وحدثت المعجزة
استقبلني بهاء ببرود شديد كعادته دائمًا! قال إنه سأل عني في لندن ولكنه لم يعرف مكاني، وسألني عن هالة وأحوالها، وشرحت له الأمور كلها بأسلوب تلغرافي، فقد كان بهاء على موعد مع الطبيب المعالج، وكان يشكو وقتئذٍ من مرض الضغط، وحدد لي موعدًا في المساء، ونزلنا معًا؛ هو إلى الطبيب وأنا إلى شوارع لندن، وبهاء بالرغم من أنه من سني ومن جيلي إلا أنني تعرفت به بعد كامل الشناوي وقاسم وجودة ومصطفى أمين وإحسان عبد القدوس، وتعرفت عليه أول مرة في مكتب كامل الشناوي، وأدهشني تواضعه المهيب واطلاعه الواسع واهتمامه الشديد بكل ما ينشر على صفحات الصحف المصرية والعربية. ثم عملت مع بهاء في روزاليوسف، وأعجبني أسلوبه في الإدارة، ولم أختلف معه قط رغم وجود نقط كثيرة ولكنه كان لا يسمح لأي خلاف أن يستفحل بيننا كمرءوسين وبينه كرئيس.
أذكر مرة بعد توزيع العلاوات على كتَّاب ومحرري روزاليوسف أن احتج الجميع على منح أحد الكتاب خمسين جنيهًا؛ لأن الكاتب إياه كان لا يحضر إلى المؤسسة ولا يكتب حرفًا في المجلة. وانتدبوني لمواجهة بهاء ومناقشته في هذا الأمر.
وذهبت إلى بهاء في مكتبه وفي نيتي أن اختلف معه وأن أدخل معه معركة كلامية إذا لزم الأمر. واستقبلني بهاء لطيفًا ظريفًا هادئًا، وجلس يستمع إلى وجهة نظري التي هي في الوقت نفسه وجهة نظر الزملاء، وتحمست كثيرًا وتهدج صوتي وأنا أقول لبهاء: كيف تعطيه خمسين جنيهًا مكافأة وهو لا يكتب حرفًا واحدًا في الجريدة؟! سحب بهاء نفسًا عميقًا من السيجارة. وقال لي بالهدوء نفسه: طيب إيه رأيك: أديله علاوة خمسين جنيهًا ولا يكتبش ولا ما أديلوش ويكتب؟ ووجدت نفسي أنفجر ضاحكًا ونهضت وقبلت عمنا بهاء وقلت له وأنا أنصرف: أرجوك من وجهة النظر هذه، امنحه مائة جنيه علاوة واشترط عليه ألا يكتب حرفًا عندنا.
وأحببت بهاء واحترمته، صحيح أنه لم يُعتقل ليوم بسجن ولكنه عانى كثيرًا بسبب مواقفه المبدئية واقتناعاته السياسية، ولم يتلون قط، ولم يضطر في يوم من الأيام إلى كتابة حرف لا يؤمن به، ولم يكسب من عمله الصحفي إلا الهموم والقلق وقائمة طويلة من الأمراض.
أذكر أنني كنت أقضي السهرة في بيت أحد كبار الصحفيين بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧م ولم يكن حاضرًا السهرة إلا صاحب المنزل والرئيس أنور السادات، ولم يكن وقتها رئيسًا، لكنه كان مع حسين الشافعي نائبين للرئيس، وجاءت سيرة بهاء في السهرة، وإذا بأنور السادات ينطلق كالمدفع الرشاش واصفًا بهاء بصفات أبعد ما تكون عن بهاء، وأنبريت للدفاع عن بهاء ولكن السادات صرخ في وجهي وعلى طريقة عمد الريف ونهرني بشدة وقال لي بطريقته الخطابية: اسكت أنت، أصلك اهبل، إنت أهبل يا وله. ولم أذكر لبهاء ما حدث في تلك السهرة؛ فقد كنت أعلم يقينًا أن عبد الناصر يحترم بهاء وكنت مطمئنًّا إلى أن أحدًا لا يستطيع أن يطول أحمد بهاء الدين، ولم أذكر لبهاء ما حدث في تلك السهرة إلا بعد ذلك بعدة سنوات، وبعد أن ترك بهاء موقعه في الأهرام وغادر مصر كلها، وعاش في الكويت فترة من الزمان.
خرجت من فندق تشرشل وظللت أسير في شوارع لندن على غير هدى، كان موعدي مع بهاء هو أهم شيء في الحياة، كنت كالغريق الذي عثر فجأة على جذع شجرة. وبقدر فرحتي بوجود بهاء في لندن كان خوفي أيضًا؛ ماذا لو فشل بهاء في حل المشكلة، أو في إيجاد مخرج لها؟ أعوذ بالله لا أستطيع أن أتصور ولا أستطيع أن أتنبأ بما سوف يتلو هذا الموقف من أحداث.
وقضيت اليوم بطوله أتسكع في شوارع المدينة الجاحدة، لا أحد فيها يشعر بك أو يهتم بأمرك، مدينة منظمة ومخططة كأنها قطار سكة حديد يجري على قضبان ويتوقف عند محطات معينة. إذا سقطت ميتًا فسيهتم بك الحانوتي، إذا ارتكبت جريمة فستهتم بك مصلحة السجون، ولكن الناس في الطريق لن تتوقف لحظة عند جثتك ولن يستجيب أحد لاستغاثتك.
أين هذه المدينة من مدننا الصاخبة في شرقنا السعيد! تصرخ فيلتف الشارع كله حولك، تتعثر فيسرع إليك ألف عابر سبيل، تسقط قتيلًا فتصرخ المدينة كلها حزنًا على شبابك، تقع في مشكلة حقيقية لا أحد يقترب منك، ولا أحد يعرفك!
وذهبت إلى بهاء في موعده، ولفت نظري شيء ما في داخله، لم يعبر عنه بالكلام ولكن عبَّرت عنه سحنته؛ كان يرأس تحرير الأهرام ولكنه لم يكن سعيدًا، ربما كان حزينًا على نحو ما، وأدركت من رنة الحزن في صوت بهاء مدى التغيير الذي طرأ على المحروسة؛ فإن أمنية كل صحفي — خصوصًا أساتذة المهنة مثل بهاء — أن يصل يومًا ما إلى أرفع منصب في بلاط صاحبة الجلالة. وليس هناك — باعتبار ما كان — عرش فوق عرش الأهرام. ولكنه بالرغم من ذلك ليس سعيدًا، بل لعله في أعماقه كان يشعر بأسف، كأنه مملوك عظيم وصل إلى السلطة ولكن بعد أن طعنوه في ظهره، وفي جنبه، وعندما وصل إلى دكة السلطنة كان ينزف بغزارة ويعاني سكرات الموت، وجلست مع بهاء أستمع إليه يحكي تفاصيل مرضه، ثم دعاني إلى العشاء في الفندق الكبير.
وفي طريقنا إلى المطعم التقينا بالشيخ أحمد السويدي وزير خارجية الإمارات، كان ينزل في الفندق نفسه، وقف معنا دقائق سألني فيها عن الأحوال، وقلت له: كل شيء عال والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه. لقد سُجنت وفُصلت من عملي، وها أنا ذا أعيش في لندن ألعب القمار حتى الفجر وأنام حتى المغرب، وأعيش عيشة مندوبٍ سامٍ بريطاني يحكم مستعمرةً وسط الأدغال. وقال: السويدي: ولماذا القمار؟ لماذا لا تحرص على ثروتك، وتصنع بها ما يفيد؟! وقلت ساخرًا: الحمد لله، أمي، أكرمها الله، قامت بتهريب نقودها كلها إلى الخارج، وهي ملء خزائن عدة بنوك على امتداد القارة الأوروبية من لندن وإلى لوزان. وضحك السويدي طويلًا واستأذن منا في الانصراف فقد كان على موعد مع سفير عربي في لندن.
وخلال العشاء راح بهاء يستعرض جميع الحلول الممكنة، اقترح إرسال خطاب للمهندس عثمان أحمد عثمان، ولكني رفضت الفكرة، فاقترح أن يفاتح السادات في هذا الأمر بعد عودته إلى القاهرة، ولم أستقر على رأي، وودعته في الحادية عشرة مساء وانصرفت على أن ألقاه بعد يومين، ومر يوم، في اليوم التالي استيقظت مبكرًا على صوت رنين التليفون يدق بإلحاح وكان المتحدث هو بهاء، وقال برقة شديدة: أبشر. لقد انتهى موضوع هالة. ونهضت من فراشي مذعورًا وهتفت: موش معقول، كيف؟ قال: بطريقة أبسط مما تتصور، أسرع مما تمنيت. قلت: طيب احكيلي، طمني ربنا يخليك. قال: سنؤجل الحديث في هذا الأمر حتى تحضر إليَّ. سألته: متى؟ قال: سأغادر الفندق في الحادية عشرة، وتستطيع أن تحضر في العاشرة، وقفزت من السرير في طريقي إلى بهاء.
وفي الطريق إلى بهاء ذهب خيالي إلى ألف مكان، إلى حيث تصورت أن حل المشكلة كان هناك؛ لعل بهاء اتصل بالرئيس تليفونيًّا من لندن فرقَّ قلب كبير العائلة على أحد صعاليك القبيلة! خصوصًا أن كبير العائلة يكره العيب ويتمسك بأخلاق القرية، ربما تحدث بهاء مع عثمان! ربما. ربما، ولكن هل صحيح توصَّل بهاء إلى حل للمشكلة؟ طرحت على نفسي هذا السؤال بالرغم من معرفتي الوثيقة ببهاء وتأكدي من أنه لا يمزح في مثل هذا الأمر ولا يبالغ في كل الأحوال.
المهم أنني عندما وقفت أمام بهاء في الفندق نظر نحوي بمزيد من الدهشة والفرح وقال وابتسامته العذبة ترتسم على شفتيه: ابسط يا عم، فُرجت. قلت: الحمد الله، ولكن كيف؟ قال: لقد جاء كل شيء بالصدفة. كنت أتعشى مع السويدي ليلة الأمس وجاءت سيرتك في الحديث، وشرحت له كل شيء عن هالة. فأصدر قرارًا بعلاجها على نفقة الشيخ زايد، حاكم أبوظبي.
قلت لبهاء: هكذا ببساطة؟ قال: نعم، هكذا ببساطة. وصمت فترة أخذتني الدهشة والمفاجأة، وإن شئت الدقة أخذتني الصدمة، فجلست فترة صامتًا على غير العادة ثم زفرت زفرة طويلة وقلت كأني أخاطب نفسي: أفلح إن صدق. وقال بهاء على الفور: ولكن السويدي رجل صادق، وهو مسئول، وقادر، هو إذا قال فعل. ولو لم أكن متأكدًا لما أبلغتك بالأمر. قلت: اعذرني يا عم بهاء؛ فرأسي يدور منذ فترة ولم أعد أعرف من أين وإلى أين؟! وإذا كان القذافي رئيس الدولة قد وعدني، وما زلت أنتظر الوفاء بالوعد رغم مرور تسعة أشهر طويلة. قال بهاء وهو يستعد للانصراف: ولكن السويدي شيء آخر مختلف.
وعلى باب فندق تشرشل وبهاء يستعد للذهاب إلى الطبيب قلت له: هل ذكرت لهم اسم المستشفى؟ قال: سيقومون بالاتصال بك قريبًا، ربما غدًا أو بعد غد، وسيحصلون منك على كل التفاصيل، وستُحل المشكلة كلها خلال أيام قليلة. ثم قال وهو يدخل في السيارة: اذهب الآن وتنزه في شوارع لندن، واخلع الكآبة التي ترتسم على وجهك، وتصرَّف الآن كرجل يملك إرادته ويملك مصيره، وحاول أن تعوض هالة ما فاتها خلال تلك الشهور.
انطلقت سائرًا في شوارع لندن، أصبحت خطواتي أسرع ومتعتي أكبر، ورحت أحدق في الفتارين وفي وجوه المارة، ونزلت في محطة الأندرجراوند، وصعدت ثم دخلت بارًا وخرجت، ثم تذكرت أنني لم أفطر فاشتريت بعض ثمار الفاكهة من بائع إنجليزي ابن بلد سارح بعربة يد، وعندما وقفت إلى جوار العربة ألتهم ثمار الفاكهة سألني الإنجليزي عن البلد الذي جئت منه، وعندما قلت: من مصر انقلب الإنجليزي إلى شيء آخر وصاح مهللًا: كايرو، إسمائيلية (يقصد الإسماعيلية)، سويس، فايد، بكشيش، جبت بياستر، مألهش. ومد يده إلى حبة خوخ ناضجة وقدمها إليَّ، فلما اعتذرت قال: لا تعتذر، هذه من أجل مصر. وحكى لي عن أيامه في القاهرة عندما كان جنديًّا في الجيش الثامن، وقال إنه كان له صداقات مع عدد من المصريين لا يعلم إن كانوا على قيد الحياة، أم ذهبوا إلى رحاب الله.
وراح الرجل الإنجليزي يحكي نكتًا ويعلق على المارة في الشارع، وبدا سعيدًا على غير عادة الإنجليز وغير مهتم أيضًا بمسائل البيع والشراء، ثم خُيل إليَّ أني لفرط سعادتي تصورت الإنجليزي سعيدًا، وفي الأشهر الماضية مررت على هذا المكان ألف مرة ولكني لم ألحظ حتى وجود عربة الفاكهة هناك. إنها حالتي وليست حالة الإنجليزي، والكابوس الذي كان يجثم على رأسي زال والدنيا عادت تضحك من جديد.
في اليوم التالي اتصلت بي سفارة الإمارات في لندن، وطلب إليَّ المتحدث الحضور فورًا لأمرٍ هام، وعندما ذهبت استقبلني شاب ملتح وطيب، وسألني عن المستشفى الذي تقيم فيه هالة وعن الوقت الذي وصلت فيه إلى لندن، وألقى أسئلة أخرى، وفي نهاية المقابلة طلب جواز سفري ليطلع عليه، وأنا غالبًا تركبني الحماقة خصوصًا عندما أشعر بإهانة وأنا في موقف ضعيف. تصورت أنه يطلب جواز سفري ليتأكد بنفسه إن كنت صادقًا أم لا، وبعد نقاشٍ حادٍّ لم يستمر طويلًا، قال لي الشاب: لقد أردت الاطلاع على جواز سفرك كي أحدد بالضبط تاريخ اليوم الذي حضرت فيه؛ لأن لدينا أمرًا بصرف بدل سفر لك منذ وصلت حتى تغادر لندن إن شاء الله.
قلت: بدل سفر ومنذ أن وصلت؟! إنني أكون سعيدًا وممتنًّا لو دفعتم حساب المستشفى فقط. ورد الشاب: إننا ننفذ الأوامر، ولا نملك تعديلها على أية حال، ثم قال: ولك بدل مواصلات أيضًا ستصرفه كل أسبوع. وسنكتب لك شيكًا الآن ببدل السفر المقرر منذ أن وصلت وحتى هذه الساعة.
يا سبحان الله! خرجت من باب السفارة وقت الظهيرة ومنطقة «برنسس جيت» هادئة، وقفت في الشارع أنظر إلى حديقة هايد بارك بينما الهواء البارد يضرب وجهي وإن كنت لا أشعر بالبرد وأحس إحساسًا صادقًا بأنني في روضة من رياض الجنة. صحيح، ما بين غمضة عينٍ وانتباهتها يغير الله من حالٍ إلى حال. وها أنا ذا المفلس الحائر والعدمان أشعر الآن بأنني أنا العقيد، لا بل أنا العميد، بل إن شئت الدقة أنا اللواء، وأنا المشير، وبلادي وإن جارت عليَّ عزيزة وأهلي وإن ضنُّوا عليَّ كرام. فكلهم أهلي؛ العرب الذين ضنوا والعرب الذين أكرموا.
ونسيت في لحظةٍ تعبَ الأشهر التسعة الماضية، وسرت على قدميَّ إلى صديقي الإنجليزي الذي أكل معنا عيشًا وملحًا في مصر أيام الحرب، واشتريت فاكهة كثيرة، وأوقفت سيارة أجرة كأي عمدة غني من عمد مقاطعة كنت، وذهبت إلى المستشفى، ودخلت من الباب الرئيسي هذه المرة منتفشًا منتعشًا، ألقي التحية على كل من ألقاه وكأنني أحد أحفاد وليام الفاتح، عليه رحمة الله. ولكن فرحتي تبخرت عندما وقع بصري على المرأة الحيزبون الدردبيس رئيس حسابات المستشفى، وكنت أخشى لقاءها كما أخشى لقاء الموت، وحاولت أن أتفاداها بحكم العادة ولكنها عكمت في زمارة رقبتي وقالت: مستر سعدني! فقلت: يا خفي الألطاف نجِّنا مما نخاف، نعمين يا ست يا حيزبون. قالت: لقد جاء سكرتيرك هذا الصباح. قلت: سكرتيري؟ الحمد لله الذي جعل لنا سكرتيرًا من البشر من بلاد الإنجليز. وماذا يريد سكرتيري أيتها الست؟ قالت لقد سدد الفواتير وترك لنا عنوانًا لنرسل إليه الفواتير الجديدة. قلت بعظمة يهوديٍّ افتتح لنفسه بنكًا في السوق: ألم يترك سكرتيري لديك شيئًا للعبد لله في مظروف؟ وكانت غلطةً كبيرة أن أمزح مع عجوز في عمر توت عنخ آمون!
استبقتني نصف ساعة وهي تبحث في أوراقها وفي أدراجها عن شيء تركه سكرتيري المزعوم، وتخلصت منها بمعجزة وصعدت وثبًا على السلالم إلى هالة لأجد في حجرتها لعب أطفال جديدة وغالية الثمن، استفسرت منها عن مصدر هذه اللعب؟ قالت: جاء بها مندوب من سفارة الإمارات، هدية من الشيخ السويدي.
وتذكرت عم أحمد المنجد، يرحمه الله، كان له شعار دائمًا يردده وحكمة يؤمن بها غاية الإيمان: «إذا أقبلت — يقصد الدنيا — باض الحمام على الوتد، وإن أدبرت بال الحمار على الأسد.» لقد أقبلت إذن يا عم محمود، إنها إرادة الله شاءت أن تفتح الطريق أمام هالة لكي تقوم وتقف على قدميها وتمشي بأمر ربي.
وعشت وقتًا في لندن عرفت فيه معنى بُلَهْنِيَةِ العيش، ونسيت المستشار الليبي والسفارة الليبية، وقلت: بركة يا جامع! وحان موعد فك الجبس عن ساق هالة، وذهبت إلى المستشفى ويدي على قلبي، ولساني يردد: يا رب!
فليعذرني القارئ إذا سقت له ألف عذر عن عدم استطاعتي وصف ذلك اليوم البعيد الذي خرجت فيه من شقتي في «سيل بليس» في طريقي إلى مستشفى رويال أورثيبدك في جرنت بورتلاند استريت. ولا أغالي إذا قلت: إنني كنت في ذلك اليوم فاقد الإحساس لكل شيء حولي ولأي شيء! فقد كان اليوم هو موعد فك الجبس عن قدم هالة، سرحت في ملكوت الله وأنا سائر على قدمي أجوب شوارع لندن في طريقي إلى المستشفى، ماذا لو فك الطبيب الجبس ثم اكتشفت أن كل شيء ضاع هباء: العمر والجهد والمال أيضًا، وبعد هذا وقبل هذا، أمل هالة في أن تقف على ساقيها وتسعى على قدميها كسائر خلق الله!
ولم أُجِب عن السؤال، تجاهلت الأمر، ووددت لو تبتلعني الأرض قبل هذه اللحظة، أو تصدمني سيارة وأنا في طريقي إلى المستشفى؛ فالمصائب يهون بعضها إلى جانب بعض، ومصيبتي في هالة ستكون أفدح على نفسي من أي شيء، ولم أنتبه إلا وأنا أمام المستشفى، وكل شيء هناك كما كان من قبل. دخلت الردهة الفسيحة، كان هناك مرضى كثيرون في انتظار توقيع الكشف عليهم، ولمحت ممرضة تقفز في الصالة كأنها غزال يهرب من صياد عنيد، وسألتها عن المستر بروكس، فأومأت برأسها إلى حجرة على يمين الصالة، وترددت في الدخول، وجلست على مقعد مواجه للحجرة أنتظر.
ومر وقت طويل قبل أن يخرج مستر بروكس من حجرته، وعندما رآني أومأ نحوي برأسه وسار في طريقه وكأن شيئًا لم يكن وبراءة الأطباء في عينيه! وخمنت أنه ربما فحص هالة في الصباح الباكر، واكتشف أن العملية لم تنجح. ومضيت أحجل وراءه كالغراب، وبالرغم من أن وقع أقدامي كان مسموعًا بشدة، لم يعرني التفاتًا، ومضى في طريقه وكأنه في كهنوتية في سبيل الرب! وفتح حجرة صغيرة، وعندما اختلست النظر من خلال الباب، اكتشفت أن هالة هناك ترقد على سرير، وقد عُلِّقت قدمها اليمني بمشبك إلى السقف، كانت هالة في قمة تألقها وسعاتها، كانت مؤمنة بأن اللحظة قد حانت لكي تتخلص من الكابوس الثقيل الذي لازمها طويلًا، وأنها لحظة فك الجبس ستنهض واقفة ساعية على قدميها بإذن ربي! وأحسست بقلبي ينقبض، ماذا لو حدث العكس؟ وما هو رد الفعل إذا جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن؟
كان مستر بروكس، الذي سد الباب، يضحك عاليًا وهو يسأل هالة: هل أنتِ مستعدة؟ فلما ردَّت بالإيجاب عاد يسألها: وهل أنت مصرَّة على المشي اليوم؟ فلما هزت رأسها بالموافقة استدار المستر بروكس، قال: إذن هيا بنا. وسرت خلفه إلى صالة مزدحمة بالمعدات ومستعدة لمثل هذه الحالات. وبعد دقائق، حضرت هالة علي كرسي بعجلات، حاولت إخفاء اضطرابي وقلقي، واستقبلتها بالطريقة التي أستقبلها بها كل يوم، ولكنها مشغولة عني وعن مشاعري بتلك اللحظة التي أخذت تقترب، ودخلت الصالة فتاة في سنها تجلس على كرسي متحرك أيضًا، وقدمها اليمني ملفوفة في الجبس، وعرفت فيما بعد أن اسمها إيمان، وأنها تعاني من مرض هالة نفسه، وأنها في سنها بالضبط.
كان الاختبار سيُجرى على الفتاتين معًا، وبدأ الأخصائيون بفك الجبس عن ساقيهما في وقت واحد، واستغرقت هذه العملية حوالي نصف ساعة، خُيل إليَّ أنها دهر بأكمله. كان والد إيمان يقف معنا في الصالة، ويبدو شديد العصبية والقلق، حاولت أن أهدئ من اضطرابه، قدمت له سيجارة وقلت له وأنا أشعلها: مهما تكن النتائج ففي الطب مجالات واسعة وآفاق لا حدود لها. ويبدو أنه لم ينصت إلى كلامي؛ فقد كانت عيناه مركزتين على ساق البنت، وكانت أصابعه ترتعش وهو يمسك بها السيجارة، وخفت أن تنتقل العدوى إليَّ فابتعدت عنه ولزمت ركنا بعيدًا في الصالة.
وجاءت اللحظة التي انتظرتها سبعة عشر عامًا طويلة، واختار مستر بروكس إيمان لتبدأ التجربة، حاولت هالة الوقوف، لكنه منعها، وقال لإيمان: حاولي الوقوف الآن. ترددت البنت، ومضت دقائق وهي لا تحرك ساكنًا، صرخ أبوها في وجهها يأمرها بالوقوف، أمره بروكس أن يكف عن الصراخ، قال له: دعها وشأنها، إن هذا الأمر يحتاج إلى وقت؛ إن مراكز المخ لم تتعود إصدار أوامر إلى هذه الساق لكي تتحرك، ولكي تعود هذه المراكز إلى العمل فأنها تحتاج إلى وقت قد يقصر وقد يطول. وقلت بيني وبين نفسي: يا للمأساة! انتهى الآن العمل في الساق، وسيبدأ العمل في مراكز المخ! يبدو أنها لعبة مثل لعبة دوخيني يا لمونة! وسندوخ من جديد ما بين أطباء وممرضين ومستشفيات وعمليات إلى يوم الدين.
اقترب بروكس من إيمان، التي انفجرت باكية، وراح يداعبها، ثم عاونها على النهوض ومضت تتوكأ عليه حتى اقتربا من جهاز طبي يشبه المتوازي، وقال لها، حاولي المشي بمساعدة هذا الجهاز. وسارت البنت على الجهاز ولكن بدا لنا بوضوح أن ساقها مشلولة، وعندما أمرها بروكس بأن تترك الجهاز وتحاول المشي وحدها ترددت لحظة ثم حاولت، ولكنها سقطت على الأرض، وانفجرت في بكاء عنيف، وعادت بها الممرضات إلى الكرسي المتحرك، وعكف مستر بروكس على فحص الساق بعناية، ولم تُجدِ كل التوسلات لوقف إيمان عن البكاء، انخرطت البنت التي تستقبل عامها التاسع عشر في بكاء عنيف، ثم تضاعفت المأساة، عندما انفجر أبوها هو الآخر في نوبة بكاء حادة اهتز لها جسده كله.
اختلست النظر إلى هالة وسط هذا المشهد الرهيب، ودهشت جدًّا عندما اكتشفت أنها لم تكن معنا، بدا عليها أنها في وادٍ آخر بعيد؛ كانت ساهمة وعيناها تحدقان في لا شيء وقد وضعت يدها على ركبتها؛ موطن الداء اللعين. وقطع بروكس الجو المأساوي الذي خيَّم على المكان، وطلب بعض الأربطة، وسارعت الممرضات بإحضارها، وراح يلف بعضها حول ركبة إيمان، ثم دعاها إلى الوقوف فوقفت، ومرة أخرى فك الأربطة من حول الركبة وأعاد ربطها حول مفصل القدم، ثم أمرها بالوقوف فلم تستطع. ونظر إلى الوالد الذي كان يبكي وقال له: لا شيء، الأمر بسيط للغاية، سأضع ركبتها في الجبس شهرًا آخر، وبعدها سيكون كل شيء على ما يرام. ولم يردَّ الوالد، ولكنه ذهب إلى ركن في القاعة وجلس، عندما أرادت إيمان أن تغادر الصالة على الكرسي المتحرك طلب إليها الطبيب أن تبقى لكي تشاهد تجربة هالة، وخُيل إليَّ أن بروكس أراد أن تشاهد إيمان تجربة هالة بنفسها، فإن نجحت التجربة، كان هذا حافزًا لها على أن تقاتل من أجل تحقيق النتيجة الطيبة نفسها، وإن فشلت التجربة فإن ذلك سيكون كفيلًا بتهدئة نفسها الثائرة، وستشعر بأنها ليست وحدها، وأن المقادير تجري عليها وعلى كثيرات مثلها.
واتجه بروكس نحو هالة وراح يداعبها بعض الكلمات، ثم قال لها: هل أساعدك حتى تصلي إلى هذا الجهاز؟ وأجابت هالة في ثقة القائد نابليون وهو على أبواب معركة: لا أحتاج إلى هذا الجهاز، وسأمشي وحدي. سألها بروكس: وهل أنت متأكدة؟ قالت ببساطة وبثقة وعلى الفور: نعم. قال: إذن هيا انهضي.
ولم أركز في حياتي على شيء كما ركزت على هذه اللحظة، ولكن قلبي خانني فتسارعت دقاته، وأرعش الموقف قدمي، وبذلت جهدًا شديدًا كيلا يظهر على وجهي ما أضمره في نفسي؛ ولذلك فأنا متأكد من أن وجهي في تلك اللحظة كانت تبدو عليه البلاهة أكثر من أي شيء آخر، ها هي هالة تنهض، ها هي تمشي، واثقة مطمئنة سريعة الخطا وإن كان بها عرجٌ ملحوظ، وقطعت الصالة إلى نهايتها، استدارت وعادت إلينا، ولكن قبل أن تصل إلينا وعند منتصف الصالة تقريبًا، لم أتمالك نفسي، فجريت إليها لأحتضنها وأقبلها، ولكني! اصطدمت ببروكس الذي كان أسبق مني في الوصول إليها والذي احتضنها بقوة، ولمحت دموعًا في عينيه. لقد بكى!
كان بروكس في غاية التأثر والفرح، ولم أتمالك نفسي فاحتضنت بروكس وقبلته قبل أن أحتضن هالة وأقبلها، وقلت له بصوت متحشرج: لقد صنعت المعجزة يا مستر بروكس! فأشار إلى هالة وقال: بل هي التي صنعتها. لقد أرادت أن تمشي، فتحقق ما أرادت، وسأقول لك شيئًا أرجو أن تفخر به، إن هالة هي أشجع فتاة عالجتها في حياتي.
حاولت هالة أن تفلت منا لكي تواصل المشي ولكن بروكس منعها بشدة وقال: إن المشي يضرك الآن، حاولي أن تمشي قليلًا اليوم، ثم أكثر غدًا، واحضرى إلى المستشفى يوميًّا للعلاج الطبيعي، وبعد شهر ستصبحين على ما يرام. وكانت هذه الكلمات إيذانًا لنا بمغادرة المستشفى إلى الأبد. وخرجت مع هالة، يدي في يدها، إلى شوارع لندن الواسعة، حاولت أن أستقل تاكسي ولكنها رفضت بشدة وأصرت على المشي، أعدت عليها كلمات بروكس، ولكن من يسمع ومن يقرأ؟! أنا نفسي لم أكن محتاجًا إلى إقناع. وافقتها على الفور، كنت أريد أن أراها وهي تمشي، كانت قدماها شبه عاريتين، لم تكن ترتدي إلا شيئًا من شباشب المستشفى، فلم يكن لهالة أحذية من قبل، وكانت محنتي التي أواجهها هي أيام الأعياد وفي المناسبات عندما أشتري أحذية جديدة لإخوتها ولا أشتري لها منها شيئًا، كانت ترتدي أحذية من حديد، وتضع ساقها في جهاز حديد؛ لذلك كانت وجهتنا الأولى في شوارع لندن، محلات الأحذية، وأمضينا أكثر من ثلاث ساعات لندخل في دكان أحذية ونخرج من دكان أحذية، واشترينا ثمانية أزواج من الأحذية؛ أحمر وأزرق وأبيض وأسود، ولكننا لم نستعمل من هذه الأزواج الثمانية إلا أربعة فقط؛ فقد كان علينا أن نشتري من كل حذاء مقاسين؛ والسبب أن الشلل اللعين أحدث ضمورًا شديدًا في قدم هالة اليمني، فأصبحت القدم اليمني مقاس ۳، والقدم اليسرى مقاس ٥.
وعُدنا في النهاية إلى البيت لأكتشف هناك أن قدم هالة وساقها أيضًا قد أصبحتا في حكم قدم وساق الفيل؛ أصابها ورم شديد، فاتصلت بالمستر بروكس أخبره بما حدث، قال بروكس بعد أن وصفت له الحالة: إن ما فعلته اليوم هو ضرب من الجنون، ضعها الآن في حمام ساخن واتركها فترة طويلة، ثم احضر بها إلى المستشفى في صباح الغد. ونفذت تعليمات بروكس، ولكن كلفنا طيشنا ورعونتنا شهرًا آخر قضيناه تحت العلاج الطبيعي، ولكن الحالة أخذت في التحسن يومًا بعد يوم، وفي نهاية الشهر قال بروكس: تستطيع الآن أن تغادر لندن إذا شئت، ولكن عد بها بعد عام كامل؛ لأنني وضعت في ساقها مسمارًا ستزيله بعد مضيِّ عام. وعرضت على هالة أن تبقى بعض الوقت معي في لندن، ولكنها أصرت على السفر. كانت تريد أن ترى أمها بعد أن شُفيت، كانت أيضًا تتعجل عرض أحذيتها الجديدة على إخوتها وصديقاتها. ثم قبلت أن تبقى معي أسبوعًا ثم تسافر إلى القاهرة.
وقضينا الأسبوع معًا نتردد على حدائق هايد بارك وحديقة الحيوان ومتحف الشمع وقلعة لندن، وذهبنا مرة إلى الريف البريطاني، وأصبحنا سائحين بفضل الله. وعندما حان وقت الرحيل، ذهبت معها إلى المطار، وودعتها مؤكدًا عليها ضرورة الحضور في الموعد الذي حدده الطبيب. ولم أعد إلى المنزل ولكني سرحت مع بعض الأصدقاء؛ فقد تحررت أخيرًا من القيد الذي ظل يربطني من عنقي فلم أتمكن من العيش في لندن وإن كنت مقيمًا فيها.
وعندما عدت إلى بيتي في المساء اكتشفت ورقة أُلقيت من تحت الباب، وكانت تحمل طلبًا من المستشار الليبي للعبد لله بضرورة الاتصال به في أي وقت من أوقات الليل أو النهار. وفي الورقة تليفونه الخاص في المكتب وتليفونه في المنزل. واتصلت به وكانت الساعة الواحدة صباحًا وجاءني صوت على الطرف الآخر متثائبًا في البداية، ثم عندما اكتشف أنني أنا الطالب، دب فيه النشاط والحيوية، وقال لي بلهجة ودودة: يا أخ محمود، أريدك غدًا في السفارة لأمر عاجل وهام وخطير. عندما طلبت إليه أن يفصح لي عن هذا الخبر الآن، اعتذر بلياقة وقال: غدًا تعرف كل شيء.
وفي الصباح الباكر كنت في مكتبه، واستقبلني ببشاشة غامرة وبترحيب شديد، وقال وهو يطلب لنا قدحين من القهوة: عندي لك خبر عظيم. لقد صدر قرار مجلس قيادة الثورة بعلاج هالة على نفقة الحكومة الليبية!
ونظرت إلى المستشار وحدقت فيه طويلًا، وتصوَّر الرجل أن الفرحة قد عقدت لساني فقال وآيات السعادة بادية عليه: مفاجأة لك، أليس كذلك؟ وهززت رأسي بالنفي، وقلت: يا سعادة المستشار، لقد انتهى علاج هالة، وشُفيت والحمد لله، وقد غادرت هالة المستشفى ولندن أيضًا وعادت إلى القاهرة. وتصنَّع الرجل الدهشة، وسألني: متى سافرت؟ قلت بالأمس. قال: وهل نجحت العملية؟ قلت: وبأكثر مما كنا نحلم. قال الرجل: مبروك، ولكن هذا لا يمنع من أننا مسئولون عن علاج هالة. هذا بدل سفر لمدة شهر. ومد يده ببعض الأوراق المالية من فئة الجنيهات العشرة، ولم أمدَّ يدي لأتسلم نقود المستشار. وقال: إنها بدل سفر لمدة شهر، وسأمنحك كل شهر مبلغًا مثله، أما علاج هالة فسندفع تكاليفه ولو بلغت نصف مليون جنيه. وقلت وأنا أواصل التحديق في وجه المستشار: ولكن علاج هالة دفعناه حتى آخر بنس. قال: دفعتموه! من أين؟ قلت: الحمد لله، صادقت عربًا مثلك سددوا فواتير المستشفى والعلاج، والحمد لله أيضًا لأن الظروف القاسية التي مررت بها في لندن لم تدفعني إلى اللجوء لسفاره إسرائيل مثلًا. وهتف المستشار قائلًا: أعوذ بالله! لماذا أنت متشائم إلى هذا الحد يا أخ محمود؟! إن الدنيا لا تزال بخير. قلت: نعم، بلا شك، وأنا شخصيًّا تأكدت من ذلك.
وعاد المستشار يسأل من جديد: ولكن من الذي دفع؟ كان واضحًا عليه أنه يعرف كل شيء، من الذي دفع؟ وكم؟ ولكنني رأيت أنها لعبة لذيذة يتسلى بها كلانا، فقلت له: إن الشيخ أحمد السويدي عندما علم بالأمر توسط لدى الشيخ زايد، فوافق على علاج هالة على الفور. وبالرغم من أنني لم أقابل الشيخ زايد إلا مرتين في حياتي، وفي عام ١٩٦٧م على وجه التحديد، لم يتردد لحظة في إصدار القرار، وطوق عنقي بجميل لن أنساه مدى العمر.
وقال المستشار: إن الشيخ زايد رجل طيب، ولكن ماذا تفعل في قرار مجلس قيادة الثورة؟ قلت: لا أدري، وإن كنت أرى توجيه هذه النقود إلى من يستحقونها الآن بالفعل. وسألني المستشار: تقصد من؟ قلت له وأنا أتأهب للنهوض: هناك مرضى كثيرون في العالم العربي ينتظرون مبلغًا كهذا ليبدءوا العلاج على الفور.
صمت المستشار فترةً قبل أن يقول: يا أخ محمود، هذا القرار خاص بك أنت شخصيًّا، ولا بد من تنفيذه. قلت: خاص بي أنا نعم، لكن تنفيذه كيف؟ هل تريد مني أن أعيد هالة إلى حالتها الأولى ثم نستأنف العلاج من جديد؟! لقد قلت لك: إن هالة شفيت تمامًا وعادت إلى القاهرة على قدميها، ولم أعد في حاجة إلى النقود، فأنا معي نقود كثيرة، وإن كان هذا لا يمنع من توجيه الشكر إلى القيادة الليبية على هذا الموقف النبيل. قال المستشار: أنا لا أمزح، لا بد من تنفيذ هذا الأمر، فأنا لا أستطيع الاتصال بطرابلس لأقول لهم: إن هالة شفيت وانتهى الأمر. إنك ستضعنا في موقف صعب، فأرجو قبول هذا، وسأعطيك مثله في كل شهر. وأحضِر فواتير هالة، وسنصرف قيمتها ولو بلغت نصف مليون جنيه. قلت: إذن أنت مصمم! قال: نعم. عندئذٍ مددت يدي وتناولت المبلغ ووضعته في جيبي وصافحت المستشار، وخرجت من السفارة الليبية وقد طويت النية على أمر؛ وهو أمرٌ لو تعلمون خطير!