الرجل العجوز!
دار «عثمان» حول نصف التل، ثم لكز فرسه فوقف وألقى بنفسه على الأرض، وأخذ يَزحف مسرعًا حتى اختفى خلف كومة من البوص، وجلس قليلًا يسترد أنفاسه اللاهثة، ثم زحف مرة أخرى حتى وصل إلى قمة التل، وأخذ ينظر من خلال البوص على العصابة … كانوا يقفون في أماكنهم يتبادلون الشتائم، وسمع مِن بعيد ما يقولون، كانوا يتَّهمون بعضهم البعض بالإهمال، مما أدَّى إلى هرب الأسير … ومن هذا المكان استطاع «عثمان» أن يرى «فيجو»، وأحسَّ بالأسى لأن الرجل العجوز انضم إلى هذه العصابة … وفجأةً، صاح الزعيم مشيرًا بيده إلى الأمام قائلًا: لن نستطيع أن نجده في هذه المستنقعات، وهو نفسه لن يستطيع الخروج منها حيًّا … سوف تنهشُه الحيات أو الذئاب …!
وأحسَّ «عثمان» بقشعريرة تجتاح بدنَه؛ فهو فعلًا في قلب منطقة الحيات الضخمة، وعليه أن ينجو بنفسه سريعًا.
وانطلقَت العصابة بالأبقار، وفجأة، سمع «عثمان» طلقة بندقية، طلقة واحدة، وخُيِّل إليه أنه سمع صوت سقوط جسم على الأرض، ثم أخذت الأصوات تتباعد في مستنقعات الشيطان، حتى تلاشت بعيدًا …
كانت المشكلة التي يواجهها «عثمان» من نوع جديد … كان يُريد فقط أن يفك يديه، ثم يحاول العودة سريعًا إلى الحظيرة لإخطار الحرس بما حدث، إذا لم يكونوا قد اكتشفوه بعد، ولم تكن المشكلة صعبة على كل حال … أخذ ينحدر من فوق التل على مهل، وهو يفكر في سر الطلقة الوحيدة التي سمعها على الجانب الآخر من التلِّ … وظلَّ ينزل بهدوء حتى لا يتعثر، حتى وصل إلى أسفل التل، وتوقَّف قليلًا؛ فقد خيل إليه أنه يسمع صوتًا يصدر من مكان قريب … أرهف السمع وتكرَّر الصوت، وعرف فيه صوت إنسان يتأوَّه، وأدهشه أن يوجد إنسان آخر سواه في هذا المكان، وأخذ يتتبَّع مصدر الصوت بأذنيه حتى استطاع تحديد المكان … كان الجو باردًا، والسماء ملبَّدة بالغيوم، ولكن خيوط الشمس كانت تخترق السحب، وتضيء المكان بضوء خفيف … واستطاع «عثمان» أن يرى موطئ قدميه وهو يسير، حتى وصل إلى قرب المجهول المُتألم … واستطاع بعد لحظات أن يُصبح على بعد أمتار منه، وانحنى، وأخذ يَمشي مُحاذرًا حتى وصل إلى مصدر الصوت، وكم كانت مُفاجأة له أن يجد أن الرجل المجهول لم يكن سوى العجوز «فيجو» …!
كان «فيجو» ملقًى على الأرض، يحاول الاستناد على جذع شجرة، وقال «عثمان»: سينيور «فيجو»!
والتفت الرجل العجوز وقد بدَت في عينيه نظرة زائغة … ورأى «عثمان» على الفور أنه مُصاب بطلق ناري في جنبه الأيمن، وأسرع «عثمان» إليه وقال: حاول أن تفكَّ قيودي …
وأدار «عثمان» ظهره له وأحسَّ بأصابع العجوز الخشنة القوية وهي تفكُّ قيد يدَيه، وفي لحظات كانت يداه طليقتَين …
انحنى «عثمان» على «فيجو» ومدَّده على ظهره، ثم مزَّق قميصه في منطقة الإصابة، وتحسَّس الجرح بأصابعه، وأدرك على الفور أن الإصابة ليست قاتلة، والمشكلة في النزيف الدموي المستمر، وبسرعة دسَّ منديله في الجرح وقال: لا تخَف أيها العم «فيجو»، لقد انحرفت الرصاصة عن البطن، وسوف تُشفى إذا استطعنا العودة سريعًا …
قال العجوز: إنهم لن يذهبوا بعيدًا!
عثمان: «من هم؟!»
فيجو: عصابة الماشية …
عثمان: ألم تكن معهم؟!
فيجو: لقد أجبروني على مصاحبتهم تحت تهديد السلاح …! كانوا يريدون سرقة ماشية «مارتينز»، واللجوء إلى مكان لا يستطيع مطاردتهم فيه، واختاروا أن يهربوا عن طريق المستنقعات، وهو طريق لا يعرفه أحد إلا أنا … وهكذا أجبروني أن أذهب معهم، وعندما أرشدتهم إلى الطريق، أطلقوا عليَّ الرصاص حتى يتخلَّصوا منِّي!
عثمان: وهل نستطيع العودة؟
فيجو: نعم … لي كوخ قديم في هذه الأنحاء، به بعض الأدوات والأطعمة المعلَّبة، ونستطيع أن نلجأ إليه، ويجب أن نُسرع، لأنهم سوف يعودون …
عثمان: لماذا سيعودون؟!
فيجو: لأنني عندما أحسستُ أنهم سيغدرون بي، دللتهم على طريق مملوء بالمستنقعات والرمال المتحرِّكة … فإذا لم يسقطوا فيها، فسوف يعودون …
عثمان: هم إذن الذين أطلقوا عليك الرصاص؟
فيجو: نعم … عندما ظنُّوا أنهم قد عرفوا الطريق الصحيح، قرَّروا التخلُّص مني، وأطلق أحدهم رصاصة على ظهري، فألقيت بنفسي على الأرض، حتى لا يُكرِّر إطلاق الرصاص …
عثمان: هل تستطيع الاستدلال على الكوخ الآن؟
ابتسم «فيجو» رغم إصابته وقال: بالطبع … فقد أقمتُ في هذه المستنقعات أكثر من نصف عمري!
واستند «فيجو» على ذراع «عثمان» ومَضيا … كانت الأرض زلقة، والسماء ما زالت تتَّشح بالسحاب، والضوء خافتًا، ولكن «فيجو» العجوز كان يَعرف مواطئ قدميه، وسرعان ما شاهد «عثمان» — بين أغصان الأشجار العملاقة — كوخًا صغيرًا مُتهالكًا، أسرعا إليه، ورفع «فيجو» قطعة عريضة من الخشب، ودفع الباب فانفتح …
أسرع «عثمان» إلى صندوق خشبي أشار إليه «فيجو» ففتحه، فوجده حافلًا بالضمادات وزجاجات الدواء، وسرعان ما كان يقوم بعملية إسعاف سريعة للعجوز، وهي عملية بسيطة، تمرَّن عليها «عثمان» كثيرًا في المقرِّ السري …
أشعل «عثمان» موقدًا صغيرًا يُدار بالغاز في طرف الكوخ، ووضع عليه آنية الشاي، وأعدَّ بعضًا من الطعام المحفوظ، وبعد أقل من ربع الساعة، كانا يجلسان — عثمان والعجوز — يتناولان إفطارًا شهيًّا، ويتبادلان الأحاديث … قال «عثمان»: هل أنت متأكد من عودة العصابة؟
فيجو: ليس شرطًا بالطبع … فربما ابتلعتهم المستنقعات، أو عثروا بالصدفة على طريق يقودُهم إلى الممر الشمالي للمستنقعات، ولكنِّي أعتقد أنهم سيُفضِّلون العودة بدلًا من الهلاك …
عثمان: ومتى يعودون حسب تقديرِك؟
فيجو: ليس أقل من ثلاث ساعات … فالطريق الذي دللتُهم عليه طويل، وحافل بالعقبات والفخاخ …
عثمان: وهل نستطيع العودة مشيًا؟
فيجو: مُستحيل تقريبًا … فالمسافة طويلة، والطرق عبر المُستنقَعات حافلة بالمخاطر، وليس ثمَّة حلٌّ إلا الحصول على حصان أو أكثر …
عثمان: إذن فلندعُ الله أن تعود العصابة؛ فقد نتمكَّن من الحصول على حصان منها … وصمت «عثمان» قليلًا ثم سأل: هل معك سلاح؟
فيجو: لا، ولكن في الكوخ بندقية قديمة، لعلَّها ما زالت صالحة للاستعمال …
وقام «فيجو» إلى دولاب في جانب الكوخ ففتحَه، وأخرج بندقية قديمة من طراز «لي أنفيلد» الضخم، وأخذ يهزُّها في يدِه مُعجبًا وهو يقول: ما زالت هذه أعظم بندقية اخترعها الإنسان … إن رصاصتها كالقنبلة!
وناول «فيجو» البندقية إلى «عثمان»، دون أن يتصوَّر لحظة أن «عثمان» هذا من خبراء السلاح، وأنه يعرف كل أنواع الأسلحة الصغيرة التي اخترعها الإنسان … وأدار «عثمان» ترباس البندقية، وأدرك أنها في حاجة إلى تزْييت خفيف، لتُصبح صالحة للاستعمال تمامًا، فقال ﻟ «فيجو»: هل عندك زيت وذخيرة لها؟
قال «فيجو»: بالطبع … إنَّ صياد البراري والمستنقعات لا بد أن يكون مُستعدًّا …
ومرةً أخرى مدَّ «فيجو» يده في الدولاب وأخرج علبة زيت قديمة، ولفة بها كمية ضخمة من الرصاص.
أسرع «عثمان» يسكب بعض الزيت على ترباس البندقية وأخذ يُديره أمامًا وخلفًا ثم مسح الزيت، وملأها بالرصاص … كانت بندقية عظيمة فعلًا — كما يعرف «عثمان» — يحمل خزانها إحدى عشرة طلقة. وأحسَّ بالاطمئنان وهي بين يديه …
تمدَّد «فيجو» في فراش بالٍ بجانب الكوخ، بينما مسح «عثمان» زجاج النافذة، وتطلع إلى الخارج … كان ضوء الشمس يحاول أن يجد له طريقًا بين الأحراش والأدغال، ولكن كثافة الأشجار جعلت المشهد كأنه وقت غروب مُتأخِّر … وشاهد «عثمان» شيئًا يتحرَّك بين الأحراش وأمعن النظر إليه بقدر ما يستطيع، وتبيَّن على الفور أنه ثعبان ضخم يتحرك في هدوء، وأحس بقشعريرة تسري في بدنه عندما تصور أنه قد يلتقي بمثل هذا الثعبان في أي لحظة … وسمع صوتًا خلفه فالتفت، ولدهشته الشديدة وجد العجوز «فيجو» يغطُّ في النوم كأن شيئًا لم يحدث، وكأنهما ليسا في انتظار عصابة الماشية التي قد تقضي عليهما …
مضى الوقت و«عثمان» يفكر في «هدى»، دون أن يعلم أنها عادت من المقر السري، وفي «أحمد» الذي كان مع «مارتينز» — في هذه اللحظات — يبحث موضوع سرقة الماشية ومعه «قيس»، وفي «إلهام» التي كانت تطوف في الأحراش المحيطة بالكوخ بحثًا عن «فيجو» …! كان كل واحد من الشياطين الخمسة مشغولًا بعمل ما … ومضت الدقائق ببطء، وقام «عثمان» بإعداد الشاي مرة أخرى، فقد كان يُحسُّ بالبرد يلسعه في هذا الكوخ الرطب، خاصةً وقد ثقلت أجفانه لأنه لم ينم طول الليل …
استسلم «عثمان» للنوم رغمًا عنه، ولا يدري كم من الوقت مضى وهو نائم، ولكنه استيقظ على أصوات قريبة. وقفز مرة أخرى إلى النافذة، ونظر بزاوية منها، ورأى ما توقعه العجوز «فيجو» … كان بعض أفراد عصابة الماشية يتجمَّعون في مكان قريب بجوار إحدى الأشجار الضخمة، ومعهم عدد من الماشية …
كان «عثمان» يعرف أن عدد أفراد العصابة سبعة، لكن لم يبقَ منهم إلا ثلاثة فقط، أما الماشية فلم يبقَ منها سوى بضع عشرات كانت تَهيم على وجهها … وأدرك «عثمان» أنهم ضلُّوا الطريق كما توقع «فيجو»، وذهب منهم أربعة ضحية الرمال المتحرِّكة والحيات المفترسة، ولم يبقَ سوى هؤلاء الثلاثة، وأخذ ذهنُه يعمل بسرعة، فإن إنقاذه وإنقاذ العجوز «فيجو» من هذه المستنقعات لا يتم إلا بالحصول على حصان أو حصانين مما يَركبه هؤلاء الرجال …
ونظر إلى ساعته، كانت تشير إلى العاشرة صباحًا، ومعنى هذا أن تقدير «فيجو» كان مضبوطًا؛ فهؤلاء الرجال قد ركبوا طوال ثلاث ساعات ركوبًا متصلًا، بالإضافة إلى المسافة التي ركبها معهم وتَزيد على ساعة، وركوب أربع ساعات مُتواصلة ليس مسألة سهلة بالنسبة للراكب وللحصان أيضًا …
وأخذ «عثمان» يرقبهم … كانوا يتحدثون ويُشيرون بأيديهم عند نقطة معينة، وعندما تابع بعينه هذه الإشارات شاهد شيئًا جعله يَضرب جبهته بيده. كان حصانه …! لقد نسي كل شيء عنه بعد أن تركه، وتصوَّر أنه هام على وجهه في الأحراش وذهب ضحية الحيات، ولكنه موجود وهؤلاء الرجال في حديثهم عنه يَعنون شيئًا واحدًا، أن صاحبه قريب وأنهم سيبدءون فورًا في البحث عنه … وقد صدق استنتاجه، وانتشر الرجال الثلاثة في شكل مروحة مركزها الحصان، وأخذُوا يَقتربون من الكوخ شيئًا فشيئًا … ووقف «عثمان» مكانه يفكر بسرعة … ماذا يفعل؟ هل يوقظ «فيجو»، وماذا سيفعل العجوز؟ لا شيء … إذن فعليه أن يتصرف وحده …