الحزب الثوري!
خرجت من مطار الكويت في الساعة الثانية ظهرًا إلى بيت أحمد الجار الله، كانت صدفة غريبة لأني وجدت نفسي ضيفًا على مأدبة غداء أقامها أحمد الجار الله في منزله على شرف السفير الإيراني، الذي كان قد ترك منصبه كسفير لبلاده في الكويت، وفي طريقه إلى طهران. وكان معه مستشار السفارة الإيرانية ويدعى محمود، وهو يتقن العربية وعلى علم كبير بآدابها وفنونها. ويبدو أيضًا أن المستشار محمود كان يعلم عني أشياء من خلال التقارير التي كانت ترد إليه من دولة الإمارات. ولذلك راح يسألني عن سبب تركي العمل في جريدة «الفجر»، واكتشفت أن لديه معلومات وفيرة عن الجريدة وما كان ينشر على صفحاتها.
ولقد لفت نظري أنه عندما جاء ذكر أبو نواس أثناء الحديث وقلت انه كان شاعرًا، عربيًّا باللسان وفارسيًّا بالقلب، وذكرت بيت شعر له سخِر فيه من العرب وهو: «قل لمن يبكي على رسمٍ درَس واقفًا …» أذكر أن المستشار محمود أكمل البيت على الفور: «ما ضرَّ لو كان جلس».
وجدت في الكويت جوًّا يشغلني عن الجو الذي كان في الإمارات. ففي الكويت دولة قوية ومجتمع أكثر انفتاحًا وصحافة حرة إلى حد كبير، وكان الجار الله نوعًا مختلفًا من الصحفيين الذين عرفتهم في الخليج. كان عاشقًا للمهنة ومخلصًا لها. وصل بالمهنة من أدنى درجات السلم إلى أعلاها بمزاج الهاوي وبصنعة المحترف.
عندما اتفقت على العمل معه في جريدة السياسة أصررت على كتابة عقد لمدة سنة، وقال الجار الله إنه لا يكتب عقدًا مع أحد، وأضاف: ولكني سأكتب عقدًا معك إذا أصررت على ذلك. وقلت لأحمد الجار الله. أنا لا أخشى سوء تصرف يحدث من جانبك، ولكني أخشى أمورًا قد تحدث خارجة عن إرادتك. ولكن إذا ضمنت لي عامًا على الأقل. فسأقبل العمل معك بدون عقود. وقال أحمد الجار الله: اعتبرني مسئولًا عنك ما دمت في المنفى.
وقبلت العمل مع أحمد الجار الله معتمدًا على هذا الوعد، وإن كنت بيني وبين نفسي لم أكن واثقًا بأن هذا الوعد سيأخذ طريقه إلى حيز التطبيق، خصوصًا إذا حدثت أمور أقوى مني، ومن أحمد الجار الله.
ولقد سبق للعبد لله أن سمع كلامًا مثل هذا من آخرين؛ أحدهم هو مدعي بطولة ويسارية وكفاح ونضال، ويدير جريدة مفتوحة على الجهات الأربع الأصلية، قال لي الكلام نفسه، ولكن عند التنفيذ تبخرت الوعود، ورفض أن يدفع لي أجر الشهر الأخير وقال: إن جريدتنا هي قلعة القومية والوطنية، ومن يترك مكانه في القلعة لا يجب له أن يطالبنا بحقوق.
ولكن الأمر مع أحمد الجار الله كان يختلف. عندما تطورت الظروف وحكمت بخروجي من الكويت، وكان ذلك في اليوم الأخير من رمضان في عام ١٩٦٧م، وكانت عائلتي قد وصلت إلى الكويت قبل ذلك بثلاثة أسابيع فقط، وذهبت إلى أحمد الجار الله منفعلًا متوجسًا وفي خاطري أن معركةً ستنشب بيننا لا محالة … حالة نفسية لم أستطع التخلص منها في تعاملي مع الآخرين باعتبار أن من لدغته حية يفر من الحبل، وقلت لأحمد الجار الله وأنا منفعل: لقد آن الأوان لتنفيذ ما اتفقنا عليه. وبهدوء شديد رد أحمد الجار الله: حاضرين. ولكن كلمة حاضرين تقال أحيانًا ولا يكون لها أي معنى؛ ولذلك أصررت على أن نذهب إلى منزل الأستاذ أحمد بهاء الدين ليكون حاضرًا لحظة تخليص الحقوق.
شرحت للأستاذ بهاء في عصبية قصة الاتفاق بيني وبين الجار الله وأنهيت حديثي قائلًا:
إن لي الآن أجر ستة أشهر في عنق أحمد الجار الله. وردَّ الجار الله بهدوء شديد: لا، ليس لك ستة أشهر، بل لك سبعة أشهر. لأن من حقك إجازة قدرها شهر وسأدفعه لك نقدًا.
ونزلت كلمات أحمد الجار الله كالدش البارد على رأس العبد لله. وبالرغم من ذلك لم أستطع السيطرة على عصبيتي الزائدة، فقلت في حدة شديدة: تستطيع خصم ثمن السيارة التي أستعملها؛ لأنني سآخذها معي إلى العراق. وقال أحمد الجار الله وهو يعبث بحبات مسبحة في يده: هذه السيارة هدية مني إليك، وأيضًا أرجو أن تقبل أثاث المنزل الذي تسكن فيه كهدية متواضعة. عندئذٍ أحسست بشلل في لساني ولم أستطع الكلام، هذه المعاملة لم ألقها من قبل، أغلب الذين عملت معهم قبل ذلك استغلوا ظروف هجرتي من بلدي. ولم أكن وحدي الذي وقع في هذا المطب، ولكني رأيت في بيروت زعيمًا سياسيًّا مصريًّا كان هاربًا من مصر مثل حالي، وكان يعمل محررًا في إحدى الجرائد وبمرتب خمسمائة ليرة شهرية. وهو مبلغ يقل قليلًا عن أجر فراش في جريدة. ومن خلال هذا النموذج ونماذج أخرى كثيرة أدركت المعنى الحقيقي للمثل القائل: «من خرج من داره اتقل مقداره.»
وفي صباح اليوم التالي كنت مستعدًّا للسفر إلى العراق، شحنت أولادي في السيارة الملاكي، وشحنت عفشي في السيارة النقل. ومررت على أحمد الجار الله في مكتبه، فرحب بي ترحيبًا شديدًا وسلَّمني كل مستحقاتي وفوقها ألف دينار كويتي. وقال: هذا المبلغ لمصاريف الطريق، وسلمني تذكرة سفر إلى لندن بالطائرة من بغداد، وكلف أحد رجاله بالسفر معي حتى بغداد، وقال وهو يودعني: لو احتجت إلى شيء ستجدني حاضرًا وبأمرك.
كان موقف الجار الله بمثابة نسمة طرية هبَّت على صيف حياتي في المهجر، وغادرت الكويت وأنا أتمنى أن تتاح لي الظروف بالعودة إليها والعمل مع أحمد الحار الله. والحق أقول: إن تجربتي الصحفية في الكويت كانت حافلة وغنية. قمت خلالها — إلى جانب كتابة عمود يومي — بالإشراف على ملحق أسبوعي لجريدة السياسة. ويشهد الجميع بأنه كان أنجح ملحق أسبوعي ظهر في الكويت. وكنت حريصًا على استكتاب كبار الكتاب؛ فالنقد الأدبي كتبه الدكتور علي الراعي والنقد الفني كتبه الأستاذان سعد أردش وأحمد عبد الحليم، وأعدت إلى الأضواء الفنان القديم حسن حاكم، وكان مقيمًا في الكويت قبل وصولي إليها بعشرة أعوام. دون أن يشعر به أحد، وتولى رسم حلقات الولد الشقي في السجن فبهرت كل من وقع بصره عليها. وخصصت الصفحة الأولى من الملحق لأحاديث أجريتها بنفسي مع رجال لهم شأن، لهم وزن على المستوى القومي، وشخصيات مثل الأستاذ أحمد بهاء الدين، والشيخ محمود شاكر والشيخ محمود خليل الحصري والفنان صلاح جاهين والشاعر نزار قباني والفنان الكويتي صقر الرشود والمطرب والفنان البحريني محمد زويد، وعاونني في الملحق مواهب من جنسيات عربية شتى، منهم الكاتب الأستاذ عبد اللطيف الدعيج والأستاذ حسين العتيبي والأستاذ محمد زين والأستاذ عبد القادر كراجة والأستاذ رجاء العشماوي، وغشت أيامًا حافلة في الكويت، واختزنت ذكريات عزيزة من عملي في السياسة، وكانت أيامًا من أسعد أيامي في المنفى.
ولكن هناك واقعة حدثت أعتقد أنه من الواجب سردها الآن؛ ففي الليلة الأخيرة كنت قد دعوت عددًا من الأصدقاء لتناول العشاء في منزلي، وكنت قد وجهت الدعوة لهم قبل أن يتضح لي أن هذا العشاء سيكون العشاء الأخير في الكويت، وعند خروجي من منزلي عصرًا لأوكد عليهم ضرورة الحضور، طلبت إليَّ زوجتي إحضار بعض أدوات المائدة لكي تكفي الضيوف. كانت زوجتي قد حزمت الأمتعة كلها استعدادًا للرحيل. وقلت لزوجتي سأحضر معي ما يكفي لضيفين فقط. قالت: والباقون؟ قلت: لن يحضر منهم أحد إذا عرفوا أنني سأغادر الكويت في الصباح. وما توقعته حدث بالفعل. شرحت للضيوف ما وقع لي بالضبط وأبلغتهم أنني مسافر غدًا إلى العراق. فاعتذروا جميعًا، كل منهم بسبب، ولم يحضر العشاء الأخير إلا الأستاذ أحمد بهاء الدين والسيدة حرمه. وبعد أن انتهى العشاء حضر بدون دعوة وبدون أن نتوقع حضوره، الأستاذ أحمد الجار الله والسيدة حرمه، وكانت لمسة من الجار الله حُفرت في نفسي بشدة، ونقلت العلاقة بيني وبين الجار الله من زميلٍ إلى صديق.
وعندما بدأت رحلتي إلى العراق، كانت الشمس تميل إلى المغيب، كان الطريق خاليًا إلا من عربات نقل قادمة من أوروبا عبر تركيا، وكان منظر الشمس الباهتة والصحراء المجدبة التي تحيط بالطريق يلقي على الرحلة جوًّا كئيبًا موحشًا. والحق أقول: إنني لم أكن أعرف أين ستكون محطتي القادمة. مسافر معي عائلة ومتاع، ولكن ليس إلى وجهة محددة أو محطة معلومة. ولم تكن مصر هي وجهتي بالطبع، ولكن كنت أفكر في الذهاب إلى بيروت، وأشحن العائلة والأثاث والسيارة في الباخرة من اللاذقية، على أن اذهب أنا إلى لندن كفترة راحة بين الجولات التي انهزمت فيها كلها بالنقط، وإن كنت ما زلت واقفًا على قدمي وراغبًا في القتال. ولم يكن هذا قرارًا ولكنه كان مجرد أفكار دارت في رأسي وأنا أنهب الطريق إلى البصرة.
المصيبة أن العام الدراسي كان قد بدأ، وكان أولادي الخمسة في المرحلتين الإعدادية والثانوية، وكنت قد تقدمت بأوراقهم إلى مدارس الكويت قبل قرار الرحيل. والآن والأولاد معي في السيارة وأوراقهم معي في الحقيبة، والسيارة تنهب بي الطريق إلى البصرة، والظلام حل، والعتمة أخفت كل شيء؛ لم يعد يبدو أمام عيني إلا زفت الشارع، وزفت الأحوال التي تحيط بي، وزفت المستقبل الغامض، كأنني جزيرة من المشاكل والمتاعب يحيط بها الزفت من كل جانب. تمنيت في تلك اللحظة أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء لأتشبث بالأرض التي خُلقت عليها فلا أغادرها إلى أي مكان. وراودتني فكرة رهيبة؛ لو أن سيارة من سيارات النقل المتوحشة التي تهدر على الطريق صدمتني وأراحتني من هذا الحال المؤلم الغريب! وانتزعتني شوارع البصرة من هواجسي وأفكاري. وقررت المبيت في البصرة.
•••
إذن، هذه هي البصرة؛ مدينة جميلة، تشبه إلى حد كبير مدينة حلوان في بدايات عصر عبد الناصر، ولم أكن قد رأيت البصرة من قبل وإن كنت قد قرأت عنها كثيرًا، إنها مزيج من القديم والحديث، القديم يجرها إلى الماضي، إلى مجتمع الطفيليين والحركات السرية والعنف واختلاط المبادئ والمذاهب والفكر بالسياسة، ولا أدري لماذا كانت البصرة بالذات هي موطن كل هذه الحركات الإسلامية العنيفة والغريبة؟ ربما كان السبب هو قربها من بلاد فارس حيث اختلط الإسلام بالمجوسية والشعوذة وبالحقد على الحضارة الجديدة البازغة التي دكت من الأساس حضارة قديمة مهترئة، والبصرة تنام على صدر شط العرب، وعلى مرمى حجر تستطيع أن ترى نخيل فارس.
وبين فارس والبصرة أرض مسدودة وأفكار موصولة ومدسوسة. لم يكن بين البصرة والكويت إلا مسافة ساعة بالسيارة، ولكن ما أبعد الفارق بين هنا وهناك! زفت الشوارع في الكويت يشبه زفت الشوارع في لندن، وزفت الشوارع في البصرة يشبه زفت الشوارع في القاهرة، ولكن الأسعار في البصرة هي ربع الأسعار في الكويت، والحياة هنا منظمة وإن كانت سنوات الفقر قد تركت بصمات أصابعها على وجه الزمن وفي جسم الحياة.
وأحسست براحة شديدة في البصرة. فقد خُيل إليَّ أنني عدت إلى الجيزة. ولم أكن وحدي في رحلتنا إلى بغداد، كان معي زميل صحفي وعائلته، وسبق لنا العمل معًا في بداية حياتنا في جرائد ميتة في القاهرة، وفي جرائد منتشرة. كان دائم الضجر قليل الحظ وفي حالة ضياع دائم، لم يعرف طعم الاستقرار إلا بعد الزواج، ولكن لسوء حظه اضطر إلى مغادرة مصر بعد الزواج بفترة قصيرة، وعاش مشتتًا بين بيروت وعمان وبغداد والكويت.
وكان معنا أيضًا في الرحلة مصري ثالث، وكان وحيدًا، ورفض المبيت في البصرة، وواصل السفر إلى بغداد في الليل، وكانت له علاقات ببعض أصحاب النفوذ في بغداد، وربما آثر السفر وحده حتى لا يتحمل مسئولية وجودنا معه هناك! وكان الدكتور أنيس نصر الدين وهذا اسمه، نموذجًا للمثقف المصري الأرزقي الذي يعرف كيف يكسب أقصى ما يستطيع ويخسر أقل ما يمكن. وكنت قد تعرفت عليه في نهاية الأربعينيات، وكان ماركسيًّا متعصبًا وقتئذٍ، يرى أن الحل الوحيد هو سيطرة الطبقة العاملة وقيام دكتاتورية البروليتاريا، ولكنه فجأة وبعد الحملة الشديدة بين الشيوعيين، حمل حملة شعواء عليهم هو الآخر، وادعى أن أحد أقاربه يعمل في جهاز المباحث أكد له أن كل الشيوعيين يعملون مخبرين في الجهاز!
وفجأة أصبح من أقطاب حزب الفلاح المصري الذي أنشأه عدد من المثقفين المصريين أصحاب الميول الغربية، وكان على رأسهم الدكتور أحمد حسين والدكتور عباس عمار والأستاذ فؤاد جلال والدكتور سعيد قدري، وصارت له جولات وندوات، وأصبح نجمًا من نجوم المجتمع المصري، وبعد قيام الثورة قفز إلى سفينتها بلا تردد، واشترك في إصدار قوانين لها وفي وضع نظريات «نابعة من تراثنا»، وروَّج لأفكار «لا شرقية ولا غربية»، وأصبح أحد منظِّري الثورة وفلاسفتها العظام، وشغل مناصب دبلوماسية في الخارج، وعمل فترة في جهاز المخابرات، وظل متربعًا على دكة الثورة حتى أطيح بمجموعة مايو، ولم يعد له ذلك الهيلمان الكبير، فسافر إلى الخليج، وفوجئت بوجوده هناك في عام ١٩٧٦م.
واكتشفت أنه يعيش وحيدًا هناك، تاركًا أسرته وراءه في القاهرة، وكان يزعم لمن يعرفهم بأنه مضطهد في مصر وأنه مطارد ومراقب من الأجهزة المصرية، في الوقت الذي كان فيه على علاقة حسنة بكل رجال السفارة المصرية وخصوصًا رجال الأجهزة. وعندما طلبت منه أن يكتب مقالًا في ملحق السياسة، اعتذر بأن الوقت لم يحن بعد للظهور، وأنه يفضل العمل الآن تحت الأرض، وأنه سيظهر في الوقت المناسب والمكان المناسب. ولفت نظري أنه كان دائم السؤال عن ثمن الدينار في سوق العملة، وكان مواظبًا على تحويل مبلغ معين كل شهر عن طريق القنوات غير الشرعية. وفي أول كل شهر يقيم مأدبة عشاء في منزله لبعض الموظفين المصريين المطحونين الذين لا علاقة لهم بالسياسة. وفي هذه الحفلات كان الأستاذ يفيض في الحديث عن دوره في الثورة وعن جهوده في الوقوف أمام زحف التيار الساداتي الذي يكاد يهلك البلاد والعباد.
وكان دائم التلميح عن صلاته الشديدة بالثوار الذين يعملون داخل مصر وعن دوره في تنشيط المعارضة ضد نظام العدالة الذي يحكم في القاهرة، وأحيانًا كان يضرب المائدة بقبضة يده محرضًا الموجودين على ضرورة التمسك بالثورة حتى النصر، وكان بين الحين والحين يختلس النظر لصورة عبد الناصر المعلقة فوق الجدران ويزفر زفرة حارة ويغمغم بكلمات غير مفهومة. ولذلك لم أدهش عندما أصر الأستاذ على ضرورة مفارقتنا قبل منتصف الليل ليسافر وحده إلى بغداد؛ فهو في رحلة مكاسب جديدة!
وتصورت أني لن أراه بعد ذلك، لكن الظروف شاءت أن ألتقي به وأن أشترك معه في عمل كان له أكبر الأثر في حياتي، وربما كان هو العمل الوحيد الذي علمني في الحياة أشياء رهيبة، فتح عيوني على حقائق جديدة، ومحا من نفسي أوهامًا كنت أومن بها وخزعبلات كنت شديد التعلق بها، وكشف لي هذا العمل الغريب عن حقيقة رهيبة، بأن السياسة تجارة، وأنها أروج تجارة في عصر الانحطاط الذي نعيشه الآن … ولكن هذا حديث آخر سيأتي ذكره فيما بعد.
المهم، قضينا الليل في البصرة، وفي الصباح الباكر بدأنا الرحلة إلى بغداد، وكانت الرحلة شاقة ومرهقة، فلم يكن الطريق الدولي قد أنشئ بعد، ولما كانت هذه هي المرة الأولى التي أقطع فيها العراق برًّا، فقد هالني مدى الإهمال الذي لحق بالأرض الزراعية نتيجة عهود الملكية والإقطاع التي مضت … هل هذه هي أرض السواد كما أطلق عليها العرب الأوائل؟!
لقد تحولت الأرض إلى أرض الصغار بفضل إهمال ملاك الأرض الكبار، وزحف الصحراء على الأراضي الزراعية بالرغم من وجود دجلة والفرات.
واكتشفت وأنا على الطريق، كم هم طيبون أهل العراق وعرب؛ فقد تعطلت السيارة بالقرب من مدينة العمارة وتطوع الفلاحون لإصلاح العطب، وقدموا لنا الشاي ونوعًا من أنواع البسكويت، ورفضوا بإباءٍ ما حاولنا أن نقدمه لهم من نقود، وصاح أحدهم عندما عرف أننا من مصر: الله يرحمك يا أبو خالد! وهو الاسم الحركي لجمال عبد الناصر.
وعندما دخلنا بغداد دُهشت أن تكون هذه هي عاصمة العرب الثانية بعد دمشق، ومقر الخلافة العباسية في عصورها الزاهية. كانت فسيحة وممتدة وهادئة وتشبه إلى حد كبير مدينة القاهرة في فترة العشرينيات والثلاثينيات. كانت معظم بيوتها فيلَّات تحيط بها الحدائق، وكان شارع الرشيد هو شارع الرئيسي، ويشبه إلى حد كبير شارع محمد علي بالقاهرة.
ونزلت في أحد الفنادق في شارع السعدون، وقابلت مسئولًا عراقيًّا من وزارة الإعلام، وعندما سألني عن وجهتي قلت له ساخرًا: إنني في طريقي إلى بلد عربي مجاور يوجد به بعض أقاربي لعلِّي أستطيع أن أستقر مع أولادي هناك. تصور المسئول العراقي أنني أقصد سوريا، وسألني: إنت رايح سوريا؟ فقلت مازحًا: لا، أنا أقصد إسرائيل، فقد أصبحت هي الأخرى بلدًا عربيًّا بعد فك الاشتباك وفك الاحتكاك، وأصبح بعضنا مع إسرائيل سمنًا على عسل! وقال لي المسئول: ابحث لنفسك عن بيت وألحق عيالك بالمدارس، وانتظر معنا هنا حتى يأذن الله لك بالعودة إلى بلادك. وقبلت عرضه بامتنان، وانتقلت إلى منزل في حي المنصور أرقى أحياء بغداد، وكان منزلًا فسيحًا وقديمًا تحيط به حديقة مترامية الأطراف. كان البيت مكونًا من دورين ولكن لم أستخدم إلا الدور الأرضي. فلم يكن لديَّ أثاث يكفي لاستخدام الدورين معًا، وكان إيجار البيت ٣٥ دينارًا، وكيلو اللحم البلدي الممتاز بنصف دينار، وهي أسعار تقترب من أسعار القاهرة في حقبة الخمسينيات. وتم تعييني بوزارة الإعلام العراقية براتب قدره مائتا دينار في الشهر، وهو مبلغ أقل من المبلغ الذي أتفاضاه في القاهرة منذ ست سنوات. ولكنه كان كافيًا على أية حال لإطعام العائلة ودفع أجرة المسكن وشراء وقود السيارة. ولم يكن لي عمل في وزارة الإعلام، ولكن عوضني عن هذا الفراغ مجموعة الأصدقاء المصريين الذين كانوا يقيمون في بغداد، وكان عبد الرحمن الخميسي هو أقربهم إلى قلبي وإلى نفسي.
•••
عرفت الخميسي في بداية الخمسينيات. وكان وقتئذٍ من ألمع كتاب مصر والعالم العربي. وكان قد أعاد صياغة ألف ليلة وليلة بأسلوب عصري، ونشرها على حلقات في جريدة المصري، وأحدث نشرها دويًّا كبيرًا في كل الأوساط. وكان له برنامج إذاعي حقق نجاحًا واسعًا، قدَّم من خلاله قصص حياة كبار الفنانين. وكان يعدُّه بنفسه ويخرجه ويشترك فيه بالتمثيل. وكان يكسب كثيرًا وينفق كثيرًا. وعندما تعرفت به في قهوة محمد عبد الله كنت شابًّا صغيرًا وصحفيًّا مبتدئًا وكاتبًا مجهولًا، أكتب قصصًا قصيرة وأخشى عرضها أو نشرها؛ فلم تكن لديَّ ثقة فيما أكتبه، وكنت أعتقد أن ما أكتبه لا يصلح للنشر. وكان الخميسي أحد الذين شجعوني في بداية حياتي. وعندما فشلت مسرحيتي الأولى «فيضان النبع» حرضني على كتابة المسرحية الثانية، وكانت بعنوان «عزبة بنايوتي»، وقام الخميسي بإخراجها وقام ببطولتها، واشترك فيها عدد من صغار الفنانين الذين أصبح لهم شأن كبير فيما بعد، أذكر منهم: عادل أمام وصلاح السعدني ومحسنة توفيق وفاتن الشوباشي وفاطمة عمارة وحلمي هلالي وآخرين … وتوثقت صلتي بالخميسي، ولم أفارقه في فترة الستينيات.
وعندما خرجت من السجن في عام ١٩٧۳ لم يكن الخميسي في مصر. كان قد فر منها قبل خروجي من السجن بقليل، واختار بيروت وأقام فيها مدة، ثم غادرها إلى بغداد بعد أن هجاها بقصيدة من عيون الشعر العربي.
وعندما رأيت الخميسي في بغداد كانت أحواله فيها مضطربة، ولم يكن يقيم في بغداد بصفة مستمرة، ولكنه كان يقضي في بغداد أيامًا، ويقضي في موسكو شهورًا، وفي آخر مرة وقع بصري فيها على الخميسي كان في عام ١٩٧٧م، وكنت قد عدت إلى منزلي في حي المنصور بعد سهرة حافلة عند أحد الأصدقاء، وكانت الساعة تقترب من الثالثة بعد منتصف الليل، وعندما اقتربت من الشخص اكتشفت أنه الخميسي، وكان قد وصل إلى بغداد قادمًا من الكويت، وعندما حضر إلى منزلي ولم يجد سيارتي في مكانها، علم أنني في الخارج، ولم يشأ أن يزعج أحدًا، فانتظرني على الدكة حتى أعود، وكان الوقت صيفًا والجو رائعًا، ولكني لاحظت إجهادا شديدًا على وجه الخميسي ومرارة شديدة في نفسه، وجلسنا معًا نستذكر أيامنا الماضية في شوارع القاهرة وحواري الجيزة، ثم قمت بتوصيله إلى المطار في الصباح الباكر. وعندما سألته ونحن على أبواب المطار: طيب ومشاريعك إيه في المستقبل يا خميسي؟ قال بأسًى شديد: والله يا بني ما انا عارف.
وقلت للخميسي مازحًا: الإنسان يواجه الصياعة في بداية حياته وفي فترة الشباب، ولكن هذه هي أول مرة أرى فيها رجلًا يواجه الصياعة بعد أن عبر الستين! وقال الخميسي وهو يقطع خطوته الأولى داخل المطار: حنعمل ايه بقى؟! مكتوب علينا الشقا. وأثر اختفاء الخميسي من بغداد على نفسية العبد لله تأثيرًا شديدًا، لم يكن لي صديق حقيقي بين المصريين إلا هو، وكنت أرى فيه حفنة من تراب مصر وجزءًا من طينها وقبسًا من روحها. وهو بكل إيجابياته وسلبياته جزء من تاريخ مصر في الفترة الممتدة من الأربعينيات وحتى اليوم.
بعد أيام من سفر الخميسي، تلقيت مكالمة تليفونية من لندن، وكان الدكتور مصطفى الفقي، وهو دبلوماسي ومثقف وصديق، وكان يعمل في السفارة المصرية في لندن، وكان له دور توطيد العلاقة بيني وبين الشيخ أحمد السويدي، فقد كان زميلًا له خلال فترة الدراسة بجامعة القاهرة.
وشدني إلى مصطفى الفقي نشاطه ودراسته الواسعة في تاريخ مصر الحديث، واهتمامه على نحو خاص بالحركة الوطنية المصرية خلال الفترة التي سبقت وعاصرت وأعقبت ثورة ١٩١٩م ودور أقباط مصر في الحركة الوطنية على وجه التحديد. واختار مصطفى الفقي مكرم عبيد باشا سكرتير عام الوفد موضوعًا لرسالة الدكتوراه التي نالها بامتياز مع مرتبة الشرف. وسألت مصطفى ضاحكًا: إنت فاهم انك هاتفلت مني؟! ثم سألني عن أحوالي وعن الظروف التي اضطرتني إلى مغادرة الكويت. وسألني مصطفى عن الموعد الذي سأصل فيه إلى لندن. فلما أجبته بأنني لا أعرف الموعد بالتحديد. قال: أرجو أن أراك قبل أن أغادر بريطانيا، فأنا منقول منها إلى القاهرة.
وشكرت مصطفى الفقي على اهتمامه بأمري وسؤاله عني. ونزلت مكالمته بردًا وسلامًا على قلب العبد لله. وانشغلت بالكتابة في الصحف العراقية واكتشفت أنني صرت مشهورًا في بغداد بعد عدة مقالات قليلة. فشعب العراق شعب يقرأ ويفهم ما يقرؤه. وهو على رأي الأستاذ أحمد بهاء الدين شعب من الصعب أن يحترف إنسان فيه الكتابة؛ لأن القارئ العادي في العراق أكثر ثقافة من بعض الكتَّاب.
وأصل الحكاية أن الأستاذ أحمد بهاء الدين كان معي في السيارة، وفي الطريق إلى منزلي توقفت في شارع ١٤ رمضان لشراء بعض الأشياء. وأثناء انشغالي بعملية الشراء قلت لبعض الذين على مقربة مني من الإخوة العراقيين: اذهبوا وسلموا على عمكم بهاء في السيارة. وعندما عدت وجدت بهاء في مناقشة صاخبة مع الثلاثة. كان كل منهم يعرض وجهة نظره في مجلة العربي التي كان بهاء يرأس تحريرها في تلك الأيام. ولم نستطع التخلص منهم إلا بصعوبة وبوعد منا على أن نلتقي قريبًا. وسألني بهاء من هم هؤلاء؟ فقلت لبهاء أحدهم جزار والآخر بقال والثالث مكوجي. وقال بهاء قولته السابقة: من الصعب أن يكون الإنسان كاتبًا هنا. ولكني لم أستطع الكتابة فترة طويلة في بغداد؛ فسرعان ما توالت الأحداث سريعة ومتلاحقة.
•••
طار الرئيس السادات في مبادرته الشهيرة إلى القدس. وانتفض العالم العربي كله ثائرًا ضد الزيارة. كانت بغداد في تلك الفترة قلب العالم العربي وقبلته، ولزمت داري حائرًا لا أدري ماذا أفعل؟ وخلصني من حيرتي زيارة قام بها لمنزلي الدكتور الأرزقي ومعه شخص كان هاربًا من مصر مثل حالي ولاجئًا في المغرب. وكان قد عمل فترة رئيسًا للخدم في بيت عبد الناصر. كان الرجل — والحق يقال — ذكيًّا ومنظمًا هادئ الطبع. كان يحمل عرضًا محددًا، وهو ضرورة وجود حزب جديد في الخارج لمواجهة تحركات السادات المعادية للعروبة، ووجدت في هذا الاقتراح حلًّا لحيرتي، وانهمكت في الإعداد لعقد أول اجتماع للحزب الجديد. وفي الاجتماع وزع رئيس الحزب المهام والمسئوليات، واكتشفت أنني مسئول عن الإعلام، كان هناك مسئول للثقافة ومسئول للتعليم وأمين صندوق.
غير أني لاحظت بعد فترة أن الذين اجتمعوا ليلة إعلان الحزب، بدءوا يختفون واحدًا بعد الآخر. فتصورت في البداية أنهم ربما فقدوا الاهتمام أو فقدوا الرغبة في النضال، ولكني اكتشفت بعد فترة طويلة أنهم كانوا أذكي مني، وأنهم اكتشفوا بعد فترة وجيزة حقيقة الحزب الثوري وأنه مجرد دكان للاسترزاق وأكل العيش! ولم تمضِ أسابيع قليلة حتى انتهى الحزب إلى مجموعة عائلية صغيرة مكونة من رئيس الحزب الذي كان رئيسًا للخدم في بيت عبد الناصر. ولكن أمانة الصندوق ظلت دائمًا في حوزة الأستاذ الأرزقي!
وكان رئيس الحزب الثوري منهمكًا في إصدار نشرات، وأحيانًا كان يعقد ندوات ومؤتمرات في أكبر فنادق أوروبا. وبدت آثار النعمة على رئيس الحزب، فسكن القصور في أرقى أحياء العواصم الأوروبية. وأصابه إسهال في الإدلاء بأحاديث صحفية عن برنامجه لحكم مصر في المستقبل، وكان ينشر صوره مع الأحاديث في أوضاع مختلفة؛ مرة وهو يضع يده تحت ذقنه كالشاعر أحمد شوقي. ومرة وهو يهز وسطه كالمنتشر أحمد عدوية. ولكنه في كل أحاديثه كان يؤكد على سنوات الحرية والعزة والرخاء التي تنتظر الشعب المصري تحت حكمه السعيد!
وذات يوم في شهر أغسطس في عام ١٩٧٨م دعيت لحضور مؤتمر الحزب الكبير الذي انعقد في باريس، وحضرته القواعد الجماهيرية وهي سبع قواعد بالتحديد، بعض الأفراد المطحونين الذين ربما استهواهم السفر إلى أوروبا على حساب الحزب الثوري، ولم تحضر المؤتمر السيدة حرم رئيس الحزب والآنسة خادمته باعتباره حزبيًّا حمشًا لا يسمح للحزبيات بحضور مؤتمر للحزب يعقد في باريس! وفي باريس رفضت النزول في الفندق الكبير الذي كان معدًّا لنزول أعضاء الحزب، ونزلت في فندق صغير بالحي اللاتيني. ورفضت حضور المؤتمر.
وفوجئت في اليوم التالي برئيس الحزب يحجز غرفة مجاورة بالفندق الذي أنزل فيه. وخمنت أنه استشعر خطرًا من وراء الحركة التي قمت بها. وجاءني بعد أيام ومعه رجل آخر كدت أشعر نحوه باحترام. ولم يكن يعيش مثلنا في المهجر. ولكنه كان يقيم في القاهرة ويناضل من داخلها. وسألني عن السر في عدم حضوري مؤتمر الحزب؟ فبسطت له الأسباب التي دعتني إلى مقاطعة المؤتمر وقلت له بصراحة شديدة وأمام رئيس الحزب؛ أنني أستشعر في قرارة نفسي أن هذا الحزب هو مجرد ديكور لعمليات أخرى مجهولة، وأموال الحزب ليست معروفة المصدر. وعمليات الإنفاق سرٌّ بين أمين الصندوق ورئيس الحزب، كما أنه ليس للحزب نظرية معروفة أو اتجاه محدد. كما أن عائلة رئيس الحزب تشتغل بتجارة الملابس والذهب.
وقال الرجل الفاضل الذي كان يحاورني إن هناك سلبيات كثيرة في الحزب، وأنه سيعمل على القضاء على هذه السلبيات. ووعدني بإنجاز هذه المهمة في فترة لا تتجاوز الأشهر الستة.
وقلت له: سأنتظر الأشهر الستة خارج الحزب. فاذا استطاع القضاء على السلبيات الموجودة، فسأكون حاضرًا ومستعدًّا، وإذا فشل، فليذهب كلٌّ منا إلى حال سبيله.
وتركت باريس وسافرت إلى لندن، وهناك التقيت بصديق قديم عرض عليَّ إصدار مجلة مصرية معارضة. واقترح صديقي أن يكون اسمها «۲۳ يوليو»، ووافقت صديقي على الفكرة وقلت له إن دوري سيقتصر على إعداد المواد وتجهيزها للنشر، وسأقضي معكم عدة أسابيع حتى تقف المجلة على أقدامها، ثم أعود بعدها إلى أولادي في بغداد. ورجاني صديقي أن ابقى في لندن ثلاثة أشهر. ثم يكون لي الحرية بعد ذلك في الذهاب إلى أي مكان. وعندما سألته عن التمويل قال: سنأخذ ما يكفينا من ليبيا. وقلت للصديق: لن تأخذوا مليمًا واحدًا من ليبيا. ونظر صديقي نحوي بدهشة وبإشفاق؛ فقد ظن أنني مجنون أو موتور!