حين نحلم ونحن أيقاظ
روى جيته أعظم أدباء ألمانيا أنه كان كثيرًا ما يستسلم لأحلام اليقظة؛ أي: لخيالات لذيذة تتفق وأمانيه التي كان يرجو لو أنها تحققت في الماضي، ومن هذه الأحلام التي كان يلذ له أن يستعيدها ويجترها أنه كان يتخيل أن أميرًا من الأمراء العظام قد مر بالمدينة الصغيرة التي كان يعيش فيها أبواه، وأن هذا الأمير قد وقع في غرام أمه، وكان — أي: جيته — ثمرة هذا الغرام. ولذلك كان يحب أن يعتقد ولو في الخيال أنه باعتباره الأديب العظيم الذي يجلجل اسمه في أنحاء ألمانيا بل أوربا لا يصح أن يكون ابن ذلك المحامي المتواضع في تلك المدينة الصغيرة التي ولد فيها؛ إذ يجب أن يكون ابن أمير؛ لأن أمير الأدب والقلم يجب أن ينبع من أمير السيف والسياسة.
ومع سخف هذا الخيال وما ينطوى عليه من قبح التفكير بشأن الأم التي يجب أن يلصق معناها في خيال الابن بالطهارة والأمانة، مع ذلك يجب أن نقول إن أحلام اليقظة كثيرًا ما تجر إلى خيالات سخيفة، وهذه الخيالات تثبت أننا والمجرمين سواء في بعض الأحيان، ولكن الفرق بيننا وبين المجرمين أن ما نحلم به ونقف فيه عند حدود الحلم يعمد المجرم إلى العمل به وارتكابه.
ولكن ليست أحلامنا في اليقظة تجري كلها على هذا النسق من السخف؛ فإننا أحيانًا نعين الأهداف البعيدة ونجتر الأماني الجميلة في فترات الاسترخاء والراحة، أو حتى وقت الأرق. فنتخيل أنفسنا ناجحين أو متفوقين، ونحن في هذا التخيل نتوسل إلى الغاية بالتفكير في الجد أو الاقتصاد، ونتدبر التدابير لذلك، فإذا تكررت هذه الخيالات وتنوعت أساليبها، مع بقاء الغاية واضحة متميزة، فإنها تحدث لنا شهوة؛ أي: عاطفة قوية، تعين لنا سلوكنا في الحياة، وتولد الإرادة لتحقيق الهدف أو الأهداف التي تخيلناها.
ويجري كل هذا في الكامنة؛ أي: العقل الكامن من حيث لا نجهد؛ لأن كل حركة من حركاتنا، وكل فكرة من أفكارنا تنحو هذا النحو، وهو تحقيق الخيالات التي نحلم بها في أوقات اليقظة والنوم؛ لأن هذه الخيالات توحي إلينا الأفكار والخواطر التي تؤدي إلى تحقيق الحلم الذي نحلمه.
ولكن إذا تركنا أحلام اليقظة تجري عفوًا بلا قيد فإننا نرى أنها تسخف، أو تنتهي إلى تفريج للكظوم المختلفة التي نلقاها في النهار وقت العمل. ولهذا التفريج قيمته التي لا تنكر في التخفيف من القلق والكرب والضيق، ولكنه سلبي لا ينضج الشخصية ولا يرقي النفس.
ولذلك يجب أن يكون لنا شيء من الضبط والرقابة على أحلام اليقظة؛ حتى لا تتمادى في خيالات سخيفة، مثل خيالات جيته بشأن أبيه الأمير، أو خيالات مستحيلة كما يحدث حين يتخيل أحدنا أنه ملك، أو قائد جيش، أو ثري يملك الملايين.
وهذا الشيء من الرقابة والضبط يجعلنا نملك الزمام لخيالاتنا، فلا نتركها مسيبة مطلقة في فوضى، ولكن يجب أيضًا أن نرخي الزمام ولا نشده حتى تجري هذه الخيالات فيما يشبه أحلام النوم، فبدلًا من أن يتخيل أحدنا أنه ملك وتتبدد بذلك خيالاته في سخف وفوضى، يستطيع أن يتخيل أنه محام عظيم، فهنا نجد خيالًا يمكن تحقيقه، ونحن في أحلام اليقظة نبعث هذا الخيال ونفكر في صورة المحامي الناجح من حيث فصاحة القول وبلاغة البيان، والوقوف على آراء الفقهاء والقوانين، والعناية بالهندام واختيار المكتب في المكان اللائق، والكلمات التي نتبادلها من المتقاضين، والأجر العالي الذي سنحصل عليه، والمقام الذي سيعترف لنا به المحامون والقضاة والمتقاضون. وكل هذا يجري خيالات كالأحلام ونحن في اليقظة الهامدة قبيل النوم أو بعده، وتحدث لنا من هذه الخيالات عاطفة تؤكد لنا الإرادة إلى التحقيق، فنجد أن سلوكنا ونشاطنا موجهان معنيان بهذه الإرادة، وعندئذ لن يكون النجاح بعيدًا.
وهو نجاح لا نحس أننا نتعمده عن قصد ووجدان؛ إذ هو يأتينا عفوًا، بل أحيانًا قسرًا.
وهذا هو الشأن في جميع الناجحين؛ فهم لا يتعمدون النجاح وإنما يحلمون به، حتى تتألف من أحلامهم — أحلام اليقظة — عاطفة تسوقهم إلى هذا النجاح، ولذلك كثيرًا ما يعجز الناجح عن تعليل نجاحه.