جحا، والسلطان

عشت شهرًا في لندن بلا قلق، وزَّعت وقتي بين زيارة هالة في المستشفى والتردد على دار الإذاعة البريطانية لقضاء السهرة مع الصديق إدجار فرج والصديق الطيب صالح، وبين الحين والحين كنت أقوم بالاتصال بالسفير محمود المغربي سفير ليبيا في لندن، أستفسر منه عن آخر الأخبار؛ أقصد أخبار القرار الثوري الجماهيري الخاص بعلاج هالة، وفي كل مرة كان السفير يعتذر بأدب. وبالرغم من ذلك لم أشعر بأي قلق، فكنت أعلم أن الملك السنوسي ترك ليبيا بدون جهاز حكومي على الإطلاق، وأن إنجاز معاملة صغيرة في ليبيا قد يستغرق أسبوعًا، بسبب التعقيدات التركية والإيطالية والتركية البدوية، وعدم وجود كوادر إدارية. وبالرغم من أن إدارة المستشفى بدأت تطالبني بتسديد الفواتير بعد أسبوعين فقط من دخول هالة لكنها لم تلح؛ ربما لأنها لم تتصور أنني مفلس تمامًا، وأغلب الظن أنها تصورت أني مشغول في أعمالي الواسعة، منهمك في عملي الصحفي الذي لا بد أنه يغطي قارات العالم الخمس! ولذلك لم تلح في الطلب، وإن كانت ظلت مواظبة على إرسال الفواتير في مواعيد محددة.

وخلال هذا الشهر الذي عشته بلا قلق على أمل صول النقود لعلاج هالة من طرابلس الغرب، اكتشفت تغييرًا خطيرًا حدث في تركيبة العبد لله؛ فأنا والحمد لله أغضب ولا أكره، وأثور ولا أحقد، وقد أقاتل صديقي فترة ولكني أعود بعدها أصفى وأنقى. فقد حدث أن دخلت ذات مساء نادي الإذاعة البريطانية فإذا بصديق قديم يعترض طريقي وقد مد ذراعيه في شوق ولهفة، ولكني نظرت نحوه نظرة باردة، ثم انحرفت عن طريقه، ومضيت إلى غايتي دون أن أتجاوب مع صرخاته التي ظلت تلاحقني وأنا أسرع الخطا، وفي الواقع لم أجد في نفسي أية رغبة في الحديث معه أو التطلع إليه. لقد سقط من نفسي نهائيًّا، وأصبح بالنسبة لي جثة هامدة، وإن كان يتحرك ويسلك سلوك الأحياء.

وأصل الحكاية أنني في عام ١٩٦٧م كنت في زيارة خاطفة إلى لندن، وجاء صديقي هذا لتحيتي ومعه عدد آخر من أصدقائه، وقبل أن تبدأ السهرة عرض عليَّ صديقي مشكلته ومشكلة أصدقائه، وتتلخص في أنهم كانوا على خلاف مع حكومة عبد الناصر في وقت من الأوقات، ولكنهم بعد هزيمة ١٩٦٧م أعلنوا جميعًا وقوفهم إلى جانب حكومة مصر، وأصابهم من جرَّاء ذلك ضرر شديد؛ لأنهم يعملون في لندن وفي دار الإذاعة البريطانية الموجهة للشرق العربي، ولأن موقفهم لم يكن من خلال تنظيم سري، ولكنه كان موقفًا علنيًّا وعمليًّا ومفيدًا؛ لأنهم تبنَّوا وجهة نظر مصر في تعليقاتهم الإذاعية، مما حدا بحكومة إسرائيل إلى الاحتجاج لدى الحكومة البريطانية على الموقف العدائي تجاه هؤلاء الموظفين الذين يتقاضون أجورهم من الخزانة البريطانية، وقال صديقي، وهو يصل بالمشكلة إلى الذروة، إنهم عندما ذهبوا إلى السفارة المصرية في لندن لتجديد جوازات سفرهم المصرية، رفضت السفارة تجديد الجوازات، واعتذرت لهم بأن عليها أن تسأل القاهرة أولًا، وبالرغم من أنهم ترددوا بعد ذلك على السفارة أكثر من مرة كانوا في كل مرة يتلقَّون جوابًا واحدًا، هو أن السفارة سألت، ولكن القاهرة لم ترد. وبالفعل وجدت نفسي أمام موقف مأساوي، فلا ينبغي أن يجرَّد مواطن من جنسيته بسبب موقف سياسي أو لأي سبب من الأسباب ما دام لم يصل به الحال إلى حد الخيانة أو الانضمام إلى جيش الأعداء، وأبديت اهتمامًا شديدًا بالموضوع، واتصلت بالقنصل المصري العام في لندن، الأستاذ جمال شعير السفير بوزارة الخارجية، وأبدى الرجل اهتمامًا عظيمًا بالموضوع، وبعد أسبوع واحد، أقام القنصل العام حفلًا في منزله لتكريم هؤلاء المصريين، وقام بتجديد جوازات سفرهم، وأعطاهم جميعًا أرقام تليفوناته في المكتب وفي المنزل، بعد ذلك طلب إليَّ صديقي أن أسعى له لدى المسئولين في القاهرة كي يعود إلى القاهرة بشرط أن يتبوأ منصبًا يليق بمؤهله وخبرته في مجال الإعلام، وبالفعل اتصلت في القاهرة بالسيد محمد فايق وزير الإعلام وعرضت عليه الأمر، وعرضت الموضوع أيضًا على السيد شعراوي جمعة أمين التنظيم ونائب رئيس الوزراء الذي وعد هو الآخر بدراسة الموضوع، وعرضت الموضوع أيضًا على الأستاذ فريد عبد الكريم فقد كان هو الآخر صديقًا لصديقي أيام الصبا والشباب.

وعندما أبلغني الوزير محمد فايق بأن قرار تعيين صديقنا هذا مديرًا عامًّا بمصلحة الاستعلامات في طريقه إلى التوقيع بادرت بالاتصال بصديقي في لندن، وطلبت إليه الحضور فورًا إلى القاهرة ليكون مستعدًّا لتولي منصبه الجديد، وبالفعل حضر صديقنا وكان أول شيء طلبه من العبد لله عند زيارته لي في مكتبي بروزاليوسف هو صرف مبلغ خمسمائة جنيه له مقابل رواية قام بترجمتها من الإنجليزية لنشرها على حلقات في مجلة صباح الخير. وقال إنه شديد الحاجة إلى هذا المبلغ لأنه جاء من لندن بلا نقود.

وبالفعل أمرت بصرف المبلغ له، واكتشفت بعد ذلك أنه لم يترجم شيئًا، وأنه كرر نفس الفعلة مع دور صحفية أخرى في القاهرة. المهم أننا خلال وجوده في القاهرة، قمت باستعجال صدور قرار تعيينه واتصلت بعدد من الوزراء المختصين تليفونيًّا، ولكن الأيام لم تمهلني حتى صدور القرار، فقد أطيح بنا جميعًا يوم ١٥ مايو، وتصوَّر رئيس النيابة أثناء التحقيق أننا استدعيناه من لندن للاشتراك معنا في المؤامرة المزعومة، ولكنه اقتنع بروايتي التي قررتها في التحقيق، والتي ذكرت لكم تفاصيلها الآن.

المهم أن صديقي إياه جلس على قهوة ريش بعد ساعات قليلة من القبض على العبد لله، وراح يلعن سنسفيل جدودي متهمًا إياي بتهم أهْونها كفيل بتقديمي إلى حبل المشنقة. وأعتقد أنني في حاجة إلى سؤال عالم نفسي ليشرح لي أبعاد هذه النفسية الغريبة؛ رجل وقفت معه في محنته، ولكنه في محنتي استل سكينًا وانهال تقطيعًا في جثتي، كيف؟ ولماذا؟ ليس عندي جواب لهذه الأسئلة إلا إعراضي عنه عندما رأيته، وإحساسي بالقرف عندما وقع بصري عليه.

وبالرغم من أني رأيته بعد ذلك أكثر من مرة فإن شعوري نحوه لم يختلف، وأدركت أني تغيرت وأصبح هذا التغيير هو صفتي الأصيلة الآن. واتخذت نفس الموقف بعد ذلك مع كل الذين تصرفوا معي بنذالة، وبعضهم مع الأسف عرفته منذ نصف قرن من الزمان.

المهم أنني وبعد مضيِّ شهر كامل، بدأ الفأر يلعب في عبي كما يقول المثل، ورأيت أن الاتصال التليفوني بالسفير محمود المغربي لن يجدي، فقررت الذهاب إليه في مكتبه بالسفارة، واستقبلني الرجل بترحاب شديد، وقال لي ورنَّة صوته تحمل معاني كثيرة: لقد اتصلنا بطرابلس بكل الوسائل، بالخطابات وبالتليفونات وبالتلكس، ولكن طرابلس لم ترد، وعلى كل حال، فسأحاول الاتصال من جديد، ولكن أرجوك لا تتعجل الأمر وحاول الاتصال بي مرة كل أسبوع ولكن إذا جاءني خبر جديد فسأتصل بك على الفور.

وعندما نهض يودعني توقف السفير عند منتصف الغرفة، وقال: وهو يمسكني من كتفي، أنصحك للخلاص من هذه الأزمة، أن تتصل بالأخ سليمان جرادة مستشار السفارة؛ فله اتصالات خاصة بطرابلس وقد يستطيع إنجاز هذا الأمر في أقصر وقت، ووعدت السفير بالاتصال بالأخ سليمان، وودعته وانصرفت. وأغرب شيء أنني عندما اتصلت بالمستشار سليمان جرادة، نصحني بعدم الاتصال بالسفير، وأوحت كلماته الهامسة بأنه ربما كان اتصالي بالسفير هو سبب تعثر صدور القرار حتى الآن.

•••

على مدى شهرين في لندن، كانت جيوب العبد لله قد أصبحت أنضف من الصيني بعد غسيله، بعدها لجأت إلى الصديق الأديب الطيب صالح، وكان وقتها يشرف على المنوعات بالقسم العربي بالإذاعة البريطانية، وكتبت عدة برامج إذاعية سلمتها للطيب صالح، وسلموني ثلاثمائة جنيه إسترليني أجرًا عنها، وخرجت من دار الإذاعة وأنا أشعر بأنني أغاخان العصر. وبالرغم من هذا الثراء المفاجئ الذي هبط على العبد لله فإنني لم أقطع الاتصال بالمستشار الليبي، وفي كل مرة كان يعتذر عن عدم ورود أخبار من طرابلس الغرب، ولكن وضعي الاجتماعي الجديد كثري أمثل اهتز كثيرًا بعد أن تبخرت الثلاثمائة جنيه التي قبضتها من الإذاعة البريطانية، واضطررت إلى الاعتكاف في الفندق وممارسة عادة أمقتها بشدة، وهي كتابة الخطابات للأصدقاء؛ فأنا أفضل رؤية الأصدقاء، وأرفض أسلوب المراسلة، وأعتقد أن الرسائل وسيلة اتصال، عندما كان البغل هو وسيلة المواصلات، أما في عصر السيارة والطيارة والقطار، فلم يعد صعبًا لقاء الأصدقاء في أي مكان، ولكن في هذه الأزمة شعرت بأننا عدنا إلى عصر البغل، وقضيت عدة أيام أكتب الرسائل لجميع الأصدقاء، لم أرسل خطابًا واحدًا لصديق من أصدقائي في مصر، لسبب بسيط، هو أنني كنت أطلب عونًا ماديًّا من النوع الذي يطلقون عليه وصف العملة الصعبة، ووضعت أمامي خريطة العالم العربي من طنجة إلى أبوظبي، وكتبت رسائل تلغرافية كثيرة، وكانت كلها بصيغة واحدة كأنها استغاثة إس. أو. إس التي ترسلها السفن عندما توشك على الغرق.

كان الخطاب يبدأ هكذا: صديقي فلان، هالة في المستشفى وأنا محتاج إلى فلوس، لا أطلب كثيرًا، أي فلوس تتيسر لك ابعث بها على الفور، وشكرًا ومر أسبوعان قبل أن تبدأ الرسائل في العودة إليَّ. كانت أول رسالة من زكريا الحجاوي، أرسل للعبد لله مائة جنيه إسترليني، تسلمتها من البنك ثمانية وتسعين جنيهًا فقط، وأرسل إليَّ الصديق فؤاد مطر مائتي جنيه، ومائة جنيه طلال سليمان، وألف دولار من أمين الأعور.

وبدأت أوداجي تنتفخ من جديد، وعاد إليَّ شعور بأنني أغاخان آخر الزمان. كان قد مضى على وجودي في لندن أربعة شهور، كانت كل المبالغ التي وصلتني من الخارج، قد بلغت ألفًا ومائة جنيه إسترليني لا غير، وكان المستشفى يطالب بعشرة آلاف وسبعمائة جنيه قيمة إقامة هالة وثمن الدواء، أما أجر العملية التي أُجريت، فقد كان لها حساب آخر!

وأصابني إحباط شديد، واسودَّت الدنيا في عيني، وقضيت الليل بطوله أفكر في طريقة للخروج من الورطة. وفي الصباح توصلت إلى قرار هو الجنون بعينه؛ لقد قررت قطع علاج هالة وإعادتها إلى القاهرة بعد تهريبها من المستشفى، وكتمت الخبر عن كل الأصدقاء الذين كنت أتردد عليهم في لندن، ولكي أرضي ضميري، ذهبت لمقابلة الطبيب، وهو أحد عباقرة طب العظام في العالم، وهو أعظم خبير على ظهر الكرة الأرضية في مرض شلل الأطفال، واسمه دونالد بروكس، وهو الذي تولى علاج هالة منذ البداية في عام ١٩٦٣م على وجه التحديد.

وأصل الحكاية أنني قد أخذت هالة إلى لندن في ذلك العام لعلاجها عند طبيب اسمه أوسمان كلارك. وكان الأطباء في القاهرة قد أجمعوا على أن الدكتور كلارك هو العمدة في مرض شلل الأطفال. وأن شفاء هالة سيتم على يديه. وسافرت إلى لندن وقتئذٍ وليس في جيبي إلا خمسمائة جنيه إنجليزي هي كل ما استطعت تدبيره لعلاج هالة والإقامة والفسحة في بلاد الإنجليز وشراء ما يلزم أيضًا من ملابس صوف وكشمير.

وتصورت وأنا في الطائرة في طريقي إلى لندن أن ملكة إنجلترا ستكون في استقبالي في المطار باعتباري أحد أثرياء العالم، وباعتباري موردًا هامًّا لإنعاش الاقتصاد البريطاني الذي يعاني الاضطراب. وبحثت عن غرفة خالية في حواري لندن، وعثرت على واحدة في حجم زنزانة القناطر الخيرية، ومجاورة لحجرة شبيهة كان يقطن بها النجم السينمائي محسن سرحان، وكان الإيجار خمسة جنيهات أسبوعيًّا؛ ولذلك نفخت من شدة الغيظ، وعلى طريقة عمنا الجبرتي: يا باسط الأرض والسماء، نجنا من هذا الغلاء!

وعندما سألت عن الدكتور أوسمان كلارك، اكتشفت أنه اعتزل الطب، وأنه تجاوز التسعين من العمر، وأنه يقضي أوقات فراغه في زراعة قطعة أرض صغيرة يملكها في ضواحي لندن. ولكني صممت على لقائه، وذهبت إليه مع الدكتور صلاح خاطر، وهو طبيب مصري كبير يقيم في لندن منذ أربعين عامًا، وكان يمارس الطب وله عيادة في شارع الأطباء الشهير، شارع هارلي في لندن.

وتطوَّع الرجل الكريم بالذهاب معي ليقوم بالترجمة بيني وبين الطبيب، أوسمان كلارك، كان الرجل عجوزًا وضعيفًا، ولم يبقَ فيه شيء من الزمن القديم إلا علمه الغزير وقوة إبصاره. وفحص هالة مجانًا وقال في لهجة قائد جيش يصدر أوامر لعساكر وقعوا في ورطة رهيبة، قال وهو ينظر من نظاراته: اذهبوا إلى دونالد بروكس، إنه خليفتي النابغة، ولا أحد يستطيع علاج هذه الحالة إلا هو، إنه في هارلي استريت، وعنوانه في دفتر التليفون، وسأتصل به ليحدد لكم موعدًا.

وذهبت إلى بروكس في اليوم التالي، واكتشفت أنه في الخمسين من العمر، قوي البنية، ويتكلم بعض الكلمات العربية؛ فقد سافر إلى القاهرة عدة مرات، وقضى فيها شتاءً كاملًا. وفحص هالة وقال، وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح: هذه إصابة جسيمة، ستحتاج إلى عشر عمليات على الأقل وستمشي على قدميها، ولكن بعد أن تبلغ السابعة عشرة، وحاولت أن أناقشه فصدني بحزم، وقلت في نفسي: ما أشبه بروكس معي بجحا والسلطان؛ فقد استدعى السلطان جحا لتعليم الحمار المنطق والبيان، وقال جحا للسلطان: يحتاج الحمار إلى خمس سنوات ليصبح كاتبًا ولا ابن العميد، شاعرًا ولا البحتري، لغويًّا ولا ابن منظور! وطلب عشرة آلاف دينار من السلطان كعربون للاتفاق، وعندما خرج جحا من حضرة السلطان، سأله أصدقاؤه: كيف تغامر بحياتك، وأنت تعلم أن الحمار سيصبح أحمر بعد خمس سنوات؟! فقال: في خلال خمس سنوات سيتم حل للمشكلة؛ فإما أن يموت الحمار أو أموت أنا أو يموت السلطان.

ولكن سرعان ما تبدَّد هذا الخاطر من نفسي عندما لمحت الدكتور بروكس يعرج وهو يودعنا إلى خارج العيادة، فسألته بجليطة شديدة، هل هي حادثة؟ فقال: لا، إنه شلل أطفال. لقد كنت مثل هالة تمامًا، وسألته بلهفة، وهل هالة تصبح مثلك تمامًا؟ وأجاب ببساطة شديدة، نعم بالتأكيد، وسلمت أمري إلى الله وإلى الدكتور بروكس منذ تلك اللحظة. وعندما ذهبت للقائه بعد أن قررت قطع علاج هالة في لندن، كان قد مضى على لقائي الأول به ثلاثة عشر عامًا، شاب فيها شعر رأسه وبدت عليه الشيخوخة، وتغيرت فيها أنا أيضًا، فقدت شعري وعملي وبلدي أيضًا، وها أنا ذا وحيد مفلس يائس في لندن وفي ورطة لا يقدر على حلها إلا الله.

كان الدكتور بروكس هادئًا واثقًا بنفسه كالعادة، وكان عندما استقبلني قد فرغ من عمله بالعيادة الكائنة في هارلي استريت، وكان الإجهاد واضحًا عليه؛ فهو من هذا النوع من الأطباء العظام يقتل نفسه في اكتشاف ما يريح مرضاه، ولم يكن مرضاه من صنف واحد، ولأنه طبيب عظام في الأصل فقد كان المئات يترددون على عيادته الأنيقة كل يوم، محاربون تحطمت عظامهم في المعارك، وأطفال أبرياء أصابهم الشلل، وسيدات أنيقات معطرات من سلالة البارونات واللوردات العظام الذين حكموا ريف إنجلترا وتحكموا فيه خلال عدة قرون، وكان على مستر بروكس أن يرضي الجميع، ولكن اهتمامه كان موجهًا على نحو خاص للجنود البواسل الذين هشَّم الرصاص هياكلهم العظمية.

والسبب أن مستر بروكس كان جنديًّا في الأصل يعمل حتى الآن مستشارًا طبيًّا للقيادة العامة لسلاح الطيران. وهو قد سافر كثيرًا إلى مصر لفحص كسور الجنود والضباط الذين أصيبوا في المعارك، وزار عبد الناصر مرةً في مهمة طبية، وقام بزيارات متعددة لدول الخليج، وله أصدقاء كثيرون في بلاد العرب، وهو متزوج من سيدة إنجليزية أرستقراطية وله أربع بنات، وهو غني ويعيش عيشة طيبة ويقضي إجازته الصيفية دائمًا في إسبانيا، وإجازته الشتوية في أحد بلاد الشرق.

وبالرغم من هذا النجاح والحياة السعيدة التي يحياها فقد وجدته مهمومًا إلى حد بعيد.

وبالرغم من أنه لا يقدم مشروبات لزائريه في العيادة فقد خالف العادة هذه المرة وطلب لنا شايًا وبعض الحلوى، وجلس يحكي كيف أنه بعد انقضاء هذه السنين الطويلة لم يحقق شيئًا مذكورًا. صحيح أنه اكتشف طريقة جديدة لعلاج شلل الأطفال وذلك بالاعتماد على العظام وارتكازها بعضها فوق بعض واستخدامها في الحركة عوضًا عن العضلات الميتة. وصحيح أن هذه الطريقة حققت نجاحًا باهرًا بنسبة ٨٠٪ ولكنه كان يأمل في اكتشاف المزيد في هذا المجال، ونظرًا لأنه مربوط بالعيادة أغلب الوقت فهو لا يجد وقتًا آخر يقضيه مع بحوثه وإبداعاته الطبية.

مثلًا — هكذا قال: — لو أنني وجدت الوقت لتمكنت من الوصول للجراحة التي تعتمد على العظام إلى النجاح بنسبة مائة في المائة. ثم سكت برهة وقال: على فكرة، إنها الطريقة التي نتبعها مع هالة، وأعتقد أنها ستحقق نجاحًا باهرًا في نهاية الأمر.

والتقطت الخيط من المستر بروكس وسألته: كم عملية تحتاج إليها هالة الآن؟ وأجاب بروكس: لقد أجرينا لها عملية، وهي في الجبس الآن، وأعتقد أن عملية أخرى نجريها في الشهر القادم ثم عدة شهور في الجبس ستكون كافية، وبعدها سنرى. قلت للمستر بروكس وأنا أحدق في عينيه بطريقة ربما أفزعته: هل تعتقد أن هالة ستكون قادرة على المشي بعد هذه العملية القادمة؟ وقال المستر بروكس في هدوء: أعتقد نعم، قلت له: هل أنت واثق؟ قال بنفس الهدوء: أظن ذلك. أعدت عليه السؤال وبطريقة وقحة: هل أنت واثق، واثق، واثق؟ وكررت الكلمة ثلاث مرات، وفجأة انفجر الرجل الهادئ في ثورة شديدة وفي غضب أشد: ماذا تعني بكلمة واثق واثق واثق؟ إنني لست إلهًا ولا نبيًّا، أنا مجرد طبيب أحاول وقد أنجح وقد أفشل، ولكن حساباتي تقول إنني سوف أنجح مع هالة، ولكن حساباتي قد تخطئ، فما الذي ينبغي عليَّ أن أفعله؟ ثم إذا كنت لا تثق بي بما فيه الكفاية فخذ هالة واذهب بها إلى أي طبيب آخر.

وبذلت جهدًا كبيرًا لتهدئة المستر بروكس، وبدأ يهدأ عندما شرحت له القضية بالتفصيل، وكيف أنني عاطل ومفلس وأن مكافأتي عن عملي الذي أفنيت فيه حياتي تبددت تمامًا بعد أشهر قليلة في لندن، وصمت الطبيب الإنجليزي فترة ثم قال: لن أتقاضى منك أجرًا عن العمليات التي قمت بها أو سأقوم بها في المستقبل وسأجري العملية لهالة في الشهر القادم وسأفك الجبس بعد خمسة أشهر، وأرجو أن تنهض هالة سائرة على قدميها.

وشكرت الدكتور الإنجليزي على إنسانيته وعلى شهامته ولكنه قاطعني قائلًا: لا أستحق منك أي شكر؛ فأنا سأجري العملية ليس من أجل هالة ولكن سأجريها لأبرهن لنفسي على صحة نظريتي.

ونهض بروكس وصافحني مودعًا، وتركت العيادة وأنا أكثر حيرة مما دخلتها، فأجر الطبيب ليس هو المشكلة فلن يتعدى أجره ألفًا وخمسمائة جنيه إسترليني بأي حال من الأحوال، وهو مبلغ تافه يمكن جمعه حتى لو اضطرتني الظروف إلى الوقوف على ناصية شارع أكسفورد أسأل الخواجات حسنة لكاتب على باب الله ينتسب لأمة من أغنى أمم الأرض، ولكن المشكلة الحقيقية في فاتورة المستشفى، وسيقترب المبلغ من أربعين ألف جنيه إسترليني، وهي مشكلة لا أعرف لها حلًّا، لو كانت أسواق العبيد قائمة كما كان العهد بها في سمرقند وبغداد والقاهرة لذهبت وعرضت نفسي في هذه الأسواق على السادة المماليك وقادة الألف والمائة والعشرة وأصحاب الطبلخانات والبيرقدارات، مهرجًا في قصر، مضحكًا في حاشية، كداب زفة في غزوة، أي فاتورة وأي مهنة مقابل دفع فاتورة المستشفى، ولكن هذه الأسواق للأسف الشديد اندثرت مع غيرها من معالم العصر القديم، فما العمل إذن؟ وأين المفر؟

صديقي الطيب إدجار فرج نصحني بالانتظار والصبر، والبعض قال: سيأتيك الرد من طرابلس في يومٍ ما، لا تقلق فأمامك شهور طويلة في لندن حاول خلالها أن تفكر في طريقة للخروج من المأزق. كانت كلمات الأصدقاء متشابهة كلها لأنها كانت تحمل نوايا طيبة ولكنها لا تقدم حلًّا. وفي الواقع لم يكن هناك أي حل.

ولكن لماذا لم يحقق العقيد القذافي وعده، لماذا لم يأمر بعلاج هالة المشلولة، وهي مسألة لن تكلفه أكثر من إصدار أمر؟! ورحت أستعرض شريط مقابلاتي مع السيد العقيد لعلِّي أعثر على السبب الذي جعله يتخذ هذا الموقف الغريب. تذكرت أنه سألني مرة: هل في نيتك إصدار كتاب عن السادات؟ وأجبت العقيد بصراحة شديدة: لم أفكر في هذا الأمر حتى الآن ولكن يجوز التفكير فيه في المستقبل، فأنا لا أريد أن أهاجم الرئيس السادات الآن.

ويبدو أن كلمة أنا التي سبقت حديثي أغضبت العقيد، فهل غضب العقيد من هذا الموقف؟ هل كان ينتظر كتابًا مني ضد أنور السادات في تلك الأيام التي احتدمت فيها المعركة الكلامية بينهما؟ من يدري؟ ربما لا شيء هناك على الإطلاق سوى الروتين المعقد في ليبيا وخمول الجهاز الوظيفي الذي ورثه القذافي من عصور الاستعمار والاستسلام، وقد يأتي الفرج فجأة وقد لا يأتي على الإطلاق … لقد وجدتها! وصرخت كما صرخ الفيلسوف اليوناني ذات يوم بعيد!

•••

هدأت نفسي عندما وصلت إلى الحل السعيد: بروكس لن يتقاضى أجرًا عن العمليات، وسأماطل المستشفى إلى أن تنتهي هالة من فك الجبس، ولتكن النتيجة كما يشاء الله، تسير هالة على قدميها أو تزحف على ركبتيها كما كانت، في الحالتين سأتركها في المستشفى وليكن ما يكون، إنهم لن يأخذوها أسيرة، وأقصى ما في أيديهم أنهم سيقدمونني للمحاكمة قد يكون بتهمة النصب أو بتهمة الفقر، وأيًّا كانت التهمة التي سيوجهها القضاء الإنجليزي للعبد لله فستكون هذه المحاكمة شاهدًا على العصر. ولو أنني أخذت جنيهًا إسترلينيًّا من كل مقامر عربي في نوادي لندن، إذن لجمعت حصيلة تكفي لعلاج كل المشلولين في العالم العربي، ولو أنني أخذت جنيهًا من كل متبضع من شارع أكسفورد وريجينت وبيكاديللي لأقمت عشرة مستشفيات في أوروبا لعلاج العرب الفقراء، ولكن ما باليد حيلة، فلتعالج هالة أولًا ثم فليأتِ الطوفان بعد ذلك.

وبدأت الحياة تستقر بي في لندن، ترك لي صديقي نور السيد شقته في «سيل بليس»، وهو جميل يطوِّق عنقي ما حييت، وكان هذا الموقف هو الذي حال بيني وبين اتخاذ أي إجراء ضده خلال الظروف الأليمة التي مرت بعلاقتنا أثناء وبعد صدور مجلة ٢٣ يوليو. كانت الشقة مريحة وكان نور يصر دائمًا على ألا أدفع بنسًا واحدًا من إيجارها، ورفعت عني تكاليف الفندق، ووفرت لي أجر المواصلات، فقد كانت وسط المدينة وعلى مقربة من مستشفى هالة.

ومرت الأيام سريعًا، ثم بدأ القلق ينهش قلبي عندما اقترب الموعد الذي حدده الطبيب لفك الجبس عن هالة. وخلال هذه المدة الطويلة التي انقضت على لقائي بالدكتور بروكس كنت دائم الاتصال بمستشار السفارة الليبية في لندن بالتليفون للسؤال عما تم في مسألة هالة، وفي كل مرة كان الاعتذار هو الرد، ولكن في آخر اتصال تليفوني طلب إليَّ المستشار الحضور إلى دار السفارة، وعندما وصلت إلى هناك كانت الساعة الحادية عشرة صباحًا ولم يكن المستشار وحده ولكن كان يجلس معه في الحجرة شاب في الثلاثينيات ولم يكن هندامه يوحي بأكثر من أنه طالب يدرس في لندن. وقدَّمه المستشار إليَّ واكتشفت أنه أحد رجال العقيد أصحاب السلطة والنفوذ في ليبيا، بالإضافة إلى كونه من قبيلة القذافي، وصافحت الشاب بفتور؛ فقد كنت أسمع عنه كثيرًا وأسمع عن غزواته ومغامراته في القاهرة وبيروت ولندن، وكانت القصص التي تدور حوله تحمل حقائق كثيرة وخرافات كثيرة أيضًا، كما سبق لي أن رأيته مرة واحدة في بيروت ولمدة دقيقة. فقد حدث أن اتصل بي أحد الأصدقاء من القاهرة وقال لي إن فنانًا كوميديًّا شهيرًا سيصل إلى بيروت وأنها المرة الأولى التي يغادر فيها القاهرة، وطلب إليَّ صديقي انتظار الفنان الشهير في مطار بيروت وأن أبقى معه حتى يتمكن من الاتصال بأصدقاء له هناك.

وذهبت إلى المطار واستقبلت الفنان إياه وذهبت معه إلى فندق استراند الذي أنزل فيه، وأعطاني رقم تليفون فاتصلت بأصدقائه فوعدوا بالحضور فورًا لاصطحابه إلى حيث يريدون. وأخذتني المفاجأة عندما اكتشفت أن صديقه هو هذا المسئول الليبي الكبير الذي جاء على عجلٍ وباهتمامِ مَن في طريقه إلى فتح القدس. وصافحني السيد إياه ولم ينطق بحرف واحد ولكنه حمل حقائب الضيف واتجه معه مهرولًا إلى الخارج، كانت هذه هي المرة الوحيدة التي رأيته فيها من قبل، وكانت المرة الثانية في مكتب المستشار، ودار الحديث بيننا — المستشار وأنا — دون أن أهتم مرة واحدة بالنظر إليه، ويبدو أنه شعر بموقفي فاستأذن من المستشار في الخروج ومضى دون أن يصافح أحدًا منا.

وفي المقابلة أطلعني المستشار على برقيات التلكس التي أرسلها إلى طرابلس دون أن يتلقى أي رد، وسألني لماذا لا تخطف رجلك إلى طرابلس لإنهاء هذا الموضوع هناك؟ واعتذرت له بعدم استطاعتي مغادرة لندن في الوقت الحاضر لأن موعد فك الجبس عن هالة قد اقترب ولا بد أن أكون حاضرًا تلك اللحظة التي انتظرتها سبعة عشر عامًا طويلة، وودعت الرجل وانصرفت.

في الطريق إلى شقتي اخترقت حديقة هايد بارك، وكان الجو صحوًا ومئات من الناس يملئون الحديقة، ولكني كنت في وادٍ آخر بعيد، آه لو تمكنت هالة من السير على قدميها! إذن سآخذها من يدها وأخرجها من المستشفى إلى شوارع لندن، ومن هناك إلى المطار، وليغفر الله لي عملية النصب التي سأقوم بها على المستشفى، ولكن ماذا لو أن هالة لم تنهض على قدميها؟! يا ضيعة الوقت والجهد والمال! ولكن ماذا كان بوسعي أن أفعل أكثر مما فعلت؟ لقد تحملت كل شيء في سبيل هذا الهدف وعانيت كثيرًا من أجله.

واصطدمت في طريقي داخل الحديقة بصديق، وهو صحفي مصري هاجر من القاهرة بعد عام ١٩٧١م وذهب إلى لندن واشتغل في غسيل الصحون وفي مطابخ المطاعم الصغيرة، مع أنه كان في القاهرة يعمل في سكرتارية تحرير آخر ساعة، ولكن يبدو أن الحياة في مصر أصبحت مملة إلى الدرجة التي يفضل فيها سكرتير تحرير مجلة محترمة أن يهجر عمله ليشتغل في غسل الصحون في بلاد الإنجليز. ولم أكن قد التقيت بجلال إلا مرة أو مرتين في القاهرة ولكنه كان من النوع الذي لا يسبب نفورًا ولا يعقد صداقات عميقة، ولذلك رحبت به عندما رأيته، وراح يحكي لي ونحن نتمشى في هايد بارك عن الظروف القاسية التي مر بها والأهوال التي عاناها، ثم قال: ولكنني أخيرًا استطعت أن أتجاوز المحنة. وقال إنه يعمل الآن بوظيفة مترجم بإحدى السفارات العربية في لندن.

وعندما وصلنا إلى طريق الملكة، وفي اللحظة التي كنا على وشك الافتراق فيها، سألني الأستاذ جلال سؤالًا عابرًا: هل رأيت الأستاذ بهاء؟ قلت: بهاء مين؟ قال أحمد بهاء الدين. سألته: هو هنا؟ قال: نعم، وفي فندق تشرشل، وفي حجرة رقم كذا. وودعت جلال وانصرفت. ولا أعرف لماذا ابتهجت كثيرًا لأن بهاء في لندن. كان في هذا الوقت رئيسًا لتحرير الأهرام ليثبت أنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح؛ فقد حاربه بعض رجال الرئيس السادات وسلطوا عليه كاتبًا عجوزًا، كان كاتبًا من باب العشم، فهاجمه هجومًا شديدًا، وعفَّ بهاء عن الرد عليه، ثم فصلوه بعد ذلك من الصحافة وألحقوه بوظيفة في الاستعلامات، ولكنهم عادوا فصالحوه ليكتب في الأهرام ليمنحهم جزءًا كبيرًا افتقدوه من الوقار والاحترام. وفي الصباح الباكر كنت في فندق تشرشل أدق الباب على بهاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥