قيمة الامتناع الجنسي
سلوكنا الجنسي في احتداده وتركزه، وعلى صغر الوقت الذي يستغرقه من حياتنا اليومية، يرمز إلى سلوكنا العام؛ فنحن أنانيون خطافون مع المرأة، أو متعاونون متمدنون، أو مهرولون خائفون؛ لأننا كذلك مع سائر الناس. والسلوك الجنسي الحسن هو السلوك الحسن العام مع زملائنا ورؤسائنا وخدمنا وجميع الناس؛ ذلك لأن نشاطنا الجنسي هو جزء من نشاطنا في الحياة، حتى العيوب الجنسية السلوكية هي أيضًا جزء من عيوبنا الأخلاقية العامة.
والامتناع الجنسي هو أيضًا رمز إلى امتناع أو انكفاف أو تقلص في النشاط الحيوي العام، ويصدق هذا القول حتى عندما يكون الباعث اعتبارات أخلاقية؛ لأن هذه الاعتبارات تعم سلوكنا البشري الاجتماعي قبل أن تعم سلوكنا الجنسي الخاص.
وعندما نتأمل هذا «الامتناع» الجنسي، أو هذا الزهد الاختياري، نجد أنه ليس له وجود؛ فالممتنع يظن أنه قد زهد ونسك لأنه لا يتصل بالمرأة، ولكنه في الواقع قد تعوض من هذا الامتناع ما يقوم مقامه؛ فهو يمارس العادة السرية، أو يستسلم لخيالات جنسية في يقظته، أو يحلم أحلامًا جنسية في نومه، أو يقع في شذوذ جنسي، أو ينتهي بنيوروز؛ أي: توتر نفسي يتخذ ألوانًا مختلفة، ومعنى هذا أنه لم يقف نشاطه الجنسي إنما أحاله إلى ميدان آخر غير المرأة، في الواقع، وإن لم يتم له ذلك في الخيال.
وليس هناك أعزب أو عزباء إلا وهما في هذه الحال، وقد ذكر جانيه مثلًا لامرأة كانت تحاول تخفيف جسمها بالإقلال من الطعام، فكانت تقتصر في اليوم على بيضة أو بيضتين مع القليل جدًّا من الخبز، وقد قصت على جانيه ما لقيته في هذا الصوم أو هذا الامتناع الذي كاد يكون تامًّا عن الطعام، فذكرت أنها طوال يومها كانت تتخيل ألوانًا من الطعام تفكر فيها تفكيرًا يكاد يكون سريًّا، وكانت لهذه الخيالات لذتها، ثم كانت مع ذلك تختلس بسكويتة تخفف عنها ألم الجوع، ثم كانت أيضًا تلجأ إلى كتاب عن الطبخ تقرأ فيه وتلتذ وصف الأطعمة، وأخيرًا كانت تتمرغ على أرض الغرفة كي تتخلص من ألم الجوع.
وحال هذه المرأة لا يختلف من حال الشاب الممتنع أو المحروم من الجنس الآخر؛ فتلك كانت تتخيل الطعام، وهو يتخيل المرأة، وكانت تسرق بسكويتة، وهو يسرق اللذة بالعادة السرية للتخفيف، وهي كانت تقرأ كتابًا عن الطبخ، وهو يقرأ قصة غرامية أو مجلة إباحية، ثم هي كانت تتمرغ من ألم الجوع، وهو أيضًا يتمرغ على سريره من التوترات العاطفية الجنسية.
لا نستطيع أن نقول إن تلك المرأة قد امتنعت عن الطعام أو نجحت في محو الجوع، وكذلك لا نستطيع أن نقول إن هذا الشاب قد امتنع عن الجنس الآخر أو نجح في كظم شهوته الجنسية.
السؤال هنا: هل يستطيع أحد أن يعيش أعزب؟ وهل ينتفع من ذلك أم يستضر؟
إن أولئك الذين يقولون بمنفعة الامتناع يعللون هذه المنفعة بأن الممتنع يتسامى بعاطفته الجنسية، ولكن ليس هناك ما يدل على أن هذا التسامي ممكن إلا في حالات تتجاوز الحياة العادية إلى ما يشبه الفذاذة أو الشذوذ؛ كما هي حال الشهداء أو القديسين مثلًا، أما أن يقال إن هناك من الأدباء والفنانين من استطاعوا أن يستغرفوا في اللذة الفنية وأن ينسوا الشهوة الجنسية، فهذا ما لا يستطيع أحد أن يقيم الحجة عليه.
ولكن ليس هناك شك في أن قليلًا من الامتناع ينفع؛ إذ هو يحدث توترًا جنسيًّا قد يؤدي إلى توتر ذهني أو جسمي، ثم يؤدي هذا إلى نشاط، ولكن هذا الامتناع يجب أن يكون وقتيًّا لمدة معينة؛ أى: معتدلًا، وهو أدعى إلى أن يزيد الإقبال والاستمتاع الجنسيين، كما أن الإسراف والانغماس أدعى إلى أن ينقصاهما، ومعنى هذا أنه ليس هناك ما يمنع من حبس الطاقة الجنسية بعض الشيء لزيادة القوى جميعها؛ جسمًا وذهنًا وجنسًا، وأن الانغماس رذيلة مؤذية.
والغريب أننا نعرف ما يزيد الطاقة الجنسية، ولكننا لا نعرف ما ينقصه؛ فإن الخمر تزيدها، وكذلك الرياضة البدنية المعتدلة. وهنا التباس يجب أن نجلوه، فإن بين الرياضيين من يعتقد أن الرياضة تنقص الطاقة الجنسية وتخفف عن الأعزب، ولكن الاختبار العام يدل على أن الرياضة المعتدلة تزيد هذه الطاقة؛ ولذلك نجد أن الفحول؛ أي: تلك الذكور التي تربي للفحلة، لا تنشط للتلقيح إذا كانت مربوطة، بمقدار ما تنشط إذا كانت مطلقة تجري وتمرح. وصحيح أن الرياضة المنهكة تنقص الطاقة الجنسية، ولكن هذا الإنهاك هو للصحة العامة وليس للاشتهاء الجنسي وحده، وهذا ضرر، بل كذلك الإقلال من الطعام يؤدي إلى نقص في الشهوة الجنسية وفي نشاط الجسم العام كله.
والعلاج الصادق لهذه المشكلة هو الزواج المبكر، والعائلات المتمدنة التي أخذت بالروح العصري يسهل على شبانها وفتياتها أن يتزوجوا وهم في العشرين أو حواليها؛ وذلك لأن مشكلة الزواج هي في النهاية اقتصادية، والشاب الذي يتزوج فتاة جاهلة لا تعمل ولا تكسب يضطر إلى أن يعولها فتاة فضلًا عن أطفال، ولكن الشاب المتمدن الذي يتزوج فتاة متمدنة يجد أنها قد تعلمت مثله، وأنها تستطيع أن تعيش وتكسب، بل أكثر من هذا وأهم، وهو أنها تستطيع الامتناع عن الحمل.
وفي مثل هذه الظروف يمكن الشاب والفتاة أن يتزوجا وهما في العشرين، أو قبل ذلك أو بعد ذلك، وأن يعمل كلاهما ويكسب مع إرجاء التناسل إلى ما بعد الثلاثين مثلًا.
ولكن يجب ألا يتم الزواج قبل ذلك بسنين؛ لأن الشبان من الجنسين يحتاجون إلى إدخار القوة الجنسية، بل إلى توترها وحبسها بعض الأيام. واجتماع شاب وفتاة في زواج قبل العشرين يؤدي إلى إسراف وانغماس ينهكان الجسم والعقل معًا.
والشاب قبل العشرين لا يكاد يطمح إلى الزواج، وإنما هو في استطلاع جنسي فقط، وليس معنى هذا أنه يستطيع حبس شهوته الجنسية إلى سن العشرين، وإنما نعني أنه لا يطلب الزواج وتكوين العائلة.
إن الامتناع القهري بعد سن العشرين لا يخلو من الخطر، وربما أدى إلى ضرر عظيم، وقد يقال إن الإنسان ينتفع عندما يكافح هذه القوات الجنسية الدافعة بتقوية أخلاقه، وقد يكون هذا ممكنًا عند بعض الأشخاص الذين توافقهم طبائعهم على ذلك، ولكن مقاومة الغرائز الجنسية عند الكثرة من الناس تعد خطرًا عظيمًا، بل لعلها تضعف الأخلاق، ويحدث هذا في الوقت الذي يحتاج فيه الشاب إلى أن يملك جميع قواه كي يحظى بمكانة في المجتمع والحياة، والتغلب على القوة الجنسية بتحويلها والتسامي بها إلى الثقافة العالية ممكن عند الأقلية، وحتى هذا الإمكان لبعض الوقت، ولكن لا يكاد يتم هذا التغلب حين يكون الشاب في غلواء شهوته الجنسية.
وبعد هذا الذي ذكرناه عن قسرية الشهوة الجنسية، وأن الرغبة في الامتناع عن التفريج عنها عقيمة، بعد هذا يجب أن نقول إن هناك ظروفًا يستطاع فيها الامتناع الكلي، ولكن ليس عن إرادة مقصودة، وإنما عن حال معينة هي في الغالب عقيدة ترسخ حتى تصير عاطفة؛ كالأب يموت ابنه الوحيد فلا يقرب زوجته بعد ذلك سائر عمره، فهو هنا لم يتعمد هذا الانكفاف، وإنما هو أحس في أعماق نفسه أنه حرام عليه أن يستمتع باللذة الجنسية بعد موت ابنه، فماتت شهوته، أو هي اندغمت في هذا الحزن العظيم على ابنه، أو كالعريس يحس انقباضًا جنسيًّا نحو عروسه؛ لأنه يرفعها إلى مكانة وهمية من الطهارة تجعله يشمئز من الاتصال الجنسي بها؛ لأن في هذا الاتصال نجاسة يربأ بعروسه عنها، أو مثل غاندي الذي كف عن الاتصال بزوجته وهو في الرابعة والثلاثين من العمر، لا لأنه أراد ذلك، وإنما لأن هموم الدنيا التي حملها على عاتقيه قد غمرت هذه الشهوة واستوعبت كل نشاطه.
وكل هذه الأمثلة لا تتصل بما ذكره فرويد عن «الامتناع القهرى» الذي يعد محالًا.