إنها جريمة الفأر!

تناولت فلوس المستشار ووضعتها في جيبي، وخرجت من دار السفارة وأنا أغلي، كان بدني كله يستعر برغم المطر والبرد، كان قراري الذي اتخذته بيني وبين نفسي أن أنتقم وأن أرد اللطمة بلطمة مثلها، ولكن كيف؟ كيف لرجل مثلي وحيد مطرود من بلده أن يرد اللطمة إلى قوة تحت يدها سلاح ورجال وأجهزة؟ إنها معركة غير متكافئة في واقع الأمر، وإذا أنا ارتضيت هذا، فمن المؤكد أنني سأموت غيظًا وكمدًا.

وكان واضحًا لي أنهم علموا بأن حكومة أبوظبي قد غطت تكاليف علاج هالة، فأسرعوا إلى إجراء هذه التمثيلية لكي يبدو الأمر مجرد إجراءات روتينية معقدة وبطيئة ومملة، وأن العقيد أصدر الأمر ولكن الموظفين تأخروا في تنفيذه، ولكنها بالنسبة لي كانت مجرد حركة قرعة ومكشوفة وقديمة تلعبها النظم إياها في مواقف من هذا النوع.

ولجأت إلى حجرتي في الفندق أفكر في الطريقة التي أرد بها النقود إلى سيادة العقيد شخصيًّا، وأن أثأر في الوقت نفسه لشهور طويلة من الانتظار والقلق والرعب، وعرضت الأمر على بعض الأصدقاء فنصحني بعضهم بأن أضرب عما فات، وأن أضع النقود في جيبي، وأن أتناول مثلها كل شهر، وأن أحصل على فواتير المستشفى بمئات الألوف من الجنيهات، وأن أقيم في لندن بقية عمري بنكيرًا مستورًا آخر ألاجة والأطة وانتفاخ. وأفتى البعض بأن هذا السلوك هو أفضل طريقة للثأر من النظام الذي استغل مرض ابنتي هالة لإذلالي، ووضعي في هذا الموقف الرهيب.

ولكني لم أكن أرى هذا الرأي. كان لا بد أن أرد الإهانة بإهانة مثلها، لو كان الأمر خلافًا سياسيًّا بيني وبينهم لهان الأمر، لم أكن مختلفًا معهم سياسيًّا، وربما العكس كان هو الصحيح؛ فأنا مثلهم أومن بالمبادئ نفسها وأرفع نفس الشعارات، وإن وُجدت خلافات فهي في الأسلوب، وليس في الموضوع. لو أني من أنصار التجزئة، لو كنت عبدًا حبشيًّا، وضد جنس العرب وتاريخ العروبة، لهان الأمر، ولكني عربي على دربهم، ومؤمن بالله ورسله وكتبه، وبأن العرب أمة واحدة من طنجة إلى صنعاء، ولكنني في ورطة، وهي ورطة لا تمس طعامي أو شرابي، ولكنها تمس ابنتي المريضة، تحت العلاج، وعلاجها مضمون، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة، ولكن يد الأصدقاء طويلة، وهم الذين عرضوا وتطوعوا، وفتحوا صدورهم على الآخر، وإذا بالمسألة كلها مجرد محاورة على نمط محاورة القط للفأر، وجريمة الفأر أنه يريد أن تكون له شخصية متميزة ورأي خاص في نظم القطط، ولكن يا ويل الفأر في كل مكان ذهب إليه، سيلقى العنت والإرهاق، والإرهاب أيضًا.

ولكن كل هذا يهون أمام إهانة من هذا النوع؛ لأنها كانت إهانة تتعلق بعلاج ابنتي المريضة. وليس في عمل مثل هذا أية شبهة نبل أو فروسية. وإن شئت الدقة؛ فهو عمل حقير، حقير، ولا بد من رد اللطمة حتى لا أفقد نفسي آخر الأمر.

طرحت خواطري أمام صديق، فاقترح أن أرد المبلغ على هيئة درافت شيك للعقيد، ولما كان العبد لله — وقتئذٍ — يفهم في عمل الشيكات، كما تفهم خالتي بهانة في علم الإلكترونيات، فقد وافقت على الاقتراح على الفور. ونمت سعيدًا في تلك الليلة، لقد هدأت نفسي لهذا الحل. وفي الصباح كنت مع صديقي أمام موظف بنك «ميدلاند»، وأودعت المبلغ في حساب خاص، ثم عدت واسترددت المبلغ بدرافت شيك باسم الكولونيل معمر القذافي! ثم دخلنا مقهى في الهايد بارك على مقربة من السفارة الليبية، وجلست أكتب خطابًا للعقيد القذافي.

سيدي العقيد، لا أجد الكلمات المناسبة لكي أشكركم على حسن صنيعكم نحوي ونحو ابنتي هالة، لكن ومهما كان الأمر، فلا بد أن أسجل الشكر لمجلس قيادة الثورة في ليبيا على قراره بعلاج هالة على نفقة الحكومة الليبية، وهو شرف عظيم لا أستحقه، خصوصًا أنني بالرغم من كوني جنديًّا صغيرًا مخلصًا، فإنني أشعر صادقًا أنني لم أقدم لأمتي ما يستحق هذا التكريم الجليل. ولحسن الحظ يا سيدي العقيد أن هالة قد عولجت وشفيت تمامًا وغادرت لندن إلى القاهرة وقبل وصول قراركم هذا. ولكي يطمئن قلبك الذي ينبض بحب العروبة ويخفق باسمها، فإن الذين تكفلوا بعلاجها ودفعوا تكاليفه كانوا عربًا أيضًا ولم يكونوا — لا سمح الله — من جنس آخر أو من معسكر الأعداء؛ ولذلك أقترح على سيادتكم — إن كان من حقي أن أقترح عليكم — توجيه المبلغ المرصود لعلاج هالة إلى من يستحقونه، وما أكثر المرضى في العالم العربي الذين يعيشون على أعصابهم الآن في انتظار مبلغ مثل هذا، ليبدءوا رحلتهم نحو الشفاء والهناء! ويحضرني يا سيادة العقيد في هذا المقام مقولة للكاتب البريطاني أوسكار وايلد: غالبًا ما يحقق المرء كل ما يتمناه في الحياة ولكن ليس في الوقت المناسب. وأعتقد أن هذه المقولة لا تنطبق على أحد الآن إلا على العبد لله؛ فلقد نالني شرف مجلس قيادة الثورة الليبي، ووصلتني عطيته، ولكن ليس في الوقت المناسب. شكرًا يا سيادة العقيد، ودمتم للعروبة وللوحدة وللإسلام.

ودخلت السفارة الليبية، وقابلت المستشار وعلى شفتي ابتسامة عريضة، وتلقاني المستشار مرحِّبًا كالعادة، وابتسم وجهه كله عندما أبلغته أني قادم لشكره، وأن معي خطاب شكر للسيد العقيد. وراح المستشار — وبالمناسبة، حكمت عليه الظروف أن يواجه محنتي، وهو الآن لاجئ في أوروبا — يحكي لي بإسهاب بلغ حد الإسفاف تعقيدات الروتين الليبي، وكسل الموظفين الليبيين، وكيف أن القيادة تنجز وعدها في لمح البصر، ولكن الأمور تتمهل في المكاتب وتتعثر في الأروقة، ولكن الحق لا بد أن يصل إلى أصحابه في النهاية، فإن النتائج تكون دائمًا سعيدة وعلى النحو الذي حدث معي بالكمال والتمام!

ورسمت على وجهي حالة من البلاهة وأنا أشكر المستشار وقياداته الطيبة القلب السخية اليد الرقيقة المشاعر، وسلمته المظروف مغلقًا وبداخله الشيك وخطاب الشكر. ثم صافحته وأصر على توديعي حتى الباب، ولم أشعر في حياتي بأن قامتي تطول حتى بلغت الشواشي العليا للأشجار الضخمة المتناثرة في هايد بارك، إلا في تلك اللحظة. شعرت بأنني انتقمت لنفسي التي أسقمها الانتظار، ولروحي التي أرهقها القلق، وأحسست بأن مهمتي في لندن قد انتهت. لقد شفيت هالة وعادت إلى القاهرة، وشفيت نفسي أيضًا، ولم يبقَ إلا أن أحدد مصيري وأختار مستقبلي والبلد الذي أستقر فيه.

شطبت لبنان من القائمة؛ فقد تركت «السفير» وأصبحت بيروت تحت رحمة الميليشيات والحواجز والقتل على الهوية. واخترت أبوظبي، فقد كان لديَّ عرض للعمل كمدير لإدارة الصحافة المدرسية في أبوظبي، وقررت أن أشد الرحال إلى هناك؛ فهي تجربة جديدة على كل حال، وهي خطوة أخرى على طريق الآلام والأحزان، وحجزت مقعدًا على الطائرة، وحددت يوم السفر، وودعت أصدقائي في لندن وتأهبت للرحيل، ولكني قبل الرحيل بيوم واحد، اتصل بي المرحوم الأستاذ الكبير علي أمين من جناحه في فندق «إن أون ذا بارك»، وقال: احضر عندي على الفور. وذهبت إلى الأستاذ علي أمين على الفور. وحزنت بشدة عندما وقع بصري عليه؛ فقد كان لون وجهه ينبئ بأنه في أيامه الأخيرة، وقال لي بدون مقدمات: إن مصطفى يريدك؛ يقصد الأستاذ مصطفى أمين. وقلت: خيرًا! وقال: ستعود إلى الصحافة، ومصطفى تحدث في شأنك مع الرئيس السادات، ووافق على عودتك، قلت: ولكني في طريقي إلى أبوظبي؛ فقد اتفقت بالفعل على عمل هناك، وفي وظيفة حكومية بعيدة عن الصحافة. قال: لا شأن لي، كلم مصطفى أولًا، ثم افعل ما تشاء. ورفع سماعة التليفون وأدار رقم الأستاذ مصطفى أمين في القاهرة، وارتفع صوت مصطفى أمين من القاهرة في السماعة الموضوعة على أذني: يا محمود، عد فورًا إلى القاهرة.

•••

كان يبدو من صوت الأستاذ مصطفى أمين أنه سعيد ومنفعل في آنٍ واحد، وقال وصوته يدوِّي في السماعة: عد يا محمود، ستعود إلى مهنتك، وستكتب باسمك في الصحف. وشرحت للأستاذ مصطفى أمين كيف أنني اتفقت على عمل حكومي في الإمارات، وأنني حجزت مقعدًا على الطائرة المتجهة إلى أبوظبي في الغد. ثم قلت للأستاذ مصطفى أمين: وعلى كل حال لن أعود إلى مصر إلا بعد تنفيذ اتفاقك معي. وقال الأستاذ مصطفى: طيب، سأنفذ الاتفاق.

وأصل الحكاية أنني بعد خروجي من سجن القناطر كان كلُّ من في السلطة ضدي، وكان ضدي أيضًا السادة المتربعون على كراسي المسئولية في الصحف الحكومية. كما أنه لم تكن هناك صحف معارضة في ذلك الوقت، ولكن للحقيقة كان الأستاذ مصطفى أمين هو الوحيد الذي أبدى اهتمامًا خاصًّا بأمري، واتصل بي أكثر من مرة، وزرته في مكتبه عدة مرات، وكان يسعى جاهدًا لإعادتي إلى عملي، ومرة تكلم أمامي مع الأستاذ إحسان عبد القدوس، وكان وقتئذٍ رئيسًا لمجلس إدارة أخبار اليوم، وقال: لإحسان: اسمح بنشر مقال لمحمود السعدني في مجلة آخر ساعة. واعتذر الأستاذ إحسان، وقال: لا بد من استئذان الرئيس السادات أولًا. ورد الأستاذ مصطفى: لماذا لا تنشر المقال وتنتظر رد الفعل، فإن سكت الرئيس السادات، كان بها، وإذا اعترض نعتذر بأننا لم نكن نعلم بأن محمود السعدني ممنوع من النشر.

•••

وأصرَّ الأستاذ إحسان على استئذان الرئيس السادات أولًا، وللعجب حاول الأستاذ موسى صبري أيضًا عدة محاولات لإعادتي إلى العمل، وذهبت معه لزيارة محمود أبو وافية عديل الرئيس السادات في منزله، ووعدنا بعرض الأمر على الرئيس، وحاول موسى نشر مقال لي في الأخبار خلال الأيام الأولى من حرب أكتوبر، ولكن وزير الإعلام أصدر تعليمات بعدم نشر أي مقالات لثلاثة كتاب حتى ولو كانت في تحية جيش مصر أثناء المعركة، وكان الأستاذ محمود العالم أيضًا واحدًا من هؤلاء الكتاب. المهم أن كل الوساطات باءت بالفشل، وأصر الرئيس على موقفه؛ لا أكتب في أية مطبوعة ولا يُنشر اسمي في الصحف؛ مع أن الأصل في طبيعة الكون أن الله سبحانه هو وحده الذي يولي ويعزل ويرفع ويخفض ويحيي ويميت، ولكن بعض عبيده يتصورون أحيانًا أنهم مكلفون بأداء بعض وظائفه. ولكن الله سبحانه يمهل ولا يهمل، ونهاية الرئيس السادات هي أبلغ درس لهؤلاء الذين يتصورون أنهم قادرون على أداء هذا الدور!

المهم أن الأستاذ مصطفى أمين واصل اهتمامه بقضيتي حتى بعد أن تركت مضر وسافرت للخارج، التقيت به ذات مرة في لندن، ونصحني بالعودة إلى عملي الصحفي، وقلت للأستاذ مصطفى أمين: يرفضون نشر اسمي في الجرائد، قال: إنني سأنشر اسمك في أخبار اليوم، قلت: إذا نشرت اسمي في أخبار اليوم فسأعود على الفور.

ولا بد أن الأستاذ مصطفى أمين قد تذكَّر تفاصيل هذا الاتفاق عندما قلت له إذا نفذت اتفاقك معي فسأعود على الفور؛ ولذلك كان رده في نهاية المكالمة: احرص على قراءة أخبار اليوم كل يوم سبت، فإذا طالعت اسمك في أحد أعدادها، فاعلم أن كل شيء على ما يرام، وبعدها اركب أول طائرة متجهة إلى مصر.

وعشت في فندق الخالدية بأبوظبي أقرأ أخبار اليوم وأنتظر إنهاء إجراءات تعييني، وسارت إجراءات التعيين بخطوات سريعة في البداية، ثم تعثرت بعد ذلك، ثم توقفت آخر الأمر. وفي يوم الجمعة الخامس من وجودي في أبوظبي، زارني في الفندق رجل فاضل من أهل البلاد، هو الأخ عبيد المزروعي، ومعه عرض للعمل مديرًا لتحرير جريدة «الفجر»، جلس عبيد المزروعي يتحدث معي طويلًا عن إمكاناته وأحلامه، وكان صادقًا وبسيطًا وعربيًّا مخلصًا، وحكى لي بعفوية شديدة كيف عاش أيام الفقر؛ اشتغل عامل بناء، واشترك في الغوص، وبدا من حديثه أنه رجل صنع نفسه بنفسه، ويدير أعماله بمزاج الهاوي وخبرة المحترف، ووقعت عقدًا مع عبيد المزروعي في الجلسة نفسها، وكتبت العقد بخط يدي، وتركت الصاحب العمل تحديد مدة العقد، فكتب عبيد المزروعي بلا تردد: «لمدة عامين».

وفي الأسبوع التالي اتصل بي أحد الصحفيين وهو يعمل بالأهرام، وكان في مهمة سريعة إلى الإمارات، وكان مع الزميل القادم من القاهرة نسخة من أخبار اليوم التي صدرت في آخر أسبوع، ولم تكن قد وصلت إلى أبوظبي بعد، وقرأت في باب عزيزتي أخبار اليوم خطابًا من قارئ يسأل: أين محمود السعدني الآن؟ وكان الجواب: محمود السعدني يعيش الآن في أبوظبي ويعمل مديرًا للصحافة المدرسية هناك، وسيعود قريبًا إلى القاهرة للعمل في الصحافة المصرية، ومع الزميل الصحفي العائد من القاهرة خطاب من الأستاذ مصطفى أمين يطلب إليَّ العودة فورًا، خصوصًا بعد أن نفذ الاتفاق الذي بيننا، كان موقفي ضعيفًا أمام الأخ عبيد المزروعي وأنا أعتذر له عن العمل للعودة إلى القاهرة، وقال الأخ عبيد: شارك معنا في إصدار الجريدة، وأمكث معنا شهرًا على الأقل، ثم بعد ذلك عد إلى بلادك؛ فهي على كل حال محطتك النهائية آخر الأمر.

ووافقت الأخ عبيد، وانشغلت عن كل شيء بالإعداد لصدور جريدة «الفجر»، واتفقت مع عبيد المزروعي على الخطوط الرئيسية للجريدة، وكان أهم هذه الخطوط وعلى رأسها، أن «الفجر» ستكون جريدة العرب ضد مطامع الشاه في الخليج، واتفقنا على الشعار الذي سنرفعه على رأس الجريدة، من أجل الخليج العربي والضمير العربي، واستدعيت بعض الزملاء من القاهرة، وجاء منير عامر وتولى سكرتارية التحرير، وكان خير عون لي في مهمتي الجديدة.

ويبدو أن وجودي في أبوظبي وعملي في جريدة «الفجر» قد لفتا انتباه بعض الجهات، ولم أشعر بما يدور حولي إلا بعد أن سافرت في رحلة مع الشيخ زايد إلى طهران، ولم تكن «الفجر» قد صدرت بعد، بالرغم من وجود اسمي في كشف المرافقين للشيخ زايد، فإن الإيرانيين تجاهلوني وتعمدوا التقليل من شأني، فكنت أنا الصحفي الوحيد الذي خصصوا له غرفة صغيرة جدًّا تطل على الفناء الداخلي في فندق إنتركونتيننتال، وفي نهاية الرحلة قدموا هدايا لكل أعضاء الوفد ما عدا العبد لله، ولم أفهم الإشارة في وقتها، وظننت أن الأمر مجرد صدفة، لا أكثر ولا أقل.

وجاءت الإشارة الثانية من مؤتمر وزراء الإعلام العرب في الخليج. لقد طلب لقائي ثلاثة من وزراء الإعلام؛ أولهم الدكتور عبده يماني وزير الإعلام السعودي، وكان الثاني هو الشيخ يوسف الكواري وزير إعلام قطر، وكان الثالث هو طارق عزيز وزير إعلام العراق، وشعرت في المقابلة الأولى أن هناك شكوكًا لدى من يُفترض أنهم من الأصدقاء، وأن الجريدة التي سنصدرها ستكون موضع فحص تحت الميكروسكوب لمحاولة الكشف عما بين السطور. وقلت للدكتور عبده يماني الذي كان ودودًا للغاية: إن الفيصل بيننا سيكون هو سطور الجريدة وما تحمله من اتجاهات، وسنحاول جهدنا لتكون جريدة «الفجر» هي صوت العروبة في الخليج ضد أي غزو أجنبي، خصوصًا المتربصين بنا على الشاطئ الآخر! وكان لقائي مع الوزير عيسى الكواري لقاء تعارف أكثر من أي شيء آخر، وسألني سؤالًا عابرًا عن جريدة «الفجر»، فأجبته إجابة عائمة، ولكن لقائي مع طارق عزيز كان يختلف، قال لي: ما دمت ستعيش خارج مصر، لماذا لم تحضر إلى بغداد؟ وشرحت له الظروف التي أتت بي إلى أبوظبي، وقال في النهاية، إذا تركت مكانك هنا فسنرحب بك في بغداد، وانفجرت هذه العبارة في رأسي، فما الذي يقصده الوزير طارق عزيز بعبارة: إذا تركت … «هنا»؟ وهل لديهم معلومات؟ أم أنها مجرد صدفة أيضًا؟

وكانت الإشارة الثالثة من مطار أبوظبي؛ فقد حدث قبل صدور الجريدة بأسبوع أن عاد صاحبها من الخارج وبدلًا من استقباله كرجل من وجوه أبوظبي، اقتادوه من المطار إلى السجن، وفتشوه تفتيشًا ذاتيًّا، وبعد عدة ساعات في الحبس، ذهب إليه وزير الداخلية وأطلق سراحه، واعتذر له بأن المسألة كلها حدثت بطريق الخطأ.

وكانت الإشارة الرابعة من إمارة مجاورة لإمارة أبوظبي، وكانت تربطني بشيخها صلة صداقة، وهو رجل متنور ومتعلم ودرس في مصر، وعندما ذهبت إليه بناء على طلبه، قال لي بصراحة شديدة، نصيحتي لك أن تكف عن العمل الصحفي، وإذا أردت أن تعيش هنا، فعليك أن تبقى في الظل، وعندما نظرت إليه ولم أعلق بشيء قال وهو ينهي الحديث في هذا الموضوع: إنها نصيحة من صديق لا أكثر ولا أقل. وبالرغم عن كل شيء، قررت المضي في إصدار «الفجر».

جريدة الخليج العربي والضمير العربي، كان هذا هو الشعار الذي رفعناه ووضعناه على رأس جريدة «الفجر». وبالرغم من أن الجريدة لم تكن قد صدرت بعد، فإن الشعار أحدث قلقًا شديدًا لدى بعض الجهات؛ اتهمتنا دوائر السفارة الإيرانية بأننا عملاء ليبيا والقذافي، ولم أهتم في بادئ الأمر بما تشيعه عني دوائر السفارة الإيرانية، إلا أنني بدأت أشعر بالقلق عندما زارني بمكتبي بالجريدة شخص مصري كان يعمل بالتدريس في الخليج، وانتهز فرصة نشوء الصحافة الخليجية في بدايتها المبكرة وانتحل لنفسه صفة الصحفي، وكتب بعض المقالات في تأييد بعض المشايخ ضد البعض الآخر، ولكن أمره سرعان ما انكشف، فطُرد من دولة خليجية إلى أخرى حتى استقر به المقام في إمارة صغيرة قبل نكسة ١٩٦٧م، واستطاع الحصول لنفسه على جواز سفر، وسارت له أعمال تجارية واتصالات سياسية.

ولكن لأنه من النوع الذي لا يستر طويلًا سرعان ما دب الخلاف بينه وبين الشيخ الذي أمر بطرده وتجريده من جواز السفر، ولكن حانت له فرصة للعودة من جديد إلى المنطقة بعد قيام دولة اتحاد الإمارات، ويبدو أنه سعى إلى بعض المتحمسين للاتحاد، ويبدو أنه أقنعهم بأنه قادر على توحيد كلمة الناس حول الاتحاد في بعض الإمارات البعيدة، وقد وصل إلى أبوظبي ذات صباح ونزل في فندق الهيلتون، ثم سعى للتعرف عليَّ في فندقي، ولم أكن قد رأيته أو سمعت به من قبل، ولكنه كان من هذا النوع الأونطجي الذي لا تخطئه العين المجربة، وعندما صافحني انحني كرقم ثمانية، وجلس أمامي كتلميذ صغير بالرغم من أنه كان من جيلي ومن عمري، راح يتحدث دون أن يترك لي فرصة للمقاطعة أو التعليق.

كان حديثه عن كتبي التي قرأها من الجلدة إلى الجلدة، وعن مقالاتي التي يحفظها عن ظهر قلب، ولكني في اللقاء الثاني، اكتشفت أنه لم يقرأ من كتبي إلا العناوين، وأن القراءة ليست من بين هواياته، وأن آخر كتاب فتحه كان منذ عشرة أعوام وقبل أن يهجر مهنة التدريس ويتفرغ لعمليات النصب والاحتيال، وأذهلني أنه يكذب لمجرد الكذب؛ فهو لا يكذب لسبب أو لهدف أو حتى لمصلحة، ولكنه يكذب لمجرد الكذب، وكأنه ماكينة لإنتاج الكذب ولا شيء آخر.

وكانت علاقاته واسعة بجميع المسئولين من جميع المستويات؛ برجال القصر، ورجال الأمن، ورجال المال، وكان يلقب كل من يلقاه بأستاذي ثم يسبُّه في اللحظة نفسها التي يدير فيها ظهره له! وكان يفتري قصصًا ما أنزل الله بها من سلطان على كل من يعرفهم خصوصًا المرموقين منهم من ذوي النفوذ في عالم السياسة والمال؛ فهذا لقيط والدليل ان اسمه عبد الله! وهذا يعمل لحساب اليهود، والآخر لص يبحث عنه الإنتربول، وكنت قد بدأت أنسحب من حياته بعد أسبوعين فقط من أول لقاء، ولكني فوجئت به ذات مساء يقتحم مكتبي في الجريدة ومعه مقال طالبًا نشره في أول أعداد الجريدة، وانتهيت من قراءة المقال، وأبديت دهشتي للأفندي إياه، فلم يكن للمقال سبب، ولم تكن هناك مناسبة، كان المقال بعنوان الخليج الفارسي، وكان المقال كله عبارة عن حملة بذيئة ضد كل هؤلاء الذين وصفوا الخليج بأنه عربي، فالخليج في نظر الأستاذ فارسي، وسيد الخليج هو الشاهنشاه إيريا مهر الجالس على عرش الطاووس في طهران!

ورفضت نشر المقال بشكل قاطع، وقلت للأستاذ الفاضل — الفاضل حتى الآن في مكتبي — إن هذا الكلام لا يمكن نشره في جريدة عربية. ولكن الأستاذ الفاضل أغلق عينيه وأطرق برأسه وقال في برود شديد: ولكن هذا المقال مطلوب نشره. واستفزتني كلمة مطلوب، فسألته بحدة: ومن الذي يطلب نشره؟ فأجاب وهو يبتسم ابتسامة صفراء: الرأي العام. ثم قال: فكِّر على كل حال قبل أن ترفض المقال أو تأمر بالنشر. ثم نهض وانصرف.

وكان واضحًا أن الأخ إياه ليس وحده، وأن هذا المقال كان بمثابة بالونة اختبار لمعرفة مدى التزامي بالشعار الذي رفعته على صدر الجريدة، وأدركت أن المتاعب بدأت، وأن الريح ستهب بما لا تشتهي السفن!

وخلال انهماكي في التحضير لإصدار «الفجر»، وصل إلى الإمارات صحفي مصري من إياهم، كان يتمتع في شبابه بمواهب ممتازة وبأخلاق سيئة للغاية، وكان سلوكه السيئ والمريب هو الذي عطله عن الوصول إلى قمة العمل الصحفي، فظل يتخبط في القاع متنقلًا من جريدة إلى جريدة دون أن يتمكن من أن يترك خلفه أثرًا على الإطلاق. وبالرغم من العلاقة الفاترة التي كانت بيننا على الدوام، فقد تلقاني بترحاب شديد، فقد تصور أنني من أصحاب النفوذ في الإمارات. وكان يجلس لحظة التقينا أول مرة في فندق الخالدية مع شاب طويل القامة نحيف بشكل ملحوظ يشبه الهنود، وسألت صديقي المصري عن الشخص الذي يجلس معه، فأجابني بأنه يعمل في التخابر لمصر وأنه يعمل لتغطية الأمر كمحرر في صحف الكويت، وعندما سألته عن جنسيته، أجاب أنه يدعي أنه من اليمن، وإن كان صديقي يشك في ذلك! فأشحت بوجهي عن الشاب النحيل وانصرفت.

وفي اليوم التالي، تقدَّم الشاب إياه مني وقدم نفسه: محمد زين المحرر بجريدة السياسة، وكنت قد قرأت اسمه على صفحات السياسة وفي موضوعات فنية واجتماعية. وقال لي محمد زين ونحن نجلس حول طاولة في بهو الفندق: لقد طلبت إلى الصحفي المصري بالأمس أن يقدمني إليك ولكنه رفض، ثم قال: لقد قلت له إن أحمد الجار الله كلفني بأن أعرض عليك أن تكتب عمودًا يوميًّا للسياسة، ولكنه تجاهل الموضوع. وعندما جئت وصافحتنا بالأمس، رفض أن يقدمني إليك أو يقدمك إليَّ، وقلت لمحمد زين: الأمر بسيط وواضح للغاية، إنه لا يريد لنا أن نلتقي، ولكن ها نحن التقينا بالرغم من كل شيء، فما هو عرض أحمد الجار الله بالضبط؟ قال محمد زين على الفور: اكتب لنا عمودًا يوميًّا بنفس العنوان الذي كنت تكتب به في صباح الخير «هذا الرجل»، وإذا أردت أن تحدد أجرك فأنا حاضر أستمع إليك، وإذا أردت أن تترك هذه المهمة لتتم بينك وبين أحمد الجار الله فلا بأس.

وقلت لمحمد زين: الأجر ليس هو المهم، المهم عندي أن تنشروا إعلانات في الجريدة تعلنون فيها انضمامي إلى أسرة التحرير، وتذكرون للقراء أن مقالاتي في الطريق إليهم، وبعد ذلك سأكتب وبلا انقطاع. أما تحديد الأجر، فسأتركه لأحمد الجار الله، وأنا واثق بأن أحمد الجار الله لن يغبنني؛ لأنه صحفي جيد، والصحفي لا يغبن أخاه ولو كان في أقصى الأرض.

وقال محمد زين: لم أتصور أن يتم الاتفاق بيني وبينك بهذه السهولة. لقد أفهمني المصري إياه أنك ستشتمني. وقلت لمحمد زين: لقد قال لك عني شيئًا وقال لي عنك شيئًا، ومأساته أنه يكره الناس ويكذب في كل وقت، وصار محمد زين صديقًا للعبد لله منذ ذلك الحين، وأحيانًا يشرد بعيدًا عني ثم لا يلبث أن يعود وبراءة الأطفال في عينيه!

وبدأت رحلة جديدة للعبد لله في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة، وكان أول مقال لي في جريدة السياسة عن عودتي للكتابة بعد غيبة طويلة. وكان مقالي الثاني عن شاه إيران، وكان قد سحب سفراءه من الخليج، وأراد أن يظهر عضلاته فأجرى مناورات بحرية، وصرح لأحمد الجار الله في حديث له على صفحات السياسة أن «على الذين يلعبون بالنار أن يتحملوا نتائجها»، وكان يهدد دول الخليج التي تجرأت وتجاسرت وقررت إضافة وصف العربي إلى الخليج في أجهزة الإعلام الرسمية، وقلت في مقالي بالحرف الواحد: ولا أدري ما هو الإجراء الذي سيتخذه شاه إيران ضد مائة ألف دكان ومحل ومستودع في أنحاء العالم العربي؛ من مكوجي الخليج العربي إلى قهوة الخليج العربي إلى جزار الخليج العربي، وهل سيقوم بمناورات بحرية لكسر هذه الدكاكين وتحطيمها، أم سيصدر أمرًا للالتفاف حولها وتدميرها وأسر أصحابها.

ثم اختتمت المقال قائلًا: وهب أن أمي، يرحمها الله، كانت سيدة مجنونة، وأنها كتبتني في شهادة الميلاد باسم محمود الخليج العربي، فما الذي كان سيفعله شاه إيران بطائراته وغواصاته وقنابله العنقودية؟ وهل في استطاعته أن يمحو ما أثبتته أمي في شهادة الميلاد؟! وأقول لشاه إيران بعد كل الذي جرى: يا حضرة الشاهشاه ربنا يشفي الكلاب ويضرك!

وفي البداية داخلني الشك في أن أحمد الجار الله سيسمح بنشر المقال؛ فقد كان هو نفسه الذي أجرى الحديث الشهير مع الشاه والذي هدد فيه الشاه دول الخليج. ولكن عندما وقع بصري في اليوم التالي على المقال منشورًا في جريدة السياسة، احترمت أحمد الجار الله الصحفي الذي ينشر رأيه ويسمح بنشر كل الآراء. ولكن هذا المقال لم يمر بسهولة؛ فرغم أنني كنت مقيمًا في الإمارات والمقال منشورًا في الكويت، فقد شعرت بأنني تجاوزت الحدود المرسومة؛ فقد استدعاني عقب نشر المقال أحد المسئولين في الدولة وعاتبني عتابًا رقيقًا، وقال لي: إذا أردت البقاء على هذه الأرض، فلا بد أن تدرك موازين القوى في المنطقة. إن إيران تستطيع أن تسبب لنا إضرارًا شديدة دون الدخول في حرب، ولو تلفَّتَّ حولك فستجد أن كل شيء من إيران؛ الخباز والبقال وبائع الخضر وتاجر اللحم وصياد السمك والخادم والفراش.

وقبل صدور «الفجر» بيوم واحد، دسَّ عليَّ النصاب المصري الذي جاء ذكره في بداية هذا الحديث خبرًا فحواه أن هناك تعديلًا وزاريًّا في الدولة، وأن الشيخ زايد سيصبح رئيسًا لدولة الاتحاد، والشيخ سلطان حاكم الشارقة نائبًا للرئيس، ولكني شممت رائحة الفبركة في الخبر، فاتصلت بمسئول كبير في الدولة، وسألته رأيه في الخبر الذي وصل إلينا، فقال إنها مجرد أكاذيب؛ ولذلك صُدم صديقي النصاب عندما طلعت الجريدة وعلى صدر صفحاتها الأولى مانشت كبير «وزارة جديدة في الإمارات» وتحت المانشت عنوان كبير «التعديل يستهدف تغيير السياسات وليس تغيير الأشخاص». وتخاطف القراء الجريدة؛ فقد كانت جديدة في أسلوبها وجديدة في تبويبها، وكان بها أخبار داخلية مثيرة لم يكشف عنها الستار بعد، وأستطيع أن أزعم أنها كانت الطفرة الثانية بعد طفرة الاتحاد. ولكن لأن «الفجر» كانت تابعة للقطاع الخاص، ولأن صاحبها ورئيس تحريرها عبيد المزروعي كان وطنيًّا ومتحمسًا ولديه أحلام؛ لذلك كله كانت «الفجر» تتمتع بهامش أكبر من الحرية وبمجال أوسع للعراك؛ لذلك وبعد العدد الرابع ظهر بياع الجرايد لأول مرة في الشارع وفي تاريخ الإمارات.

•••

لم تمر تجربة «الفجر» طويلًا، ولم يصدر منها إلا ستة عشر عددًا بالتمام والكمال، ونشرت لكتاب عرب كبار على رأسهم الشاعر الكبير نزار قباني الذي شرفني في مكتبي في «الفجر»، والروائي الكبير الطيب صالح، وأستاذنا الفنان الراحل زكريا الحجاوي، والفنان الراحل زكي طليمات، وضمت عددًا من الكفاءات الصحفية على رأسهم منير عامر ومحمد العكش وعبد الفتاح الفيشاوي وهدى غيث وأسامة عجاج وعبد المنعم طاهر وإبراهيم المطيري. ولكن الجريدة وُضعت تحت ميكروسكوب ضخم، وأحيطت سطورها بتفسيرات شتى؛ فمقال زكريا الحجاوي بعنوان برعي السعدني وبهانة الحجاوي فسروه على أن المقصود به هو أنور وجيهان السادات، ولم يكن زكريا الحجاوي يقصد شيئًا من ذلك على الإطلاق.

وبالرغم من المشاكل والمتاعب، فإن «الفجر» كان لها أصدقاء في أجهزة الدولة؛ فقد تلقينا في العدد العاشر خطابًا رسميًّا من السيد علي شمو وكيل وزارة الإعلام بدولة الإمارات في ذلك الحين ووزير الإعلام السوداني السابق يشيد فيه بدور جريدة «الفجر» في تطوير صحافة الإمارات ودفع مسيرتها خطوات واسعة إلى الأمام.

وفي العدد السادس عشر، وفي اليوم الذي أجبرت فيه على ترك منصبي في جريدة «الفجر» صدر في جريدة الاتحاد — الجريدة الرسمية للدولة — مقال بقلم شردي مدير التحرير يشيد فيه بجريدة «الفجر»، ويؤكد فيه على أن الصحافة في دولة الإمارات كسبت مواقع جديدة بظهور جريدة «الفجر» التي قطعت في أشهر قليلة خطوات واسعة يقطعها البعض في عشر سنوات.

ولقد تطورت الأمور بي وبالفجر إلى طريق مسدود؛ ففي العدد قبل الأخير، نشرت «الفجر» قصة القبض على عشرات من المهندسين الاستشاريين الذين هبروا عدة بلايين من الدراهم بمساعدة بعض المسئولين في وزارة الأشغال، ونشرنا الأسماء كاملة، وأرقام المبالغ التي هُبرت، وكذلك اعترافات المتهمين، ولم تُشر أية جريدة أخرى إلى الخبر من قريب أو بعيد، وقد ضاعفنا الكمية المطبوعة، ومع ذلك لم تستطع تلبية الطلبات التي انهالت علينا تطلب مزيدًا من النسخ.

وفي العدد الأخير نشرنا قصة سفير دولة شرقية إسلامية كبرى أدخل في حسابه الخاص مبلغًا كبيرًا تبرع به أحد المشايخ لصالح الجالية الشرقية التي تنتمي إلى جنسية السفير، ولما انكشف الأمر، ذهب كبار رجال الجالية وكشفوا له أمر السفير، وكانت فضيحة تولت وزارة الشئون الاجتماعية التحقيق فيها، ونشرنا حديثًا مع السفير، وأحاديث أخرى مع زعماء الجالية، تبادل فيها الجميع الاتهامات، ولكن موقف السفير كان ضعيفًا لأنه أضاف إلى رصيده الخاص مبلغًا لم يكن له.

وفي العدد نفسه نشرنا خبر القبض على وكيل إحدى الوزارات أثناء وصوله إلى مطار الدولة قادمًا من أوروبا، وأحدث نشر الخبر ضجة كبرى، ولكن قبل أن أرغم على ترك منصبي في جريدة «الفجر»، كان الرئيس السادات قد وصل إلى أبوظبي على رأس وفد كبير، وكان أمن الفندق في المساء أبلغني برغبة الرئيس السادات في لقائي، وأكد على ضرورة الحضور إلى دار الضيافة في الحادية عشرة صباح الغد.

وبالفعل ذهبت في الصباح إلى دار الضيافة حسب موعدي مع عثمان، ولكن مسئول الأمن المكلف بحراسة الوفد المصري أثناء وجوده في دولة الإمارات رفض السماح لي بالدخول لأن اسمي ليس واردًا في كشف المسموح لهم بالدخول، ولكن تحسين بشير المستشار الصحفي للرئيس السادات وقتئذٍ سمح لي بدخول القصر ثم وضعني في حجرة داخلية لم أخرج منها إلا بعد أن غادر السادات ووفده القصر إلى المطار في طريقه إلى البحرين.

وخُيل إليَّ أن الرئيس السادات رفض لقائي، وأنها كانت محاولة من جانب عثمان باءت بالفشل، ولكني في المساء تلقيت مكالمة تليفونية من البحرين ومن المستشار الصحفي تحسين بشير، وكانت المكالمة تحمل رسالة شديدة الإيجاز: الرئيس السادات يطلب إليك الحضور إلى الكويت غدًا، وسيستقبلك هناك. ولم أفهم لماذا وافق الرئيس السادات على استقبالي في الكويت ولم يوافق على استقبالي في أبوظبي، ولكني اكتشفت الأمر بعد أن وصلت إلى الكويت والتقيت بعثمان هناك؛ أن عثمان أبلغ الرئيس السادات أني سأكون عنده في الصباح، ولكنه نسي إبلاغ رجال الأمن ورجال الحاشية والسكرتير الصحفي للرئيس، وظن الجميع عندما ذهبت إلى القصر أنني أنا الذي أسعى من جانبي إلى لقاء الرئيس دون اتفاق.

المهم أنني قضيت الليلة كلها في جناح عثمان بفندق هيلتون بالكويت في انتظار الإذن لنا بالمثول بين يدي الرئيس! وكان كلما استبد القلق بعثمان، عاود الاتصال بقصر دسمان، وكان الرد الذي يتلقاه دائمًا: الرئيس مشغول. وعندما دقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، قالوا لنا إن الضيف خرج من عند الرئيس، ولكن الرئيس مرهق ويريد أن تذهب إليه في الصباح، وهكذا ذهبنا — عثمان أحمد عثمان وأنا — لمقابلة الرئيس في قصر دسمان في الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم الأربعاء في نهاية شهر مارس من عام ١٩٧٦م.

ولكن قبل أن نذهب إلى الرئيس، يجدر بي أن أروي لكم قصة طريفة حدثت للعبد لله في الليلة السابقة على لقاء الرئيس. فعندما تبدد الأمل في لقاء الرئيس في تلك الليلة، تركت عثمان ونزلت إلى بهو فندق هيلتون، لأجد كل الصحفيين المصريين المرافقين للرئيس ينتشرون في أنحاء البهو ومعهم إخوة من الكويت وآخرون من المصريين المقيمين هناك، ولمحني السفير عمرو موسى، فأقبل نحوي مرحبًا مستفسرًا عن المكان الذي كنت فيه؛ لأنه حسب تعبيره داخ من أجل العثور على مكاني دون جدوى، وقال: إن نائب رئيس الوزراء إسماعيل فهمي يريدني في أمر هام. ودهشت، ولم أكن قد تشرفت بمعرفة الدكتور إسماعيل فهمي، ولم يحدث أن التقينا ولو عن طريق الصدفة في أي وقت من الأوقات، ولكن السفير عمرو موسى لم يمهلني طويلًا، جرني من يدي على الفور إلى المصعد، ومن المصعد إلى جناح الدكتور إسماعيل فهمي، وخرج إلينا الدكتور يرتدي بيجامة عليها روب دي شامبر وينتعل شبشبًا خفيفًا في قدميه، ورحب بي ترحيبًا شديدًا كأننا أصدقاء منذ ألف عام، ثم اعتذر لي عن الغياب بضع دقائق لكي يدلي بحديث صحفي لإحدى الجرائد الكويتية، ونصحنا بالاسترخاء وأن نأخذ راحتنا أنا والسفير عمرو موسى، وأشارت أصابعه إلى زجاجة من الويسكي الفاخر ماركة «شيفاز ريجال»، وكان ودودًا أكثر من اللازم ففتح درجًا وأخرج منه كمية كبيرة من الفستق الحلبي الممتاز، وقال وهو يهم بالانصراف: لن أترككما طويلًا، سأغيب عنكما بضع دقائق؛ فأنا شديد الشوق للحديث معك، وقد لا تعرف أنك كنت في بعض الأحيان سببًا في تصديع أدمغتنا على الدوام.

وكان الدكتور إسماعيل فهمي صادقًا فيما وعد، لم يغب عنا إلا ربع ساعة ثم عاد، وبدأ حديثه على الفور فاستعرض الأحوال في مصر ولكن الحديث في مجمله كان محوره هو شخصيًّا؛ فهو الذي قام بمد الجسور بين مصر وأمريكا، وهو الذي فتح كنوز الولايات المتحدة أمام المصريين، وأبدى اشمئزازه من التهم التي تنصبُّ على رأسه من كل اتجاه بأنه عميل أمريكي، وقال: إنني عميل فعلًا، ولكن لمصر، وأنه لم يفعل إلا في حدود الاقتراح الذي كتب يومًا ما «الجدع اللي بيشتغل معاكوا في الصحافة»، وفهمت بعد ذلك بأن الجدع المقصود هو محمد حسنين هيكل ولا جدع سواه، وقلت: يا سبحان الله! لقد أصبح إسماعيل فهمي لشدة مسئولياته ومشغولياته لا يتذكر اسم محمد حسنين هيكل، وكان منذ سنوات قليلة يتمنى أن يصافحه أو أن يلقاه! ولكن هكذا الحياة، كالساقية، يوم في العالي ويوم في الواطي، وعلى الذي في الواطي أن يتحمل غدر الزمان، ولكن على الذي في العالي أيضًا أن يتذكر دائمًا أن الزمان غدار!

ولكن أكثر ما أدهشني في حديث إسماعيل فهمي، هو حملته الشديدة والضارية على شركائه في حكم مصر. فسيد مرعي هو الحرباء التي تتلون بكل لون لكي تبقى دائمًا على السطح، وممدوح سالم ضابط مباحث صعد بالتزوير والتلفيق إلى قمة السلطة في مصر، وعثمان أحمد عثمان مجرد مقاول جاهل لا يفهم شيئًا ولا يحسن أمرًا، ولكنه يشق طريقه إلى القمة بالدولار وأحيانًا بالمارك!

وفي نهاية الحديث قال لي السيد إسماعيل فهمي: لا بد أن تعود إلى مصر فورًا وبلا إبطاء، وعندما تصل إلى مصر لا تقصد أحدًا إلا أنا، وأعطاني رقم تليفونه الخاص، ورقم التلكس أيضًا، وقال: اتصل بي قبل أن تعود لأرسل لك من يخرج بك من المطار، وقال: إننا جميعًا في حاجة شديدة إلى وجودك في مصر هذه الأيام، وقال: الرئيس يريدك إلى جانبه؛ فإن لك قلمًا حادًّا، ونحن على أبواب معركة مع العرب، وسنفرد لك عمودًا خاصًّا في أية جريدة تختارها أنت، وسيكون اتصالك مباشرًا بالرئيس «الريس يديلك الخط وانت تدي».

واستوقفتني هذه العبارة طويلًا: «ونحن على أبواب معركة مع العرب، الرئيس يدي وانت تدي»! وأدركت مدى الخيبة التي تعيش فيها مصر، وأن مصر لم تعد دولة واحدة، وإنما عدة دول، والحرب على أشدها بينهم على قدمٍ وساق!

كان إحساس إسماعيل فهمي بنفسه أضخم مما يجب، وكان يشعر بحق أنه الحاكم الفعلي والوحيد، وكان ذكيًّا بلا شك، ومثقفًا بالنسبة لشركائه في المسئولية في الحكم، وكان لديه إحساس قوي بأنه الرجل الوحيد القادر على حل مشاكل مصر وإنقاذها مما هي فيه. المهم أنني تذكرت حديث إسماعيل فهمي وأنا أخطو أولى خطواتي داخل قصر دسمان مع عثمان أحمد عثمان في طريقي إلى لقاء الرئيس السادات، ولقد كان لقاءً ولا كل لقاء؛ مزيج من السخرية والمهزلة والمأساة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥