الوجدان ميزة الإنسان
أحب أن أزور حديقة الحيوان بالجيزة حيث أتأمل موكب التطور، ولكني حين أقف أمام حيوان ما أجدني أتأمله، لا لأعرفه هو ولكن لأعرف الإنسان: لأعرف نفسي.
أنا في وجدان، أما هو ففي ذهول، أنا واجد نفسي في هذا الكون، أما هو فذاهل كأنه في حلم، ووجداني هو شيء فوق العواطف؛ فإن الحيوان يغضب ويجوع ويشتهي ويخاف ويغامر، وجميع هذه العواطف أحسها أنا أيضًا في الظروف التي تتطلبها، ولكني حين أحسها يزول عني وجداني بقدر إحساسي لها، فإذا كان إحساسي غامرًا مطبقًا فليس هناك وجدان، وإذا كان صغيرًا جزئيًّا فإني أجد نفسي.
أجدني إذا غضبت كثيرًا هذيت بالشتائم وقد أرفس بقدمي بلا تعقل، بلا وجدان، كأني حيوان؛ لأن العاطفة تغمرني، فإذا هدأت؛ أي: إذا خفَّت العاطفة عاد إليَّ وجداني، فأفكر وأتعقل.
ليس للحيوان إحساس تاريخي؛ لأنه يعيش بعواطفه، ولكني أنا أعيش في التاريخ، لي أمس وغد، ولي أبعاد زمنية؛ أذكر الفراعنة والرومان والعرب قبل آلاف السنين، وأبعاد جغرافية أتنبه لها كل يوم حين أقرأ عن أخبار الحرب في كوريا، أو البترول في العراق، أو تأميم المناجم في إنجلترا.
ونحن البشر نتفاوت في درجة الوجدان، فالمتعلم أكثر وجدانًا من الأمي؛ لأن الكلمات والعلوم زادت وجدانه، وأينشتين أكثر وجدانًا منا؛ لأنه يتصور الكون بآفاته التي لا نصل إليها نحن، وقارئ الجريدة اليومية أكثر وجدانًا من القارئ الذي يقرأ المجلة المصورة.
وقد قلت: إن الوجدان ميزة إنسانية، ولكي أرى بوادرها في الكلب وفي حيوانات أخرى، بوادر فقط، حين أتأمل الأسد في قفصه في حديقة الحيوان أعتقد أن وجدانه أو بوادر وجدانه قد ألغيت بالقفص؛ لأنها حرمته من اختبارات الغابة، والصيد، والإصابة، والخطأ، والتجول، والإقدام، والهرب، وكل هذا جديرٌ بأن يكسبه شيئًا من الوجدان.
•••
بل ماذا أقول! إني أحيانًا أتأمل بعض الناس فأجد أنهم ذاهلون مثل هذا الأسد في قفصه، والقفص الذي يعيشون فيه هو هذا البيت وهذا المكتب وهذا الشارع بينهما، يقطعونه ذهابًا وإيابًا كل يوم، ولا يقرءون الجريدة، ولا يشتركون في نشاط علمي أو أدبي أو اجتماعي، ولا يخرجون إلى الريف، ولا يسهرون ليلة كاملة في الخلاء.
ولو كنا على وجدان تام لكنا على سعادة تامة؛ لأننا — عندئذ — نتخلص من تراث العواطف الحيوانية، وأيضًا نعرف جميع الأسباب ونقدر جميع النتائج، وهذا بالطبع محال، ولكن على قدر وجداننا يكون المقدار الذي نناله من السعادة؛ لأنا نتعقل — عندئذ — جميع الأشياء، ومتى تعقلناها تمامًا لا يكون للعاطفة مكان.
•••
والجنون هو فقداننا للوجدان، وهو يبدأ «نيوروزًا»؛ أي: احتداد عاطفة معينة؛ كالخوف، أو الغضب، أو الكراهية، أو الحب، ثم ينتهي «بسيكوز»؛ أي: اختلاط العقل وزوال الوجدان، بل إن الوجدان قد زال قبل ذلك باحتداد العاطفة؛ أي: «بالنيوروز».
ومهمة التربية هي تغليب الوجدان على العاطفة؛ لأن معظم أخطائنا وكوارثنا ينشأ من السلوك الذي ينبني على انفعالنا العاطفي بدلًا من تفكيرنا الوجداني.
وأعظم ما يزيد وجداني هو اللغة التي أكسبتني معاني مختلفة من كلمات مختلفة، فإن كلمة «المروءة» — مثلًا — تنقلني من حدودي الفردية الذاتية إلى آفاق اجتماعية وبشرية ودينية، وعندما أشيخ ويبدأ خرف الشيخوخة في التسلط على عقلي فإن ذلك لن يكون إلا عن سبيل النسيان للكلمات التي تعين لي المعاني وتزيد وجداني، أما إذا بقيت هذه الكلمات في ذاكرتي فإن هذا الخرف لن يجد سبيلًا إليَّ؛ ولذلك يجب أن نذكر أن للغة قيمة كبرى في صحة النفس؛ سواء من ناحيتي الكم أو الكيف.
•••
إني أقارن بيني وبين الحيوان وقت الظلام في الخلاء؛ أنا أحس، بل «أجد» أن دائرة نظري قد ضاقت على الأرض بسبب الظلام، ولكن وجداني بهذا الكون قد زاد أيضًا؛ لأني أرى نجومًا تبعد عني ملايين السنين الضوئية في فضاء لا ينتهي، هذا هو وجداني، أقصى الوجدان، ولكن الحيوان يحس أن الظلام يحوطه فقط، وهو لذلك يخاف ولا يتعقل، وليس عنده غير عاطفة الخوف.
وكما أن اللغة قد زادت وجداننا، وهي علة وجداننا، فإن دراستنا للعلوم قد زادته أيضًا، فنحن نقرأ الجريدة اليومية بإحساس تاريخي، فنتأمل الحوادث ونقارن بين الأمس واليوم وبين اليوم والغد، وحين ندرس الطبيعيات — مثلًا — نكسب وجداننا النظرة التلسكوبية الفلكية أو النظرة الميكروسكوبية الذرية.
والفرنسيون يطلقون كلمة واحدة على الوجدان والضمير: «لاكونسيانس»؛ لأن الوجدان يؤدي إلى الضمير كما يؤدي إلى التعقل، وذلك لأننا ما دمنا منساقين بالعاطفة: حب وغضب، وكراهة وإقبال، ولذة وغيرة، وخوف، فإننا لن نجد أنفسنا؛ أي لن نقف كي نتأمل ونقارن ونستنتج ونحس الخطأ والصواب، نحس الضمير.
•••
أعتبر الدقائق التي نقضيها في الاتصال الجنسي أنها دقائق العاطفة المتأججة حين نكون في جنون وقتي ليس فيه أي تعقل، وسائر عواطفنا تجري على هذا المعنى، وإن كانت أخف حدة وأقل جنونًا؛ فنحن وقت الغضب والحزن والخوف والشك مجانين أو كالمجانين، نسلك سلوك الحيوان ولا نرتفع إلى المستوى البشري إلا بمقدار ما ندخر من وجدان؛ أي: تعقل.
•••
قلت: إننا نسعد بمقدار ما عندنا من وجدان؛ لأننا — عندئذ — نستطيع أن نتعقل أية نكبة تقع بنا دون أن تسلط علينا عاطفة، فلا نغتاظ ولا نبتئس ولا نخاف ولا نتشكك.
السعادة هي الوجدان، بل كذلك العظمة.
فأعظم الناس هم أكثرهم وجدانًا، مثال ذلك غاندي؛ فإننا نعده عظيمًا لأن وجدانه هو الوجدان البشري كله، وطنه هو العالم، وهمومه هي هموم أربع مئة وخمسين مليون هندي يحاول تغيير نفوسهم، وإحساسه التاريخي نحو المستقبل يمتد إلى آلاف السنين القادمة، ولذلك ماتت فيه العواطف المألوفة عندنا نحن الصغار، فلم يبالِ أن يقتني ثروة، بل حتى العاطفة الجنسية كفَّ عنها قبل أن يموت بنحو أربعين سنة، ولم يكن يغضب أو يحزن أو يخاف.
وهذا هو الشأن في الأديب العظيم؛ مثل تولستوي أو جوركي أو برناردشو، فإن عظمتهم تعود إلى أنهم قد زادوا وجدانهم وخرجوا من أسر عواطفهم، ولذلك ليست همومهم التي تؤلمهم شخصية صغيرة وإنما هي عامة كبيرة؛ فقد احتوى كل منهم هموم البشر جميعهم.
ومستقبل الرقي البشري، في ضوء التاريخ الماضي، سوف ينبني على زيادة الوجدان والحد من سلطان العواطف.