في مستنقع الشيطان!
استطاع «أحمد» أن يقوم بتسجيل شريطٍ لاجتماع اتحاد العصابات في قصر المليونير «مارتينز»، واتَّضح للشياطين الخمسة الذين ذهبوا إلى الأرجنتين أن مجموعة من العصابات تُموِّل عمليات خطف العلماء، والذهاب بهم إلى مكانٍ مجهول لهدفٍ مجهول.
كان الشياطين الخمسة الذين قاموا بالمهمة في الأرجنتين هم: «أحمد»، و«عثمان»، و«قيس»، و«إلهام» و«هدى» … وقد التحق «أحمد» بخدمة «مارتينز» كحارس خاص … والتحق كل من «قيس» و«عثمان» بالعمل كحارسَين للماشية في مراعي المليونير، بينما أقامت «هدى» و«إلهام» في كشك العجوز «فيجو»، للتدخُّل في أيِّ وقتٍ إذا دعَت الحاجة إلى ذلك …
وبعد الحصول على الشريط الخطير، سافرت «هدى» به إلى مقرِّ الشياطين السرِّي … وبعد أن استمع «رقم صفر» للشريط، وصلت إلى «هدى» تعليمات من «رقم صفر» بعقد اجتماعٍ لها وﻟ «زبيدة» وﻟ «بوعمير» وﻟ «فهد» في قاعة الاجتماعات رقم «٥».
جلس الشياطين الأربعة في القاعة الصغيرة … فسمعوا وقع خطوات «رقم صفر» الثقيلة وهو يدخل، ثم ساد صمت قصير، وتحدث «رقم صفر» فقال: إننا نضع يدنا الآن على وثيقة خطيرة، قد تُؤدِّي إلى سقوط أكبر مجموعة من العصابات في نصف العالم الغربي، ولكن من المهم جدًّا أن نتصرَّف بحذر، وأن نعتمد على أنفسنا.
وسكت «رقم صفر» لحظات ثم مضى يقول: من السهل طبعًا أن نضع هذه الوثيقة، وهي الشريط المسجَّل، في يد الحكومات التي يُهمها الأمر، ولكن التجربة أثبتت أن هذه العصابات قادرة باستمرار على الخروج من هذه المآزق ببساطة … والدليل على هذا أن حادث سقوط الطائرة التي كانت تحمل العالِم السويدي فوق جزر «فولك لاند»،وقد مرَّ وطواه النسيان كأيِّ حادث عادي، رغم أنه كان واضحًا أن هناك أصابع إجرامية وراء خطف العالم السويدي … لهذا لن نَلجأ إلى الحكومات، إلا إذا وجدنا أنفسنا غير قادرين على التصدي لهذه المجموعة من العصابات … ومؤقتًا ستعود «هدى» إلى «الأرجنتين» ومعها تعليماتي بخصوص مهمة الشياطين الخمسة هناك، وستبقى هنا فرقة عمل جاهزة للسفر فورًا إذا احتاج الأمر …
قال «خالد» معلقًا: ولماذا لا نُسافر الآن يا سيدي، ونكون قريبين من مواقع الأحداث؟ …
رد «رقم صفر» على الفور وقال: لقد استطاعت المجموعة التي سافرت أن تُبرِّر وجودها هناك، واستطاع «أحمد» أن يَدخل قصر «مارتينز»، وأن يصبح حارسًا خاصًّا للمليونير، وهو وضع مُتميِّز لا يجب أن نخسره … وذهابكم إلى هناك قد يلفت أنظار هؤلاء المُجرمين إليكم، وقد يُعرِّض حياة «أحمد» وزملائه لمخاطر نحن في غنًى عنها …
ساد الصمت لحظات بعد هذا التفسير المُقنِع الذي قدمه «رقم صفر»، ثم مضى يقول: إن تعليماتي المؤقتة للشياطين الخمسة في الأرجنتين، هي محاولة الحصول على أكبر قدرٍ من المعلومات والأدلة ضدَّ هذه العصابات، وأيضًا محاولة إنقاذ عالِم الذَّرة المصري الدكتور «جمال زهران» الذي كان خطفُه دافِعَنا الأول للتدخُّل في هذه العملية … على أن تكون بينهم وبين المقرِّ السرِّي رسائل مستمرة …
هدى: هل أستطيع السفر اليوم؟
رقم صفر: لا، في الغد … وسوف أدرس الموقف الليلة مع أعواني، وبعد التشاوُر قد نتَّخذ قرارات أخرى …
وسمع الشياطين صوت حركة كرسي «رقم صفر» وعرفوا أنه يُغادر مكانه فقاموا جميعًا، وسرعان ما كانوا يجلسون في «كافتيريا» المقر السري … وانهالت الأسئلة على «هدى» عن تفاصيل المهمة والمعارك التي خاضَها الشياطين من أجل تثبيت أقدامهم في «باهيا بلانكا» … وتمنَّى الموجودون كلهم أن يدخلوا هذه المعركة التي تدور على بُعد آلاف الأميال …
قضت «هدى» ليلة هادئة، نامت نومًا عميقًا في فراشها الوثير بالمقرِّ السري … وفي صباح اليوم التالي تحدَّث إليها «رقم صفر» في الميكروفون، وطلب منها الاستعداد للسفر خلال ساعتين، وقال لها إن قسم التنفيذ سيتولَّى تجهيز كل وسائل السفر، وإن التعليمات ستكون معدَّة، ومكتوبة بالشفرة وبالحبر السري في مظروف صغير تأخذُه معها إلى «باهيا بلانكا» …
لم يكد «رقم صفر» ينتهي من حديثه حتى قالت «هدى»: هناك احتمال أن يضطر «أحمد» إلى الاشتراك في بعض العمليات لحساب «مارتينز»، فما هي التعليمات بهذا الخصوص؟
رد «رقم صفر»: ممكن، ما عدا القتل … إن وجود «أحمد» في قلب العصابة مهم جدًّا، ولا بأس في أن يشترك في بعض العمليات، ولكن دون أن يلوث يدَيه بأعمال إجرامية خطيرة … وعلى كل حال سوف يُحسن هو التصرف، وفي جميع الأحوال حافظوا على سلامتكم وتمنياتي لكم …
أسرعت «هدى» تُعد حقيبتها، وفي الموعد كانت إحدى سيارات المقر السري تخرج من الأبواب الصخرية التي تتحرك إلكترونيًّا، وسرعان ما استقبلت الصحراء الواسعة التي تحيط بمقر الشياطين، ثم تنطلق إلى أقرب مطار.
تسلمت «هدى» المظروف من سائق السيارة، ومعه التذاكر. وبعد وصولها إلى المطار بساعة كانت تركب الطائرة، وتُحلق في طريقها إلى الأرجنتين …
عندما وصلت «هدى» إلى «باهيا بلانكا» وجدت رسالة في انتظارها في الفندق، فهمت منها أن من المهم أن تتجه فورًا إلى كوخ العم «فيجو»؛ لأن بعض الأحداث قد جرت أثناء غيابها …
وهكذا لم تنعم بلحظة راحة واحدة، وانطلقت مسرعة إلى كوخ «فيجو» في تاكسي، وعندما اقتربت من كوخ العم «فيجو» عند بداية الطريق المترب، طلبت من السائق التوقف، ودفعت الأجر ثم نزلت مسرعة … وكانت مفاجأة كاملة لها أن تجد الكوخ خاليًا، ليس به أحد، لا العم «فيجو» ولا «إلهام» …!
وقفت «هدى» تنظر حولها … لم يكن هناك أثر لشيءٍ هامٍّ … لا آثار معركة ولا حريق، ولا شيء على الإطلاق … والأغرب من هذا كله، لم تجد أي رسالة من «إلهام» توضح لها ما حدث …!
اختارت «هدى» كرسيًّا من عشرات الكراسي المحطَّمة داخل وخارج الكوخ وجلست، وأخرجت من حقيبة يدها بعض «الساندوتشات»، وأخذت تأكل في بطء وهي ترقب الشمس الغاربة تقترب من حافة الأفق، وتنزل تدريجيًّا في المحيط، مخلفة وراءها أفقًا داميًا … وساد صمت عميق، لم تكن تقطعه إلا صيحات الطيور وهي تأوي إلى أعشاشها بعد يوم طويل …
جلست «هدى» تمضغ طعامها القليل في بطء، وهي تفكر فيما يمكن أن يكون قد حدث وهي في المقر السري … وهبط الظلام والبرد وهي جالسة في مكانها دون أن يظهر أحد، لا «إلهام»، ولا العم «فيجو» … وقامت فدخلت الكوخ، وأشعلت النيران في المدفأة، وجلست بجوارها تنظر إلى ساعتها بين لحظة وأخرى …
في هذه الأثناء كانت الأحداث التي أشارت لها «إلهام» في رسالتها التي وجدتها «هدى» في الفندق؛ كانت هذه الأحداث تدور في المراعي الواسعة، وفي السهول والجبال … فقبل فجر اليوم، كان «عثمان» يقوم بحراسة الطرف الشمالي للمرعى الكبير، فسمع على البُعد صوت فِرسانٍ مُقبلين، وظن لأول وهلة أنهم من رجال «مارتينز»، فبقي جالسًا على جذع شجرة وقد وضع بندقيته أمامه، ولكنه سمع صوت باب إحدى الحظائر يُفتح، وصوت خوار الأبقار يرتفع، ولم يكن ممكنًا أن يقوم أي شخص بفتح هذه الحظائر دون إذنٍ منه … وهكذا قفز إلى ظهر حصانه وأسرع شاهرًا بندقيته ناحية الصوت، ولكنه لم يكد يقترب من الحظيرة حتى فوجئ بأكثر من خمسة أشباح تُحيط به من كل ناحية، والبنادق في أيديهم مصوبة إليه، وقال واحد منهم بصوت خَشِن: ألقِ بندقيتك يا بني!
لم يُلقِ «عثمان» بندقيته كما طلب ذو الصوت الخشن وسأل: من أنتم؟! رد الرجل: لا داعيَ لأن تعرف شيئًا، لقد جئنا لاستعارة بعض الأبقار من «مارتينز» …
وفهم «عثمان» معنى «الاستعارة»، لقد جاءوا لسرقتها، ولم يتركُوا له فرصة لحديث آخر؛ فقد شعر بفوهة بندقية تَنغرِس في ظهره، وعرف أن أي مقاومة لا تعني إلا قتله، أو على الأقل إصابته، فألقى بالبندقية على الأرض، وظل ساكنًا على ظهر جواده بينما الأبقار تدبُّ على الأرض خارجة من الحظيرة، وحولها الرجال يستحثُّونها على الإسراع …
كانت الحظائر التي يَحرسها «عثمان» في آخر طرفٍ للمراعي الكبيرة … ولثِقَة «كاردوفا» به، جعله يحرس أكبر الحظائر وأكثرها بُعدًا، وهكذا لم يكن من المتوقَّع أن تصله نجدة سريعة، وكان عليه أن يتصرَّف وحده …
كان الرجال جميعًا مُلثَّمين، لا تبدو من وجوههم سوى عيونهم البراقة، وكانوا يتصرَّفون بحزم وبسرعة، مما يدلُّ على أنهم محترفون. وسرعان ما خرجت نحو ثلاثمائة رأس من الأبقار، اقتادها الرجال عبر التلال، وأمروا «عثمان» أن يسير معهم بعد أن ربطوا يديه خلف ظهره …
كان الظلام ما زال مخيمًا، والرجال يطاردون الأبقار، ليبتعدوا بها أطول مسافة قبل طلوع الشمس، وسرعان ما وصلوا إلى نهر صغير، عبرته الأبقار مسرعة تستحثُّها صيحات الرجال … وعبر «عثمان» النهر على فرسه حتى إذا ما وصل إلى الشاطئ الآخر، وجد نفسه يغوص في مستنقعٍ مخيفٍ … وعرف الآن لماذا سلك اللصوص هذا الطريق؛ فقد سمع أساطير كثيرة تدور حول هذا المستنقع الذي يُسمُّونه «مستنقع الشيطان»، فلم يدخله أحد وخرج منه حيًّا، وهؤلاء الرجال يدخلون إليه الآن حتى يأمنوا ألا يُطاردهم أحد، فلن يَجرُؤ مخلوق على عبور النهر إلى المستنقع إلا إذا كان يعرف الطرق القليلة الآمنة في المستنقَع … وتذكَّر «عثمان» أن العجوز «فيجو» هو أحد القلائل في هذه الأنحاء الذي يعرف طرقات المستنقع جيدًا … وأخذ يتأمل الرجال السبعة الذين يقودون الأبقار، على قدر ما سمحت به تباشير الفجر الذي أخذ يبزغ، وكانت مفاجأة كاملة ﻟ «عثمان» أن يجد «فيجو» على رأسهم؛ فقد كان هو الرجل الذي يسير في المقدمة! …
كانت المفاجأة أكبر مما يتوقَّع «عثمان»! … «فيجو» العجوز من لصوص الماشية؟! وتمنى أن تكون قد خدعته عيناه، ولكن الشعر الأبيض الكثيف الذي كان يظهر من تحت القبعة المرتخية الحافة، لم يكن يترك له مجالًا للشك، خاصةً وقد اتضح لون القميص الأحمر المائل إلى السواد، والأكتاف المتدلية … «فيجو» … إنه «فيجو» العجوز صديقهم … كيف يمكن أن يُصدِّق هذا؟!
سارت قافلة اللصوص و«عثمان» مندفعًا رغمًا عنه، حتى أتت اللحظة التي لاحظ فيها أن لا أحد يراقبه … وكان قد اقترب من تل مرتفع، نبتت عليه غابة صغيرة من البوص والحشائش والأعشاب، فلكز «عثمان» فرسه، فاستدار وأسرع يَجري خلف التل، وسرعان ما اختفى عن العيون …