موعد مع السادات

في الطريق إلى قصر دسمان انتابتني مشاعر غريبة، ولم يكن السبب هو أنني في طريقي إلى لقاء رئيس الدولة، فأنا قابلت ملوكًا ورؤساء وقادة، ورجالًا تاريخيين، ومنذ فجر شبابي التقيت بالبانديت نهرو زعيم الهند العظيم وأحد الرجال الذين دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه، ولم أكن قد بلغت العشرين بعد، وقابلت الملك محمد الخامس ملك المغرب ونزلت في ضيافته بالرباط بعد عودته مباشرة من المنفى، وقضيت في حضرته عدة ساعات أجريت خلالها حديثًا معه نشرته جريدة الجمهورية القاهرية، وسرحت مع الرئيس الجليل الحبيب بورقيبة بعد أن أصبح رئيسًا لجمهورية بلاده، وطفت معه تونس كلها، من سوسة إلى بنزرت، ومن الكاف إلى جزيرة مالطة، ولم أكن قد بلغت الثامنة والعشرين بعد، وكنت على صلة وثيقة بالرئيس والمواطن الأول والزعيم الراحل شكري القوتلي، وحضرت مؤتمر القمة الذي انعقد في بيروت خلال العدوان الثلاثي على مصر، وعشت أيامًا مع الملوك والرؤساء الذين حضروا مؤتمر القمة في ذلك الوقت، وقابلت الملك حسين قبل ذلك في عمان في بداية عام ١٩٥٦م، وكنت صديقًا للزعيم السوداني الكبير محمد أحمد محجوب، وتشرفت بلقاء أغلب أمراء وحكام الخليج، وقابلت الرئيس حافظ الأسد، وعرفت العقيد معمر القذافي، وقابلت الرئيس صدام حسين، كما أنني التقيت بالرئيس جمال عبد الناصر ثلاث مرات؛ مرة في منزله بمنشية البكري عقب العدوان الثلاثي، وذهبت مع الزميل سامي جوهر والبكباشي سيد إبراهيم ورئيس تحرير الجمهورية وكان هو أنور السادات نفسه، وذهبنا في وفد لنقدم للرئيس عبد الناصر مجموعة من أعداد جريدة الجمهورية التي أصدرناها في بيروت وقت العدوان، والمرة الثانية كانت في العام ١٩٦٧م، وذهبت لمقابلة الرئيس مع وفود الصحفيين العرب الذين حضروا مؤتمر الصحافة في القاهرة، والمرة الثالثة كانت أثناء رحلته في السودان، وقد ذهبت إليه دون موعد، ولم أعرف أنني في طريقي إلى مقابلة عبد الناصر إلا بعد أن أصبحت أمامه وجهًا لوجه.

وأصل الحكاية أن عددًا من أصدقائي في مجلس قيادة ثورة مايو بالسودان، أذكر من بينهم خالد حسن والرائد زين العابدين والمأمون عوض أبو زيد، وكنا نتناول طعام الغداء في منزل مجاور للاستراحة التي ينزل فيها الرئيس عبد الناصر، وبعد الغداء، اقترحوا جميعًا أن نذهب إلى فندق جراند أوتيل، وفي الطريق إليه توقفوا أمام مبنى ودعوني إلى الدخول، وتصورت أنهم في طريقهم إلى صديقي، وفوجئت بهم يخرجون من قاعة ويدخلون في قاعة حتى وصلوا إلى ردهة، وكانت دهشتي شديدة عندما رأيت الرئيس عبد الناصر يجلس في صدر الردهة، وكان يبدو عليه الإرهاق ولون وجهه يميل إلى الاصفرار، وجلسنا معه ربع الساعة، وكانت هي المرة الأخيرة التي رأيته فيها قبل أن يرحل إلى رحاب الله.

لم يكن اضطراب مشاعري إذن وأنا في طريقي لمقابلة الرئيس السادات سببه أنني ذاهب لمقابلة رئيس الدولة، ولكن اضطرابي كان سببه بالتأكيد أنني ذاهب لمقابلة أنور السادات؛ فأنا أعرف الرئيس السادات منذ زمن طويل، رأيته أول مرة في بيت المرحوم زكريا الحجاوي، وكان يسكن في حارة ضيقة من حواري الجيزة، وذهبت إليه في الصباح الباكر، وفوجئت بزكريا يفتح الباب ويأمرني بالانتظار لحظة في مكاني، ثم غاب لحظات داخل البيت قبل أن يعود ومعه صحن وسألني: هل معك نقود؟ وقلت لزكريا: وماذا تعني بالنقود؛ فالعشرة جنيهات نقود، والخمسة قروش نقود؟ وقال زكريا بحسم: أسألك عن النوع الأخير، قلت: نعم. قال: إذن اذهب واشترِ لنا فولًا مدمسًا وفجلًا وليمونًا وخبزًا وقليلًا من الطرشي، واحضر على عجل لنفطر معًا، ولأقدمك لشخص عظيم سيكون له شأن في تاريخ البلد، وفعلت ما أمرني به زكريا الحجاوي.

وعلى مائدة الإفطار قدمني زكريا الحجاوي إلى شاب يكبرني بنحو عشر سنوات، له جسم رياضي وسحنة رجل من الجنوب، وكان هذا أول لقاء مع أنور السادات، ثم اصطحبني زكريا الحجاوي بعد ذلك إلى زيارة أنور السادات، وكان يسكن مع صديق له من الضباط الوطنيين اسمه حسن عزت، ولم تكن الشقة التي يقيمان فيها إلا سردابًا في بيت عبد الحميد عبد الحق باشا في الشارع المسمى الآن بشارع صلاح سالم، وفي منتصف المسافة بين كوبري عباس وميدان الجيزة، ثم جلست مع أنور السادات بعد ذلك، وسهرت معه أمسيات طويلة في كازينو شهريار، وكان يعمل في الكازينو شاب صاحب نخوة وشهم يتمتع بأخلاق ابن البلد الأصيل وكان يتغاضى عن ثمن الطلبات أحيانًا عندما يشعر أننا مفلسون. ولكن لأن الحياة تعدل أحيانًا فهذا الشاب الآن هو أحد مليونيرات العصر ورجل أعمال يدير عدة فنادق ومطاعم ومؤسسات سياحية ضخمة.

وامتدت صلتي بأنور السادات بعد الثورة عندما عملت سكرتير التحرير مجلة التحرير، وكان المرحوم أحمد قاسم جودة هو رئيس التحرير، وأنور السادات هو رئيس مجلس الإدارة، ثم اقتربت من أنور السادات أكثر عندما انتقلت للعمل كرئيس لقسم الشئون العربية بجريدة الجمهورية، وكان أنور السادات هو رئيس التحرير، وامتدت علاقتي به حتى بعد أن ترك جريدة الجمهورية وذهب لرئاسة مجلس الأمة، وتركتها أنا الآخر إلى مؤسسة روزاليوسف.

أذكر واقعةً حدثت بيني وبين الرئيس السادات في أوائل الستينيات وهي تعطي انطباعًا عن كيفية تفكير الرئيس السادات وكيفية تصرفه، فقد حدث أنني كنت في زيارة لليمن خلال الحرب بين اليمن الملكية واليمن الجمهورية، وكنت ضمن وفد صحفي يتكون من ثلاثة: الأستاذ حسن فؤاد والأستاذ صبري أبو المجد وأنا، وفوجئنا ونحن في مطار صنعاء بالمشير عبد الحكيم عامر ومعه أنور السادات يغادران على نفس الطائرة التي أقلتنا من القاهرة، وعندما رآني أنور السادات جذبني من يدي، وقال لي بلهجة ودود: عفارم عليك يا واد يا محمود اللي جيت هنا، أنا مش هخليهم يسمحولك بمغادرة اليمن إلا أما تعرف لنا إيه الحكاية، إحنا غلب حمارنا مع الناس بتبوع اليمن دول، مش فاهمينهم، حاول وانت هنا تعرف إيه الناس دول، بيضحكوا، بينكتوا، عندهم روح السخرية، ماعندهمش، ماحدش هيعرف يقعد مع الناس دول ويفهمهم إلا واحد زيك انت.

واستدعى مدير الشئون العامة للقوات المسلحة في اليمن وكان برتبة عقيد واسمه حسان — على ما أذكر — وقال له: لا تدع السعدني يغادر اليمن حتى ينتهي مما كلفناه به، وقال لي وهو يصافحني مغادرًا عندما تصل إلى القاهرة، اتصل بي على الفور، فأنا في شوق لأسمع منك نتيجة عملك الذي ستقوم به هنا.

وأذكر أنني قضيت في اليمن شهرًا في رعاية خاصة، ولم أتمكن خلال الشهر من مقابلة يمني واحد، أو الدخول في بيت واحد من بيوت اليمن اللهم إلا بيت الشيخ على ناجي القوصي شيخ قبائل الحدا، وعندما تركت اليمن لم أتصل بأنور السادات ولم يتصل بي أيضًا، وعندما اجتمعت به في مكتبه بعد ذلك بسنوات لم يذكر شيئًا عن المهمة التي كلفني بها في اليمن، ولم يبدُ عليه أنه يذكر حرفًا مما دار بيننا في مطار صنعاء!

وأذكر أنه استدعاني في العام ١٩٦٨م إلى مقابلة عاجلة في منزله بشارع الهرم، وعندما ذهبت إليه استقبلني بودٍّ وراح يسألني بصفتي مسئولًا عن التنظيم الطليعي لقسم الجيزة عن سير المعركة الانتخابية، ثم سألني عن مرشحة بذاتها، وأكدت له أن فرصتها في النجاح ضئيلة للغاية، وسكت ولم يعلق بشيء، ولكنه سألني فجأة: مين مسئولك في التنظيم يا محمود؟ ولما أجبته: شعراوي جمعه، قال على الفور بلهجته المعروفة: دا راجل عظيم يا محمود. وكان آخر لقاء بيني وبينه وهو نائب رئيس الجمهورية، وزرته في شهر رمضان وقضيت معه سهرة طويلة من العاشرة مساء حتى الفجر وتناولت طعام السحور، ولم أكن وحدي الذي قضى معه السهرة، ولكن كان الأستاذ فريد عبد الكريم أمين الاتحاد الاشتراكي لمحافظة الجيزة، وكانت المناسبة هي محاولة التوفيق بينهما، وقد بذلت جهدًا كبيرًا في سبيل ذلك، وبدا لي في نهاية السهرة أن الوفاق قد حل، ولكني كنت واهمًا لأنه أصر في عام ١٩٧١م على إصدار حكم الإعدام على فريد عبد الكريم أمام ما يسمى بمحكمة الثورة.

والحق أقول: إن ما ارتكبه فريد عبد الكريم في حق أنور السادات وحوكم، وعلى فرض أن التُّهم صحيحة، لا تستحق حكمًا أكثر من ثلاث سنوات؛ فتهمته لا تخرج عن دائرة إهانة رئيس الجمهورية، ولكنه اتهمه بالخيانة العظمى، وحكمت المحكمة بالإعدام، وتعطف الرئيس السادات وخفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.

ولم ألتقِ بأنور السادات وهو رئيس الجمهورية، وأغرب شيء أن النائب العام وجه إليَّ سؤالًا: لماذا لم تذهب لزيارة الرئيس السادات وهو رئيس الجمهورية؟ وهل صلتك بمراكز القوى لها دخل في ذلك؟ وكانت إجابتي للنائب العام: إن الذي منعني من زيارة رئيس الجمهورية هو شدة انشغالي بتثبيت دعائم حكمه باعتباري مسئولًا في التنظيم الطليعي وباعتباره الرئيس الأعلى للتنظيم.

تذكرت كل ذلك، ولهذا أيضًا اضطربت مشاعري بشدة وأنا في طريقي مع المهندس عثمان أحمد عثمان إلى حيث ينتظرنا الرئيس السادات لاستقبالنا. ولقد وقفنا على بابه بعض الوقت؛ فقد كان لديه وفد من التليفزيون الكويتي برئاسة متحمد السنعوسي للتحضير للمؤتمر الصحفي الذي كان سيعقده عقب لقائي به مباشرة. ولقد بدت الدهشة على وجه محمد السنعوسي عندما رآني أقف على باب السادات، فقد كان يعلم أني طريده. وقد رحب بي فوزي عبد الحافظ سكرتير السادات الخاص واحتضنني بقوة ولكني اكتشفت بعد لحظة أن الأحضان لم تكن بسبب الشوق، ولكن لتفتيشي. وقلت لفوزي عبد الحافظ — وهو صديق قديم — أنا لا أحمل سلاحًا يا عم فوزي، أنا أحمل قلمًا لا أكثر ولا أقل. وابتسم فوزي عبد الحافظ وطرق الباب عدة طرقات قبل أن يأذن لنا بالدخول، أخيرًا، ها هو الرئيس السادات والعبد لله أمامه وجهًا لوجه.

ودخلت الحجرة التي يجلس فيها الرئيس السادات أولًا، يتبعني المهندس عثمان أحمد عثمان. كان السادات جالسًا على مقعد فوتيه له مسند مستطيل، ترتفع حافته، وعندما ألقيت نظرة خاطفة عليه، لم أشعر لحظة بأن هذا الجالس أمامي هو أنور السادات رئيس مصر، ولكنه أنور السادات ضابط الجيش المفصول الذي رأيته أول مرة في بيت زكريا الحجاوي، بالرغم من أنه كان يحاول جاهدًا أن يبدو كفرعون، فردَ ظهره تمامًا ووضع ساقًا على ساق وتقلصت عضلات وجهه وراح يمضغ الهواء بين أضراسه في حركة عصبية ظاهرة، ولم أتوقع بالطبع أن ينهض الرئيس السادات واقفًا عند لقائي؛ ولذلك اتجهت إليه مباشرة، فمد يده في حركة بطيئة وقلت بصوت عالٍ وأنا أصافحه: عليَّ الطلاق ما انت واقف يا ريس. وبدا على شفتيه شبح ابتسامة سرعان ما أجهضها، وكان مصدر عصبيته بلا شك هو هذا الموقف الذي وجد نفسه فيه فجأة؛ فالمفروض أنني من أعدائه، والأكيد أنني تطاولت عليه بالنكتة والشائعة، وهي أمور ثابتة في محاضر التحقيق وفي أشرطة التسجيل، وكان لا بد أن يلقاني بتهجم وينهرني بشدة، ولكن لأني محمود السعدني، ولأن بيني وبينه روايات وحكايات طويلة، فكان لا بد أن يضحك، ومن هنا كانت عصبيته؛ فهو يخشى أن ينفجر ضاحكًا فجأة، فينهار الموقف الدرامي.

وعندما جلست أمامه، ألقيت عليه نظرة فاحصة، إنه يبدو مرهقًا للغاية، وتحت عينيه طبقة شديدة من السواد، وفي أنحاء وجهه تجاعيد ظاهرة، وكان لونه شاحبًا، وقبل أن يهمَّ بالكلام بادرته قائلًا: اللهم صلِّ على النبي يا ريس، وشك زي القمر! ويشهد الله أنني كنت كاذبًا فيما أقول ولكنه ارتاح للإطراء، وخفَّت حدة توتره، وقال بلهجة عادية وبصوت خفيض: أنا مرهق يا واد. وقلت على الفور: إذا كان الإرهاق يعمل فيك كده يا ريس، خليك مرهق على طول. واستند بظهره على مسند الكرسي، وأرعش قدمه اليمني التي تنام على ساقه اليسرى، وقال وقد عاد الهدوء إليه: أنا بابني مصر يا وله، مصر بقت حاجة تانية يا وله، أنا عاوزك جنبي يا وله، تعالَ ابني معايا يا وله.

واستوقفتني عبارة تعالَ جنبي. أذكر أن الأمير قطز بطل معركة عين جالوت التي أباد فيها صنف التتار فقد حياته بسبب عبارة مثل هذه؛ فقد حدث بعد انتصاره في المعركة أن طلب إليه الظاهر بيبرس أحد قواده أن يفي له بوعده، ويمنحه ولاية حلب، ولكن السلطان قطز قال له: لا سيبك من حلب ذي، أنا عاوزك في مصر جنبي، فخاف الظاهر بيبرس من عبارة عاوزك جنبي وفسرها على أنها حكم بسجنه في القلعة، فقد كان مقر السلطان والسجن متجاورين ويضمهما سور القلعة، وفي الحال طعنه الظاهر بيبرس وقتله، وجلس مكانه على عرش مصر، ولكن السادات لم يكن قطز، ولا أنا الظاهر بيبرس، فبلعت الكلمة وسكت، وقبل أن أفيق من شطحتي البعيدة، كان السادات يسألني: الواد الممثل ما جالكش وقال لك أنا عاوزك؟ وسألته: الواد الممثل مين يا افندم، حسن صبري الخولي؟ وكان حسن صبري الخولي يشغل منصب الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية في ذلك الوقت. وقال السادات على الفور: لأ، لأ، أنا أقصد الواد الممثل الثاني، أخوك، هو اسمه إيه يا وله؟ قلت: صلاح السعدني يا ريس أجاب: أيوه ده، أنا قلت لممدوح سالم: ابعت الواد الممثل يجيبه. ونفيت للسادات أن يكون شقيقي صلاح السعدني قد اتصل بي أو قابلني منذ خروجي من مصر، وبدت الدهشة على وجه السادات، وهز رأسه هزة شديدة ونظر نظرة ذات معنى إلى المهندس عثمان أحمد عثمان، وفهمت من الهزة والنظرة أن ممدوح سالم لم ينفذ الأمر، ولكن السادات عاد فاعتدل من جديد وشد قامته وراح يمضغ الهواء بأضراسه، وقال: لكن يا وله إنت ساعة المعركة وقفت ضدي، وأنا كنت فاهم إنك هتقف جنبي، لكنك وقفت جنب الجماعة التانيين، وتآمرت عليَّ!

وقلت للرئيس السادات في بساطة شديدة: هو كان فيه عركة يا ريس؟ أنا ما عرفتش إن فيه خلاف إلا في التحقيق، وبعدين سيادتك ما بعتليش ليه حد يقوللي إن فيه خلاف؟ وكان سؤالي وجيهًا ومنطقيًّا وواضحًا وبسيطًا ولذلك سارع الرئيس إلى تغيير مسار الحديث، وقال بلهجة واثقة وكأنه ينطق حكمًا لا نقض فيه ولا إبرام: ولكن انت كنت خايف منهم يا وله! وترددت لحظة في الإجابة وقلت على الفور: فعلًا يا ريس، أنا كنت خايف منهم، فعقب على الفور قائلًا: عندك حق يا وله، أنا كمان كنت خايف.

والتقطت الخيط من السادات وأخذت راحتي تمامًا وقلت: طيب إذا كنت انت رئيس الجمهورية وخايف، أمال أنا أعمل ايه يا ريس؟! وعاد الرئيس السادات يقول: عندك حق يا وله. براءة. ثم صمت قليلًا وقال: ورحت ليبيا يا وله؟! قلت: أيوه يا ريس. عاد يقول: وقابلت القذافي مرة؟ قلت: نعم، تلات مرات. وسألني السادات في دهشة: تلات مرات يا وله؟ قلت: نعم، تلات مرات، وزرت ليبيا أكثر من مرة، وأعلم أن بعض الموظفين نقلوا إليك أنني هاجمتك من إذاعة ليبيا وأني كتبت ضدك في جرائدها، ولكني يا ريس اتحداهم جميعًا أن يثبتوا بالدليل المادي صحة هذه المزاعم التي نقلوها إليك، ولكنه شيء طبيعي هذا السلوك من جانبهم؛ فأنا أعرف مدى حقارة هذا الموظف وأعرف مدى نذالته، فنظر إليَّ السادات نظرة فاحصة وقال:

مين هو يا وله؟ وذكرت له اسم أحد الموظفين الكبار الذين عملوا فترة في سفارة مصر في ليبيا، وعندئذٍ سألني السادات سؤالًا غريبًا: هو قريبك يا وله؟ قلت للرئيس السادات مازحًا: بالقطع مش قريبي، وإن كان هو يزعم ذلك لكي ينتسب إلى علية القوم. وضحك السادات لأول مرة ضحكة صافية وقال والضحكة لا تزال ترن في حلقه: الله يخيبك، ثم قطع الضحكة وعاد يسألني في لهجة أشبه بالتحقيق: لكن انت كتبت في جريدة «السفير» يا وله! قلت: نعم، وكتبت تسعين مقالًا على وجه التحديد، وهاجمت فيها كل شيء وأي شيء، ولكني لم أمسَّ شعرة واحدة من رأسك.

وقال السادات وقد عاوده الهدوء: براءة يا وله. ثم حدق في وجهي وخبط مسند الكرسي براحة يده وقال: بس انت لسانك وسخ قوي يا وله وعاوز قطعه! وعقَّب عثمان على حديث الرئيس، وكانت المرة الأولى التي يفتح فيها فمه، وكانت تبدو في لهجته روح المزاح: ودا موش يستاهل قطع لسانه بس، دا يستاهل قطع رقبته. والتفتُّ إلى المهندس عثمان وقلت له زاجرًا: إوعى تشتم يا عم عثمان، أنا باحذرك، الرئيس بس هو اللي بيشتم.

وضحك السادات ثم قال: إنت تعرف عثمان من زمان؟ وأجبته بالإيجاب. ثم قلت: ولكني أعرف سيادتك قبل منه، لكن هو اللي جابني لك النهارده، والأصول أنا اللي أجيبه يا ريس. وعلى فكرة وهو جايبني النهارده وداخل القصر، كان فاهم ان له نفوذ هنا، وعند الباب واحنا داخلين للعساكر وقال لهم: سيبوه، دا معايا. فسأله العسكري: إنت مين؟ فقلت لهم: سيبوه دا معايا، فضربوا له سلام.

كانت نكتة بالطبع، ولكن السادات لم يأخذها على هذا النحو، فسألني وهو شديد الدهشة: إنت مشهور هنا يا وله؟ فقلت: أنا مشهور هنا وفي العالم العربي كله يا ريس. قال: عجايب! مع إنك بتستخدم العامية المصرية كتير يا وله! وقلت له: العامية المصرية هي لهجة العرب يا ريس، والهموم المصرية هي هموم عربية، والاهتمامات المصرية هي اهتمامات عربية.

وهنا قال الرئيس السادات تعليقًا لم أفهم أبعاده وقتئذٍ ولم أفطن إلى معناه: أيوه، لكن دوخوني يا وله، واحنا مش هندبح نفسنا عشانهم، أنا عاوز انقذ مصر يا وله. وقلت للرئيس السادات دون أن أفهم ماذا كان يقصد بالضبط: لقد كتبت مقالًا بهذا المعنى بالأمس نشرته في جريدة السياسة. وقال على الفور: قرأته وانبسطت، كان مقالًا جيدًا، والنهارده قرأت مقالات الناس اللي شتمينك، ما انتش خايف منهم يا وله؟ وقلت له مازحًا: دا رزق من عند الله يا ريس، أنا باصحى كل يوم يا ريس اطلب من الله أن يرزقني بمن يشتمني كي أتمكن من شتيمته، واليوم رزقني الله بثلاثة دفعة واحدة، وهو رزق أشكر الله عليه.

وضحك الرئيس السادات عميقًا وسألني: إنت بتشتغل فين دلوقت؟ في جريدة السياسة بس؟ قلت للرئيس السادات: أنا أكتب عمودًا يوميًّا في السياسة، وأعمل في نفس الوقت مديرًا لتحرير «الفجر» في أبوظبي، وأتقاضى عن عملي في الجريدتين خمسة عشر ضعف ما كنت أتقاضاه وأنا رئيس التحرير صباح الخير، فقال السادات: الفلوس مش كل حاجة يا وله. فقلت: ما انا كنت راضي بس سيادتك منعتني من الكتابة وفصلتني من المجلة وشغلتني مقاول عند المهندس عثمان، وقال: عثمان معلقًا: إنت تطول تبقى مقاول عندي؟! فقلت له: يا سيدي أنا مش طايل ولا حاجة، بس أنا مش مقاول يا عم عثمان، أنا صحفي وكاتب، ماعرفش حاجة غير كده.

وقال السادات: أنا كنت هرجعك يا وله، بس انت ماعندكش صبر. وعلق عثمان قائلًا: الريس قلبه كبير. ونظرت نحو عثمان، فوجدته يجلس على حافة الكرسي ويتعمد الظهور في صورة رجل الحاشية المنضبط المطيع، وكنت أعلم أن علاقة عثمان بالسادات ليست على هذا النحو، كان هو الوحيد بين رجال الحاشية الذي يمكن أن تطلق عليه وصف صديق السادات، وكانت العلاقة بينهما علاقة الند للند، بل إن عثمان كان في واقع الأمر هو مستشاره الحقيقي ومعلمه، وعلى درب عثمان كان يسير السادات وليس على درب السادات كان يسير عثمان، ولأن السادات كان عصاميًّا ارتفع من السفح إلى القمة فإنه بالضرورة كان شديد الإعجاب بهذا النموذج الآخر الذي حقق المعجزة وارتفع من القاع إلى القمة دون أن يستخدم سلاحًا أو كتائب عسكرية، ولكنه ارتفع بسلاح آخر، هو في الحقيقة أفضل وأبتر من كل سلاح؛ وهو سلاح المال. ولعل هذه النقطة بالتحديد كان لها تأثير السحر في عقل وقلب السادات؛ ولذلك كان في أيامه الأخيرة لا يجتمع ولا يقابل ولا يستمع إلا للمهندس عثمان. لقد كانت فترة صمت مضت ونحن جلوس — السادات وعثمان وأنا — قطعها السادات قائلًا: وفي كل السنين دي ماشفتش امك يا وله؟ وهزني السؤال بعنف وشعرت بأنني على وشك البكاء.

لحظة وسألني الرئيس السادات عن أحوال الوالدة، غلبني التأثر ولزمت الصمت واكتفيت بالنظر إليه وكانت نظرة ذات مغزى، وقلت له: إن الحكومة يا ريس هي التي فصلتني من عملي وحاصرتني، فلا أنشر ولا أذيع، ولا ترى أعمالي النور على خشبة المسرح. ورد الرئيس: مشيت ليه يا ولد؟ ما انت لو كنت انتظرت شوية كنت «غفرت لك». قلت: جنون بقي يا ريس. فردَّ معاتبًا: إنت فعلًا مجنون يا وله، وقلت ضاحكًا: مجنون وابن مجنونة يا ريس. وقال: الرئيس السادات: خلاص يا وله، إحنا من النهارده صافي يا لبن، والله ما في نفسي حاجة من ناحيتك أبدًا يا واد يا محمود، وارجع وعاوزك جنبي، بس قول هاتيجي إمتى؟ وتدخَّل المهندس عثمان أحمد عثمان في الحديث وقال: أنا اتفقت معاه ورتبت كل حاجة يا ريس. وقال الرئيس: على خيرة الله. وتدخلت في الحديث وقلت للرئيس السادات: أنا مفصول يا ريس وبقرار جمهوري، وإذا عدت إلى مصر فلا بد أن أعود إلى عملي. وقاطعني السادات قائلًا: دي كلها مسائل هايفة هنحلها على الفور.

ولا أدري لماذا تصورت أن الرئيس السادات سيصدر قرارًا فوريًّا بإلغاء قراره السابق. ولكنه لم يفعل شيئًا، ثم انحرف بالحديث إلى وجهة أخرى وراح يتحدث عن مسئولياته الثقيلة وعن إرهاقه في العمل وعن محاولاته لإعادة مصر إلى الطريق الطبيعي، وكرر عبارة الطريق الطبيعي أكثر من مرة! ثم قال كأنه يحدث نفسه: خربوها الله يخرب بيوتهم، ولم أفهم ماذا يعني الرئيس السادات بهؤلاء الذين خربوها «الله يخرب بيوتهم»!

ثم راح يتحدث عن رحلته الأخيرة في البلاد العربية، وأعلن عن ضيقه الشديد بموقف العرب، وقال: أنا مابقتش استحمل خلاص، أنا روحي بقت في مناخيري، إذا ماسمعوش كلامي هم اللي هايندموا.

ولاذ بالصمت فترة قبل أن يقول: خلاص يا واد يا محمود، إحنا اتفقنا، تعالى مصر ان كنت عاوز وهتلاقي كل شيء سهل.

كان هذا إيذانًا بانتهاء المقابلة، في هذه المرة نهض واقفًا وصافحني بود فاحتضنته وقبلته، وخرجت مع المهندس عثمان، وخرج الرئيس بعدنا مباشرة إلى المؤتمر الصحفي، وبينما استخدم الرئيس الأسانسير إلى الدور الأرضي في قصر دسمان، استخدمنا الدرج، المهندس عثمان وأنا. التفت المهندس عثمان نحوي ونحن نهبط إلى الدور الأرضي وقال: شوف بقي الريس قلبه كبير ازاي؟ وقلت لعثمان مازحًا: بس اياك يفضل قلبه كبير على طول.

وقبل أن نصل إلى نهاية الدرج، حدثت واقعة مضحكة ومحزنة أيضًا؛ فقد لمحت صحفيًّا كان زميلًا لي في زمن مضى، كانت علاقتي به حسنة وبيني وبينه مودة، فناديت عليه لأصافحه لكنه عندما رآني تسمر في مكانه لحظة ثم لاذ بالفرار، وكان منظره مضحكًا وهو يجري مسرعًا وصوتي يلاحقه حتى اختفى داخل القاعة المخصصة للمؤتمر.

ولقد كان مع الرئيس السادات وفد صحفي كبير، بعضهم صافحني بفتور، وبعضهم ابتسم لي ابتسامة باهتة، الوحيد الذي صافحني بحرارة وتحدث معي بود وزارني في مكتبي عندما كان في أبوظبي، هو عبد الستار الطويلة.

كنا قد وصلنا — المهندس عثمان وأنا — إلى باب القاعة الذي سيُعقد فيها المؤتمر حيث فوجئت بالسيد إسماعيل فهمي يقف كالنمر المفترس وهو يحدق بنظرات ذات مغزى إلى المهندس عثمان أحمد عثمان، ولم أفهم في البداية سر هذه النظرات الملتهبة حتى بادر عثمان: أنا ماليش ذنب، هو اللي مسك فيه وأجبرني على مقابلة الريس. وأردت أن أخلص المهندس عثمان من هذا المطب فقلت: فعلًا أنا اللي رحت للمهندس عثمان، وأنا اللي صممت على مقابلة الريس. فقال: إسماعيل فهمي: قلت لك ماتروحش! فقلت: ما هو ده الريس بتاعنا، ومش عيب الواحد يروح له. وعندئذٍ هز رأسه وكظم غيظه وقال: طيب، طيب. ثم تركني عثمان على باب القاعة ودخل مع إسماعيل فهمي إلى المؤتمر، ونشرت خبر لقائي بالرئيس السادات بالصفحة الأولى من جريدة السياسة، ولم أنشر تفاصيل المقابلة أو شيئًا مما جرى فيها، ولكني حكيت ما دار فيها بالتفصيل في جلساتي الخاصة، وحكيته بالصوت والصورة أي إنني كنت أقوم بتقليد الرئيس السادات أثناء المقابلة، ويبدو أن هذه الحكايات ذاعت وانتشرت في الكويت؛ لذلك أوعزت السفارة المصرية إلى أحد الموظفين، وهو مصري وهارب من مصر من حكم نفقة، فكتب مقالًا في مجلة ميتة ادعى فيه بأنني عندما قابلت السادات رجوته أن يعفو عني، وأنه وعدني بالنظر في هذا الأمر كما ادعى الموظف الهايف إياه، لما السادات سمح بمقابلتي، وما كان أغناه عن إضاعة هذا الوقت الثمين مع مواطن سيعده في آخر الأمر بالنظر في أمره، المهم أن هذا الشخص نفسه سعى بعد ذلك للتعرف عليَّ واكتشفت أنه رجل طيب ومغلوب على أمره، واعترف لي بأن السفارة دفعته إلى هذا الموقف.

وعندما عدت إلى دولة الإمارات بعد لقائي بالسادات في الكويت استدعاني أحد المسئولين واستمع مني إلى تفاصيل ما دار في اللقاء، وبعد ذلك بأسبوع واحد وجدت نفسي بلا عمل فقد افتعلوا خلافًا معي في جريدة «الفجر»، واستدعاني مسئول كبير في الدولة وقال لي: تستطيع أن تذهب إلى أي مكان في العالم ونحن حاضرون. وشكرت المسئول على موقفه الطيب وقلت له: إنني ما زلت قادرًا وأستطيع العمل في أي مكان، وطلبت إليه طلبًا واحدًا هو لأولادي بالبقاء في الإمارات حتى ينتهوا من امتحاناتهم، ووافق المسئول على الفور وقال لي بود شديد: هذه بلادك، وهنا دارك، وأولادك سيبقون هنا حتى ينتهوا من امتحاناتهم، وسأعتبرهم ضيوفًا عليَّ شخصيًّا حتى يغادروا إلى مصر.

وفي المساء زارني الأستاذ علي شمو وزير الإعلام السوداني السابق، وكان يعمل وقتئذٍ مستشارًا للإعلام في دولة الإمارات، وسألني بعد أن انتهينا من احتساء الشاي عن موعد سفري، وعندما قلت له إنني لم أحدد موعد سفري بعد، قال: أتمني أن تحدد هذا الموعد في مدة أقصاها أسبوع. ولما استفسرت منه عن السبب قال: لأنني أتمني أن أكون في وداعك. وأضاف: وأنا مسافر بعد أسبوع إلى الخارج. وفهمت ما يعنيه علي شمو، فقلت له: إذن سأسافر بعد أسبوع، وبالفعل سافرت إلى الكويت بعد أسبوع، وتركت أولادي في الإمارات، وأخذت مكافأتي عن العمل لمدة عام واحد وليس لمدة عامين كما حدد العقد، ومع ذلك فأنا أشهد لعبيد المزروعي بأنه على خلق، وترك لي سيارته الجديدة أستخدمها حتى غادرت البلاد؛ وعندما اجتمعت به وأنا في طريقي إلى المطار، قلت له: إنني لم أخطئ يا أخ عبيد في حقك. لقد اتفقت معي ومنذ البداية على خط الجريدة وعلى شعارها المرفوع، ومهما حدث فلن يكون بيني وبينك خلاف؛ لأني أعلم بأنه لا دخل لك فيما حدث. وردَّ عبيد: الحمد لله أنك تعرف هذا يا أخ محمود. وكان هذا آخر لقاء بيني وبين عبيد المزروعي.

في الأسبوع الثاني صدرت جريدة «الفجر» وبدون أي تغيير، إلا أن الشعار الذي كان مرفوعًا على رأسها «جريدة الخليج العربي» كان قد اختفى تمامًا ولم يظهر لي أي أثر بعد ذلك. وحدث شيء آخر غريب؛ فقد كانت كل السفارات العربية والأجنبية إلا السفارة الإيرانية الشاهنشاهية تشترك في المجلة، وفي اليوم التالي لإبعادي عن الجريدة اشتركت السفارة الإيرانية بمائة وخمسين نسخة للتعبير عن فرحتها للانقلاب الذي حدث في الجريدة.

وتولى أمر «الفجر» بعدي شاب مصري هو أسامة عجاج، وهو واحد من أولئك الذين سافروا إلى الخليج مع بداية ظهور النفط، واشتغل بالصحافة عندما كانت الصحف مجرد نشرات حكومية مطبوعة طباعة سيئة وليس فيها أي أثر للفن الصحفي، ولم يكن لدى أحد من هؤلاء خبرة بهذا العمل من قبل، ومع ذلك وبمرور الزمن تمكن هؤلاء من اكتساب خبرة لا بأس بها وأصبحوا من أعمدة هذه المهنة هناك. واستطاعوا برغم الظروف الرهيبة والطقس شديد الحرارة وعدم وجود قراء بالحجم المطلوب، استطاعوا برغم كل شيء النهوض بهذه المهنة، والوصول بها إلى آفاق عريضة.

ومن الظواهر التي هزتني بعنف وجود عدة مواهب فذة لم تأخذ حظها في البداية، ولم أصنع لها شيئًا إلا أن فتحت لها الباب ووضعتها على أول الطريق، من بين أصحاب هذه المواهب الأديب الفلسطيني أسامة فوزي والفنان المصري محمد العكش والصحفي هندي غيث. وأعترف لكم الآن بأني استفدت من جريدة «الفجر» فائدة كبيرة، وأنها كانت تجربة هامة في حياتي، ومن خلالها استطعت أن أتعرف على الخليج من نافذة حية وساخنة، وأدركت خلالها أن الخليج ليس فقط كما يتصور البعض، هو أرض النفط والفرصة السانحة والثراء العاجل، ولكنه أيضًا أرض الرمال المتحركة والمشاكل العديدة والمطامع الخفية. وعندما طارت الطائرة إلى الكويت ألقيت نظرة على مدينة أبوظبي وتمنيت أن أعود إليها مرة أخرى، وقد استجاب الله لدعائي، وعدت وبدعوة من الإمارات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥