السلوك الجنسي والزواج
أخلاقنا؛ أي: اتجاهاتنا الفكرية، وكذلك القيم الاجتماعية والنفسية يغرسها فينا المجتمع منذ الطفولة، فنحن ننشأ على عادات إيجابية تحملنا على الإقدام والعمل، وعادات أخرى سلبية؛ أي: محظورات، تكفنا فلا نعمل.
ومعنى هذا أن الأخلاق عادات؛ إما للإقدام وإما للكف، وهي، لأنها غرست فينا منذ الطفولة، نحس بها كأنها طبيعية لأنها قد استحالت إلى عواطف؛ فالأوربي يشتاق إلى لحم الخنزير ويأكله في نهم، المسلم يشمئز منه، وكلاهما يحس كأنه يعمل بطبيعته، ولكن الحقيقة أنه يعمل بأخلاقه فقط، وزواج الأخت الذي كان يمارس عند أجدادنا قبل ستين جيلًا، وكذلك زواج الضمد الذي كان يمارس عند عرب الجاهلية، إنما كان كلاهما من العادات الاجتماعية التي لا نذكرها إلا مع الاشمئزاز.
وبكلمة أخرى: إن ما نسميه في الأكثر عواطف طبيعية إنما هو عواطف اجتماعية فقط.
ولكل أمة عادات غالبة تستحيل إلى عواطف عند أفرادها، وأحيانًا تتبلور هذه العواطف أو تتجمع في بؤرة في أحد الأفراد، فتؤدي إلى الجريمة أو إلى الجنون؛ كالخوف، عاطفة عامة في مجتمعنا، ولكنه يتبلور عند أحدنا لظروف خاصة فيؤدي إلى القلق وربما إلى الجنون، وكالاقتناء، عاطفة عامة بيننا جميعًا، ولكنه يتبلور في أحد الأشخاص فيؤدي إلى الجريمة بالسرقة أو التزوير أو نحوهما.
ولذلك جرائم كل أمة، وكذلك نوع جنونها، يسيران مع أخلاقها؛ لأنهما احتداد أو تبلور في العاطفة التي ركبها المجتمع في نفوسنا، وكلنا مجرمون في اعتدال، وكلنا مجانين في اعتدال، فإذا غلونا وتطرفنا فطريقنا إلى السجن أو إلى المارستان، ونحن نلتذ أحيانًا في أحلامنا بالجريمة، وأحيانًا في أحلامنا نسلك سلوك المجانين؛ ولذلك قال أفلاطون على ما أذكر: إن ما يحلم به العقلاء يفعله المجانين.
ولكننا لاختلاف الظروف نختلف في الأخلاق، وليس الاختلاف أصيلًا؛ لأننا ما دمنا نعيش في مجتمع واحد فإن الأخلاق العامة واحدة، ولكن منا من يتجه نحو العدوان أو الاقتناء أو الغيرة أو التراخي أو التسامح أو الخوف، ويجري كل هذا في حدود يرضاها المجتمع؛ لأننا نعتدل ولا نغلو في ممارستها.
وفي مجتمعنا الحاضر نجد أن أعظم ما يفسد حياتنا هو الخوف الذي يؤدي إلى القلق، وربما إلى الجنون، وله مركبات كثيرة أخرى.
ويلى الخوف الاقتناء، وقد يؤدي إلى النهم في الطعام، وأيضًا إلى السرقة والتزوير، وله مركبات أخرى كثيرة.
والخوف والاقتناء عاطفتان اجتماعيتان، ولكن أثرهما كبير في العلاقات الجنسية وفي المعيشة الزوجية.
فالشذوذ الجنسي — مثلًا — يدل على القوة الشاذة في عاطفة الاقتناء بالخطف من الغير والإضرار به، بلا تعاون أو حب أو احترام، والهرولة أو التعجل في الاتصال الجنسي تدل على القوة الشاذة في عاطفة الخوف؛ لأننا نفر ونجري، فإذا رسخ الخوف في نفوسنا أصبحنا لا نؤدي عملًا إلا مع الهرولة والتعجل.
والأخلاق الاجتماعية تتبلور في الحياة الجنسية أو الزوجية؛ لأن العلاقة الجنسية تصل دوامًا إلى الحدة والغلو، وهنا نرسو على الأسس العاطفية التي نشأنا عليها، فنحن خطافون للذة الجنسية إذا كنا قد نشأنا على الاقتناء بالخطف، ونحن متعجلون في اللذة الجنسية إذا كنا قد نشأنا الخوف.
وإذا كان مركز المرأة منحطًّا في المجتمع ليس لها حقوق، وإذا كان موضوعها لا يثير غير النكتة، فإن الاقتراب الجنسي منها يضعها في مكانة منحطة بعيدة عن التكافؤ، وعندئذ يجري الاتصال الجنسي بلا تعاون، ويجري وفق النظر الاجتماعي للمرأة.
بعد هذه المقدمة نتحدث عن الزواج، ونسترشد بسيكلوجية المستقبل لأدلر، وليس بسيكلوجية الماضي لفرويد.
ويتحدث أدلر عن عادة ريفية في بعض القرى الألمانية، وهو يجد فيها رمزًا حسنًا للحياة الزوجية، ذلك أن الخطيبين حين يزمعان الزواج يعمدان قبيل العرس إلى نشر جذع شجرة، والمنشار لا يمكنه أن ينشر إلا إذا توافر التعاون بينهما، أما إذا تعاندا فلن ينشر الجذع، ولن يكون الزواج.
فالزواج تعاون وليس تعاندًا، ولذلك يجب أن يسود التعاون الحياة الزوجية.
ولكن الأناني الاقتنائي المدلل الذي نشأ على أن يقول «أنا وحدي» عندما يقبل على الزواج يسأل نفسه: ماذا أكسب منه.
أما المتعاون الذي درب نفسه على احترام الناس، وعامل وعومل بالاحترام، فيسأل نفسه عندما يقبل على الزواج: ماذا أقدم لهذا الزواج، وكيف أريده خيرًا؟
والحياة الزوجية تقتضي السلوك الاجتماعي الحسن، والاتصال الجنسي بين الزوجين هو بؤرة تبرز صفاتنا الاجتماعية الغالبة، وأسوأ شيء في الزواج أن ينظر أحد الزوجين إليه باعتباره الفرصة التي تتيح له تحقيق ملذاته ومسراته هو وحده.
ولذلك يرى أدلر بحق أننا نسعد بالزواج إذا كان كل منا قد عاش في عائلة سعيدة؛ لأن أسلوب الحياة الذي أخذنا به من هذه العائلة سينتقل معنا إلى الحياة الزوجية، فنسعد كما سعد أبوانا، والعكس يؤدي إلى العكس.
وهنا يلتفت أدلر إلى حياة العزوبة ويكاد يمازحنا ولكن مزاحه على أساس متين من الحق، فهو يقول: إن الزواج هو الاتفاق على أن يعيش اثنان معًا، وهما يعيشان كذلك بلا مرانة أو تدريب سابق، ولو أن المجتمع الذي نعيش فيه كان يعين العيش للناس اثنين، اثنين، لكان لنا من هذه المرانة ما نستعد به للزواج، ثم هو في هذا الاتجاه التفكير ينقص بالرقص؛ لأنه مرانة حسنة ابتدائية على التعاون والملاطفة والجذب والرقة والمجاملة بين اثنين، فهو يهيئ للزواج.
وأخيرًا ينصح لنا بأن الزواج بداية وليس نهاية؛ أي يجب على الزوجين أن يدرسا طرق التعاون بينهما، وأن يعملا لرقيهما المشترك، وأن يسيرا في بناء البيت ماديًّا وروحيًّا.
وقد ضحكت عندما قرأت له عن الرجل أو المرأة التي تتزوج من أجل المال، فقد رفض بحث هذا الموضوع وقال: إن الحياة أسمى من أن نجعلها نكتة.
أجل: إن الزواج من أجل المال هو نكتة، ولكنها ليست النكتة التي تضحك فقط، وإنما هي النكتة التي تدعونا إلى البصق.