خطواتي داخل مصر وخارج مصر أيضًا. لقد أفلتُّ من القفص الحديدي في السجن، ومن القفص الذهبي في المقاولون العرب، وسأرسم خطواتي القادمة بنفسي، ولن يكون لأحد دخلٌ في هذا الأمر على الإطلاق.

وعندما وصلت إلى فندق الشاطئ قادمًا من مقر القيادة في طرابلس، كان الأستاذ طلال سلمان يغادر الفندق في طريقه مع عبد السلام جلود إلى الخرطوم. وسألني طلال وهو يهم بمغادرة الفندق عما دار في المقابلة؟ فأجبته بأنها كانت مقابلة ودية، وأن العقيد كان ودودًا للغاية. وودعني طلال، وقال: سأذهب مع عبد السلام جلود في رحلة إلى أفريقيا، وأرجو ألا تغادر قبل أن أعود، ثم قال وهو يركب السيارة في طريقه إلى المطار، لا تنسَ «السفير»، إنها في انتظار مقالاتك، ونحن ننشر إعلانًا كل يوم بأنك ستكتب في الغد.

وقلت لطلال وأنا أرفع يدي مودعًا: ربنا يسهل. ولم أشأ أن أبلغه بقراري بالتوقف عن الكتابة في «السفير» بالرغم من أنها كانت ولا تزال أكثر الجرائد صحافة في لبنان. وقضيت الأيام الخمسة التي تلت الزيارة في رحلات داخل طرابلس مع أصدقاء قدامى توثقت بيني وبينهم أواصر المحبة قبل الثورة، أحدهم كان يعمل صحفيًّا في جريدة ليبية إبان حكم السنوسي، ولكنهم أبعدوه عن العمل الصحفي بعد الثورة وعينوه محاسبًا في أحد البنوك بطرابلس. وبالرغم من أنه كان صحفيًّا متواضع المستوى، إلا أنه كان رجلًا مخلصًا، وفنانًا على نحو ما، وصديق آخر عرفته فيما مضى، وكان يعمل في تجارة السيارات المستعملة وكان أول ليبي أدخل بيته قبل الثورة، وكانت أسرته هي أول أسرة ليبية أتعرَّف إليها عن قرب، وقد دعاني مرة مع الأستاذ بهاء خلال زيارة عبد الناصر لطرابلس إلى إفطار ليبي في مزرعته الصغيرة خارج العاصمة، وأشهد أنه كان أشهي إفطار تناولته في حياتي؛ فقد تم صنعه في الحال، وقام بإعداده والد صديقنا، وكان عبارة عن فطائر من طحين السمسم معجونة بالزبد والعسل.

وفي تلك الزيارة الخاطفة للمزرعة الليبية، أدركت عمق المأساة التي يعيشها الريف الليبي؛ فثمار الزيتون أصابها التلف لقلة الأيدي العاملة، والشعير لم يجد من يحصده؛ ولذلك يكتفي صاحب المزرعة عادةً بالحصول على ما يكفيه ويترك الباقي طعامًا للدود والغربان. ولكن العجيب في الأمر أنني عندما رأيت صديقي هذا في الزيارة الأخيرة، كانت قد تبدلت أحواله تمامًا؛ أصبح واحدًا من كبار الأثرياء، يدير مكتبًا كبيرًا للاستيراد والتصدير، ويمتلك عدة مزارع حول طرابلس، ويبني قصرًا فخيمًا ولا قصور ألف ليلة وليلة على شاطئ المتوسط. وهالتني مظاهر الأبهة والفخامة والتبذير الذي يصل إلى حد السفه، وتضاعفت دهشتي عندما علمت منه أن هذا السلوك مقصود ومتعمَّد من جانبه، وأنه يتوقع بين لحظة وأخرى وضع أملاكه تحت الحراسة؛ ولذلك فهو يبددها أو يحاول ذلك، قبل أن تصل يد السلطة إليها.

كان صديقي أحمد القفل الذي أثرى في عهد الثورة قد تحول إلى عدو لها، ولكن حكاية القفل ومأساته هي نفسها حكاية الثورة الليبية ومأساتها. لقد تولى القفل مسئولية القطاع العام مشرفًا على عدة مزارع كانت ملكًا للإيطاليين من قبل، وقد تولى هذا العمل باعتباره يمتُّ بصلة القرابة لأحد رجال الثورة، وليس لأي سبب آخر، واتهموه بعد ذلك باستغلال النفوذ والثراء غير المشروع، وقضى في السجن مدة ثم أطلقوا سراحه وغادر ليبيا، وقضى فترة في تونس ثم عاد بعد سنوات ليصبح واحدًا من أهم موردي السلاح للجيش الليبي، ولتصبح ثروته في سنوات قليلة في حجم ثروة المرحوم أوناسيس والمرحوم روتشيلد. وبعد الكتاب الأخضر واللجان الشعبية، كان طبيعيًّا أن تنقضَّ الثورة على القطط السمان التي أكلت أكثر من طاقتها واختزنت أكثر من حاجتها.

•••

وفي تلك الفترة شهدت ليبيا حركة تهريب للأموال غير عادية، حتى قيل إنها بلغت في عام واحد خمسين مليارًا من الدولارات، وتبع هروب الأموال هروب الأشخاص، وعاش هؤلاء فيما وراء البحر عيشة مهراجات الهنود أيام الاستعمار، وقال لي أحمد القفل وهو يطوف بي أرجاء قصره المنيف: في زيارتك القادمة لن تجدني هنا، لقد قمت بتهريب الجزء الأكبر من أموالي وسألحق به عما قريب.

صديق ثالث كان يعمل في السياسة، وقضى فترة في معسكر اعتقال في بداية الثورة، ثم خرج من المعتقل إلى سفارة بلاده في دولة أوروبية، ثم أعيد إلى طرابلس، وتركوه هناك موظفًا بلا عمل وإن كان يتناول راتبه أول كل شهر وتناله الترقيات والعلاوات أول كل سنة. ومن الناحية الأخرى كان هناك أيضًا شاب عربي لا شك في إخلاصه، وكان يعمل مديرًا للإذاعة، وكان مؤمنًا بالوحدة متأكدًا من أنها ستتحقق خلال عامين! وثمة شاب ليبي آخر كان يتولى منصبًا هامًّا في الإعلام، كان عربيًّا وحدويًّا، ولكنه — على عكس زميله — كان يؤمن بأنها ستتحقق على مهل، وربما يطول انتظارنا لها سبع سنوات!

وفي اليوم الثالث للمقابلة، أبلغني صحفي عربي كبير أنني سأقابل القذافي في اليوم التالي، وقال إنه علم بأمر المقابلة من مسئول كبير في القيادة الليبية. والعجيب أن المقابلة قد تحققت بالفعل في الموعد الذي حدده الصحفي إياه! وحينما رأيت القذافي كان بمفرده كالمرة السابقة، وبادرني بسؤال عن التصميم الذي وضعته للمجلة التي أتصورها، ولكني اعتذرت بأن الوقت ضيق. وغيَّر الحديث وقال: أين محطتك القادمة؟ قلت: سأذهب إلى لندن لوضع الترتيبات، لاستقبال هالة في المستشفى. وصمت العقيد القذافي لحظة وقال: إن هالة كانت مشكلتك وستظل. وأضاف: سارع بعلاجها مهما تكلف الأمر، وعندما تصل هالة إلى لندن، دعني أعلم، وأقترح أن تحضر بنفسك. وسرح كعادته، وعندما عاد إلينا قال على الفور: عندما تعود إلينا في المرة القادمة، اتصل بمحمد تبو وزير الزراعة حتى لا يلتفت أحد في مصر إلى مجيئك. ثم قال: تستطيع أن تحصل على جواز سفر ليبي قد يسهل عليك الأمور. قلت للعقيد: سأتصل بالأخ محمد تبو قبل حضوري في المرة القادمة. أما جواز السفر الليبي فلست في حاجة إليه، وسأرجئ الحصول عليه للمرة القادمة. قال وهو يودعني عند الباب: ليبيا بلادك ومفتوحة لك، ولكن لا تنسَ عندما تصل هالة إلى لندن اتصل بمحمد تبو، واحضر على الفور. ولقد استغرقت المقابلة الثانية ساعتين كاملتين، ودارت فيها أحاديث شتى لا أعتقد أن ذكرها هنا سيفيد أحدًا أو يهم أحدًا.

المهم أن العقيد ودعني عند الباب وانطلقت بي السيارة من القيادة إلى بيت القنصل المصري عماد البط، وهو رجل فاضل توثقت بيني وبينه أواصر الصداقة عندما كان يعمل في باريس، وعندما رأيته أول مرة في طرابلس، كان قد مضى على فراقنا عشر سنوات.

كنت أعلم أنهم في القاهرة قد أو فدوه إلى ليبيا باعتبارها منفي؛ فلم يكن موضع رضا حكومة القاهرة التي جاءت به بعد ثورة التصحيح باعتباره كان عضوًا في التنظيم الطليعي الناصري. ومنحت جواز سفري لعماد البط في أول لقاء بيننا بالرغم من أنه كان قنصل الحكومة التي تطاردني في الخارج. فطلبت منه، باعتباره قنصل مصر في طرابلس، الحصول لي على تأشيرة دخول إلى إنجلترا. وكان هذا هو السبب الذي جعلني أقصد منزل عماد البط بعد خروجي من عند العقيد. ووجدت عماد البط في انتظاري وجواز السفر معه وعليه تأشيرة الدخول، ولكني اعتذرت عن قضاء السهرة في منزله متعللًا بالسفر إلى بريطانيا في اليوم التالي، ولكنها لم تكن الحقيقة التي منعتني من قضاء السهرة عنده، أما السبب الحقيقي، فإنني وجدت ضيوفًا عنده يقضون السهرة، على رأسهم بعض أعضاء مجلس الثورة في ليبيا، وخُيل إليَّ أنه لقاء رسمي أو شبه رسمي بين السلطة الليبية وحكومة مصر يتم في بيت القنصل المصري في طرابلس. ولذلك آثرت الانسحاب؛ فقد يكون في وجودي ما يحرج أحدًا. وفي الصباح الباكر كانت الطائرة تحلق بي فوق المتوسط في طريقها إلى لندن وسط عاصفة من الثلوج وضباب كثيف يحجب الرؤية. ولم نتمكن من الهبوط في مطار هيثرو، فاتجهنا صوب مانشستر ولم نعد إلى لندن إلا في اليوم التالي.

وعندما استقر بي المطاف في فندق لانكسترجيت في لندن، كان معي ثمانمائة جنيه إسترليني هي كل ثروتي في الحياة، وكان أجر الفندق عشرة جنيهات عن كل ليلة. وقضيت شهرًا في انتظار هالة التي خرجت من المطار إلى مستشفى جامعة لندن، وهو مستشفى شديد الشبه بمستشفى قصر العيني القديم، وهو يتبع كلية الطب، ومع ذلك فأجر الحجرة التي نزلت فيها هالة بلغ مائة وعشرين جنيهًا إسترلينيًّا كل ليلة، وتسألونني: كيف وصلت الأجور إلى هذا الحد في مستشفى المفروض أنه يتبع الحكومة؟!

وأصل الحكاية أيها الناس، أنهم في الغرب ناس آخر شطارة وآخر مهارة؛ فالمستشفى حكومي وبالمجان أيضًا، ولكن لصنف الإنجليز! وميزانية المستشفى ضخمة، وربما أضخم من ميزانية وزارة الصحة في دولة من دول العالم الثالث، ولكن لأن الإنجليز افتقروا بعد الحرب، فقد فكروا في فكرة بسيطة ولكنها عملية ومفيدة، وتضمن ارتفاع مستوى الخدمة المجانية لمرضاها الإنجليز؛ فقد خصصوا دورًا كاملًا من أدوار المستشفى الستة للعلاج بالفلوس، وهي تستقبل كل مريض يريد خدمة فورية، وبشرط أن يدفع الثمن.

وفي بداية علاج هالة، أقصد في عام ١٩٦٣م، كان أجر الحجرة ستة جنيهات لا غير. ولكن عندما ظهرت هوجة البترول، وموضة العلاج في الخارج، ظل الرقم يتضاعف عامًا بعد آخر، حتى وصل في عام ١٩٧٥م إلى مائة وعشرين جنيهًا. وينفق الدخل كله على الأبحاث الطبية، وعلى مرضى المستشفى من السادة الإنجليز. ولأن العبد لله كان قد قرر في عام ١٩٦١م أن يعالج هالة حتى تشفى بأمر ربي ولو أدى الأمر إلى بيع ملابسي في سوق الجمعة، ولأنني أشعر إزاء مأساتها بعقدة ذنب؛ لأنها أصيبت بالشلل وأنا في سجن الواحات عام ١٩٥٩م. ولو أنني كنت موجودًا إلى جوارها في تلك الأيام عندما أصابتها حمى الشلل وأكلت جرثومته عضلات ساقها اليمني، ربما لم تكن حدثت تلك التطورات الرهيبة التي حدثت لها والتي أقعدتها عن الحركة، وفرضت عليها أن تحبو حتى بلغت الثامنة عشرة، وأيضًا لأنني في عام ١٩٧۲م جاءت هالة لزيارتي وأنا في سجن القناطر، وكانت ترتدي الحذاء الحديد، وتسند ساقها بجهاز حديدي لكي تتمكن من السير، وتذكرت لحظة وقع بصري عليها وأنا في سجن القناطر، أن عام ١٩٧۲م كان موعدي معها للسفر إلى لندن لإجراء عملية جراحية من ضمن سلسلة العمليات التي بلغت ثلاثًا وعشرين عملية خلال حياتها، والتي نهضت بعدها واقفة على قدميها بإذن ربي.

لذلك لم أهتم عندما سمعت الرقم الذي هتفت به موظفة المستشفى، ووقعت على الأوراق التي قدمتها لي، وتركت هالة في المستشفى وسرحت أنا في لندن وحيدًا، أقضي نهاري بالمستشفى، وأقضي ليلي في البلاي بوي، والسبب أن العشاء هناك أرخص، والسجاير بالمجان.

كان قد مضى أسبوعان على وصول هالة للمستشفى عندما شددت الرحال إلى طرابلس للقاء العقيد القذافي؛ فقد وعدته أن أزور ليبيا بعد وصول هالة إلى لندن، ونزلت من جديد بفندق الشاطئ، وكان قد امتلأ عن آخره بالمناضلين الذين زحفوا على ليبيا للنضال لتحقيق الوحدة من شاطئ الخليج إلى شاطئ المحيط. وفهمت يومئذٍ لماذا اختار المناضلون فندق الشاطئ ليواصلوا النضال من أجل الوحدة بين الشاطئين!

ولازمني في تلك الفترة ومنذ نزولي مطار طرابلس مستشار مصري سابق، كان يعمل في ليبيا موظفًا بإحدى الوزارات، وكان اسمه الزيني. وبالرغم من أنه كان شديد الصلة بالليبيين، إلا أنه كان يضمر حقدًا لا حدَّ له لعبد الناصر، وكانت لديه عقدة ثابتة لا تتغير، هي أن عبد الناصر ورجاله نهبوا مصر، وأنهم سرقوا أموال الأغنياء، ونهبوا مخلَّفات الأسرة المالكة. وعجبت لوجوده في ليبيا، وتساءلت عن الرابطة التي تربط بين الأخ الزيني وبين هؤلاء الذين يرفعون شعارات عبد الناصر، ويقتفون خطاه!

والأعجب من ذلك أن الزيني كان على علاقة وثيقة بالسفارة المصرية، وفي نفس الوقت على علاقة وثيقة برجال الأجهزة الليبية، وكان يبدو من سلوكه وتصرفاته أنه مسنود من جهة ما، وكان بالرغم من ضآلة حجمه عالي الصوت، إذا دخل في مناقشة خُيِّل لك أنه يقود معركة يتوقف عليها مصير حرب البسوس!

وكان مزعجًا ومنفرًا، ومع ذلك لم أستطع التخلص منه على الإطلاق، ولم ينقذني من الأخ الزيني إلا مجيء كامل زهيري، وكان نقيبًا للصحفيين العرب، كما جاء محمد الخواجه، وكان وزيرًا في دولة الوحدة. وعشت أيامي في طرابلس مع الخواجه وزهيري، ومرت عشرة أيام قبل أن أذهب لأتناول العشاء مع العقيد، وكان اللقاء في هذه المرة في منزله.

والحق أقول: إن المنزل الذي دخلته كان بسيطًا للغاية؛ فأثاثه متواضع، وهو بشكله ورسمه وبما يحتويه، لا يزيد على منزل موظف مصري في درجة مدير، وفوجئت بوجود عشرين ضابطًا من ضباط الجيش كلهم شباب، وفوجئت أيضًا بأن الكلفة بينهم وبين القذافي مرفوعة؛ كانوا ينادونه باسمه مسبوقًا بلقب أخ، يتناقشون معه في كل شيء وبصراحة كاملة، وعندما جاء العشاء، دخل طباخ نوبي يرتدي بنطلونًا وقميصًا، ويلف فوطة حول وسطه، ولم يكن العشاء إلا صنفًا واحدًا هو الفاصوليا وعدة قطع من اللحم وخبز جيد الصنع.

وسألت الذين حضروا العشاء معي: ألا يوجد سلاطة في ليبيا؟ وضحك العقيد القذافي ونادى على السفرجي وأمره بإعداد طبق سلطة للعبد لله، وتلقى السفرجي الأمر ببرود وامتعاض أيضًا؛ فقد كان يبدو عليه الإجهاد الشديد، وتأكدت لحظتها أنه هو الذي أعد العشاء، وأنه هو الذي قدمه أيضًا، وانصرف الضباط في منتصف الليل، وبقينا وحدنا، العقيد القذافي والوزير محمد زوي ووكيل وزارة الخارجية اسمه إبراهيم بجاد، وهو شاب ليبي، كان زميلًا للعقيد في المرحلة الثانوية.

وسألني العقيد عن أصول المجلة التي أحلم بإصدارها، وناولته ماكيت مجلة كلمة ونص كما أتخيلها، وبدا السرور الشديد على وجه العقيد، ولكن السرور بدأ يختفي شيئًا فشيئًا كلما قلَّب العقيد صفحة من صفحات المجلة، ويبدو أنها لم تعجبه، فقد كانت مجلة ضاحكة ساخرة، ولم تكن السياسة غايتها، ولكن هدفها كان نقد الحياة اليومية للمواطن العربي في كل مكان، وما يلقاه من صنوف الكبت والإرهاب والإحباط على يد جميع النظم والحكومات العربية بلا استثناء!

وقال لي العقيد وهو يناولني الماكيت: ولكنها مجلة هزلية! وأجبته على الفور: وهي صناعتي يا سيادة العقيد؛ فأنا لست قائدًا سياسيًّا ولا زعيمًا شعبيًّا، وإنما أنا مجرد كاتب ساخر مهمتي الوحيدة التريقة على الأوضاع الخاطئة، والسخرية من الظروف التعيسة، وبلورة هموم الشعب في جملة ساخرة، أو نكتة عنيفة.

وخرج العقيد عن الموضوع وسألني بهدوء: وكيف أحوالك في لندن؟ قلت: على ما يرام. وسألني عن هالة وأحوالها، ورويت له قصة حضورها إلى لندن ودخولها المستشفى، وقلت في سياق الحديث: إن تكاليف الحجرة مائة وعشرين جنيهًا في اليوم غير العمليات وأجر الطبيب. وقال العقيد: لا تهتم. ونظر إلى الوزير محمد زوي، وقال له: اكتب قرارًا بعلاج هالة على نفقة مجلس قيادة الثورة. وشكرت العقيد. ثم قال: بعد علاج هالة سأكون في انتظارك هنا. وقلت: إن شاء الله. ونهض العقيد، ونهضنا، وصافحته ونحن نقف في الفناء الخارجي، وتركنا وانصرف في اتجاه آخر داخل الفناء.

وخرجت مع إبراهيم بجاد الذي تطوع بتوصيلي إلى فندق الشاطئ، وقلت لإبراهيم بجاد ونحن وقوف على باب الفندق: يا إبراهيم، أرجو متابعة قرار هالة؛ فلم يعد معي إلا خمسمائة جنيه إسترليني، وعلاج هالة سيطول، وأرجو أن يصدر القرار في مدة لا تزيد على ثلاثة شهور. وقال إبراهيم: متى تكف عن التشنيع عنا؟ وقلت: أي تشنيع تقصد؟ قال: القرار سيكون عندك في خلال أسبوع، قلت: يا عم إبراهيم، إنك متفائل أكثر من اللازم، وأنا أكثر منك خبرة بالروتين العربي، وبتعقيدات الموظفين العرب. أرجوك، أن تبذل جهدك حتى لا يتأخر القرار أكثر من ثلاثة شهور. وقال إبراهيم: أنت متشائم بدرجة مؤلمة.

وراح يحكي لي عن سرعة الإجراءات في ليبيا، وعن كفاءة الإنجاز بعد الثورة، كان يحكي مؤمنًا بما يقول، وارتسمت على وجهه آثار الراحة النفسية التي يشعر بها في الأعماق. وقلت له مازحًا بعد أن انتهى من حديثه عن جنة الثورة العربية وعن مستقبلها الزاهر المضيء: تعرف يا إبراهيم، إنت عامل زي إيه؟ بدت الدهشة على وجه إبراهيم وهو يسألني: زي إيه؟ قلت: زي جدي الشيخ خليل، وهو رجل عبَر العام المائة من عمره المديد، ولديه حتى الآن الرغبة في عمل كل شيء، ولكن المأساة أنه ليس لديه القدرة في عمل أي شيء! وضحك إبراهيم ضحكة قصيرة وقال: الأيام بيننا (أو بينما! على رأي الكحلاوي رحمة الله عليه). وفي الصباح كنت أغادر ليبيا إلى لندن، ودخلتها هذ المرة كالأسد؛ لأنه في يوم، في شهر، ربما في خمسة شهور، سيأتيني قرار الثورة الليبية بعلاج هالة في لندن!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥