لكل منا ماثلته
كلنا يزعم أنه رجل حقائق يعيش في الواقع، ولكن ليس فينا عند التأمل واحد لا يخلط الواقع بالخيال والحقائق بالأحلام.
وهذا حسن؛ لأننا بالأحلام نبني الحقائق، وبالخيال نتقدم إلى الواقع، وليست الخيالات والأحلام في النهاية سوى هذا الاختمار الذي يحتاج إليه الذهن حين يبني في الهواء ويغدو عاطفة الطموح أو الرقي أو الظفر في الحياة، بما يجسم له النجاح ويصور له المستقبل بالصورة التي تحث الرغبة وتدفع الإرادة إلى العمل، ثم يكون من هذا كله الواقع الذي نعيش به. وأحلامنا وخيالاتنا وأمانينا تجرى عادة فيما نسميه الكامنة؛ أي: العقل الكامن، ولكنها ترتفع إلى الوجدان أو تمسه أو تختلط به، فندري ما نفعل، ونعمد إلى غاية خيالية نجد لها ونسدد إليها إرادتنا حتى تتحقق.
ونحن جميعًا نعيش في مجتمعات مختلفة، وإذا قلنا إن المجتمع المصرى العام يحوطنا أو يسودنا فليس معنى ذلك أننا جميعا ننشأ ولنا أهداف متماثلة؛ لأن هذا المجتمع المصرى العام يتألف من مجتمعات صغيرة خاصة، وكل منها يختلف عن الآخر.
ومع أن لكل منا حياة وجودية؛ أي: حياتنا الوجدانية التي نعيش ونعمل ونكسب بها، فإن لكل منا أيضًا حياة خيالية يتخيل فيها كل منا نفسه على غير الواقع، وهو لا يخترع هذه الحياة الخيالية وإنما هو ينقلها من شخص بارز في مجتمعه الخاص هذا، وقد يكون هذا الشخص من الأحياء أو من الموتى.
ومعنى هذا أن لكل منا ماثلته التي يرسمها لنفسه، فتمثل في مخيلته على دراية أو على غير دراية منه، أو بين هاتين الحالين؛ فالخادم — مثلًا — قد يعيش في الواقع وهو يؤدي عمله كل يوم في أمانة وجد، ولكنه يتخيل نفسه يومًا في المستقبل — مثلًا — وهو تاجر له متجره وله بيته وعائلته.
والتلميذ الذي يقرأ قصة نابليون يحلم كثيرًا، وهذه الشخصية القوية تمثل أمامه فيتخيل نفسه قائدًا عظيمًا، وهو يندفع إلى جمع الكتب والصور عن نابليون، بل هو يدرس التاريخ العام بحافز من نابليون، وهو عندما تحدثه لا يصرح بأنه يريد أن يكون نابليون، وقد يكون صادقًا؛ لأن هذه النية كامنة وليست صريحة، ولكن هذه الماثلة تمثل في ذهنه وتحركه إلى دراسات مختلفة، وهو في النهاية عندما يحين التحاقه بالجامعة يجد إغراء عظيمًا في الكلية الحربية، وهناك شاب آخر لا يزيد مرتبه في إحدى المجار على عشرين جنيهًا، ولكن عندما تستمع إلى حديثه تجد أنه يعرف التفاصيل الدقيقة عن ثروة عبود باشا أو كوتسيكا أو البدراوي باشا، وهذا يدلك على أنه قد نصب لنفسه ماثلة، وأنه يتخيل الثراء، وهو ينبعث إلى النشاط بهذا الخيال، وليس بعيدًا أن يترك وظيفته المتواضعة ويندفع في مغامرة مالية بقوة هذه الماثلة فيضيع كل ما جمعه، ولكن أيضًا ليس بعيدًا أن ينجح في مثل هذه المغامرة، والأغلب أنه ينجح لأنه درس هذا الموضوع في خياله.
ونحن في مجتمعاتنا المختلفة هذه يعين كل فرد منا لنفسه ماثلة يتجه نحو تحقيقها، ويعتقد أنه سوف يكونها، وهذه الماثلات أو المواثل تتجاوز عددًا محدودًا؛ فأحدنا يريد أن يكون ثريًّا، فماثلته هنا عبود باشا، وآخر يريد أن يكون أديبًا فماثلته هنا قد يكون طه حسين، وآخر يريد أن يكون سياسيًّا، فهو ينشد الخطابة ويدرس الصحف وينضم إلى الأحزاب ويسأل ويستطلع، وقد تكون ماثلته سعد زغلول، أو تشرشل، وآخر يريد أن يكون عالمًا مخترعًا فهو يرسم ماثلته بحيث تتلاءم مع حياة أديسون … إلخ.
وقولنا إنه «يريد» ليس صحيحًا؛ لأن الإرادة هنا تعني الوجدان؛ أي إنه يدري ما يفعل، ولكن هذه الخيالات تتسلل إلينا كأنها أحلام، فلا ندري بها إلا قليلًا، ولكننا مع ذلك نندفع بها إلى النشاط والطموح، وهي تعين لنا أهدافنا في الحياة وتوجه سلوكنا.
وأحلام اليقظة التي نستسلم لها وقت الفتور أو الغفوة تبين لكل منا ماثلته؛ فقد نرتاح بعد الغداء ويغمرنا الكسل والتثاؤب، فيندفع أحدنا، وهو رجل متواضع في الواقع، إلى خيالات باهظة مسرفة كأنه قائد عظيم أو عالم أو ثري يملك يختًا خاصًّا، ويجول به حول العالم … إلخ.
وخلاصة القول أن حياة الخيال تختلف كثيرًا عن حياة الواقع، وهي تقوم على أن لكل فرد منا ماثلته التي تكونت في مخيلته منذ كان طفلًا، وهي تحيا معه طوال عمره، وهي قد تمس الواقع أو لا تمسه، ولكنها مع ذلك تبعثنا من خلف الوجدان إلى النشاط والطموح والعمل.
وأحيانًا يكون الانفصال عظيمًا بين الواقع والخيال، والمسافة بينهما ليست عظيمة فقط، بل شاسعة، ولكن قد يتسلط هذا الخيال بقوة مرغمة؛ وخاصة إذا كان الواقع سيئًا لا يطاق، وعندئذ يكون الجنون، أو على الأقل الشذوذ.
وهنا أذكر قصة وضعها كاتب روسي عن امرأة كانت تكسب عيشها بكنس البيوت وغسل الملابس، ولكنها كانت تستأجر أحد الطلبة كي يكتب إليها على لسان محب عاشق ولهان خطابًا غراميًّا، وتأخذ هي الخطاب وتكتب عنوانها على الظرف وتلقيه في صندوق البريد، فإذا كان اليوم الثانى تسلمته من الساعي وفتحته وجعلت أحد الجيران يقرءه لها.
وكلنا هذه المرأة، ولكننا نتعقل فلا نتورط في مثل هذا الجنون أو الشذوذ، فإن هذه المسكينة قد رسمت لنفسها ماثلة وتخيلتها، وحلمت بأنها سوف تكونها ولكنها لم تستطع أن تكونها، فوثبت إلى التحقيق بطريقة صبيانية تتاخم الجنون.
وما هي ماثلتك التي تحرك نشاطك وتبعث خيالك وأحيانًا تحملك على التفكير المجدي أو التفكير العقيم؟
إننا يجب أن نبنى ماثلتنا بناء حسنًا؛ كي لا تتجاوز الواقع كثيرًا، أو أيضًا لا تستوي به، يجب أن تكون ماثلتي أعلى من الواقع، ولكن ليس إلى العلو الشاهق، وذلك كي أستلهمها وأجد منها المحرك لنشاطي.
وبكلمة أخرى يجب أن نربي خيالنا.