الفراسة السيكلوجية
الوجه هو بطاقة النفس التي نتعرف بها إلى صاحبها؛ أي شخص هو؟
أهو انبساطي متفتح مستبشر ضاحك أم انطوائي مفكر محتجز؟ أهو خائف أم مجترئ؟ ومتزن أم مزعزع؟
ثم كيف نقعد وكيف نمشي؟ بل كيف ننام، وكيف نتحدث؟ إن التفاتة العين وحركة القدم وإيماءة اليد كلها تدل على الحالة النفسية التي نستمتع أو نبتئس بها.
اعتبر رجلًا قاعدًا وقد شرد ذهنه، أو قد وضع يده تحت خده، أو هو يهز قدمه، أليس في كل هذا علامة معينة عن حالات نفسية يسهل علينا تفسيرها؟
عندما نقصد إلى الفراش للنوم تمر بأذهاننا خواطر بشأن الحوادث أو المشكلات التي مرت بنا أو سوف ننتظرها.
وهي تعين لنا أحلامنا بعد ذلك، كما تعين لنا الوضع الذي نتخذه في النوم.
فإذا رأيت رجلًا ينام ووجهه مكشوف سافر للدنيا فاعلم أنه نام مغتبطًا، بخلاف ذلك الآخر الذي يخبئ وجهه وهو نائم كأنه يخشى شيئًا.
فإن هذا قد نام وهو يفكر؛ لأننا في النعاس نكون على حالات مختلفة من الفرح أو الحزن أو اللذة أو الألم، وهذه الإحساسات تتجسم في هيئة النوم.
وقد أجد أحد الناس قاعدًا ينتظر آخر، أو هو قد شرع يفكر في موضوع ملح، فهو يهز قدمه فأعرف أنه في قلق.
وأحيانًا أجد آخر لا يكاد ينتهي من سيجارة حتى يشعل أخرى.
وهذا أيضًا في قلق، بل إن أكل اللب قلق؛ وذلك لأن الرجل المهموم يحتاج إلى ما يرفه عنه بالسيجارة أو اللب أو القهوة أو حتى باستهلاك الطعام الذي لا يحتاج إليه؛ لأن المضغ يرفه عنه.
ومن هنا نعرف أن الرجل السمين إنما تراكم عليه الشحم لأنه كان مهمومًا قلقًا، يأكل كثيرًا كي يرفه عن نفسه ويسري عنه همومه.
والمرأة حين ترى نفسها وحيدة في البيت ليس فيه ما يسليها من زوج أو أولاد تأكل كثيرًا؛ لأن الأكل هنا تسلية وترفيه وإبعاد للسأم، ولذلك تسمن.
والرجل الخائف المزعزع يحب ألعاب الحظ؛ مثل الطاولة أو الكوتشينة، أو هو يقصد إلى ميادين السباق للقمار؛ لأنه في زعزعته وبعده على الطمأنينة يحتاج إلى مثل هذه المقامرات الصغيرة كأنه يقول: لعلي أنا مخطئ في شكوكي وأوهامي، لعلي أجد الحظ الحسن.
بل هو حين يسير في الشارع يعد أعمدة المصابيح، هل هي زوج أم فرد.
وكلنا نعرف أن لون الملابس يدل على حال نفسية في لابسها، بل كذلك وضع الطربوش.
ونستطيع أن نستعمل الفراسة السيكلوجية في تعيين الصفات النفسية عندما نتأمل لغة المتكلم، فإن الموضوع الذي يختاره ويلتفت إليه يدل على اهتمامه الأول، ثم صوته العالي أو صوته المنخفض يدل كل منهما على حال معينة؛ فعلو الصوت برهان على نقص مستكن في النفس، كأن الناقص يحتج برفع صوته، أو كأنه يحس أن من أمامه ينكر عليه أقواله فهو يؤكد ويرفع النبرات.
ثم يجب ألا ننسى ذلك المتلعثم المتردد المتلجلج، فإن هذا المسكين يعجب؛ لأنه حين يدخل غرفته ويقعد وحده لا يتلعثم أبدًا، وإذن ليس هذا العيب في حنجرته وإنما هو في نفسه، هو خوف مستقر أو شك ملازم؛ لأن اللسان المتردد يدل على نفس مترددة، وهذا التردد يبدو في المجتمع ويزول في العزلة، ونحن نمثل أمام هذا المتردد المتلجلج هذا المجتمع الذي يخافه، فهو يتلجلج أمامنا.
وربما تضطرب يده كما يضطرب لسانه، وربما أيضًا يعود إلى درجه أو خزانته بعد أن يقفلهما كي يثق أنه أقفلهما.
ثم اعتبر المجرم الذي أخفى جثة فريسته في ساقية كيف يشيح بوجهه عنها وقت التحقيق، ويؤكد هذه الإشاحة حتى تعود دليلًا عليه يهدي المحقق؛ ذلك لأنه مشغول بالجريمة يحاول إبعادها بذهنه، فيبعد عنها وجهه.
أو اعتبر ذلك القاضي الشاذ كيف يعاقب الشاذين أقصى العقوبة؛ لأنه إنما يعاقب نفسه في شخص المتهم، وكأنه يحذر نفسه من الوقوع في مثل هذه التهمة؛ لأنه يعرف هذا الشذوذ في نفسه، والإسراف والعربدة يدلان على قلق أو تزعزع.
اعتبر المُحدَث الذي جمع مالًا مفاجئًا من حرب أو نحو ذلك، فإنه يقيم الحفلات المسرفة، ويقتني الأثاث الفاخر أو الزاعق، وينادي الخدم، ويضحك ويمزح كثيرًا، وسهراته تطول وتتعدد؛ ذلك لأن إحساسه المتعمق بفقره وهوانه السابقين يحثه على الظهور بالثراء واعتياد الثراء، هو إحساس بالفقر السابق يؤدي إلى إسراف في الظهور.
وكذاك الرجل الذي يحس نقصًا جنسيًّا أو يتوهم ذلك، يدأب في التنقل من امرأة إلى أخرى في إسراف جنسي كأنه يريد أن يثبت لنفسه أنه فحل بين الرجال، وحديثه لا يكاد يخرج عن اقتحاماته النسوية الكاذبة أو الصادقة.
اعتبر الأخ الأصغر في العائلة يثور وهو طفل على استبداد أخيه الأكبر، فثورته على أخيه في الطفولة تستحيل عندما يبلغ الكهولة إلى ثورة على المجتمع.
وكذلك اعتبر إيماءة اليد عند المصافحة، فهناك اليد التي تصافحها فتحس كأن صاحبها يقول: أنا خائف، فإنها مترهلة ميتة منسحبة، وهناك اليد التي يجذبها صاحبها منك كأنه يقول: أنا أكرهك، وهناك اليد التي تقبض عليك كأن صاحبها يقول: لا تظن أني ضعيف، أنا قوي، وهو إنما يعبر عن نقص خفي في نفسه، وهناك اليد الغروية التي تلصق ولا تريد أن تترك يدك؛ لأن صاحبها أناني اقتنائي لا يريد أن يترك ما كسب، بل يريد أن يستحوذ، أو اعتبر ذلك الذي يحس أنه يكاد ينزلق عندما يفكر في المرأة، فهو لذلك لا يتعب ولا يسأم من الكلام ضد المستحمين على الشواطئ.
ثم هناك فراسة أخرى في النقد الأدبي؛ فإن الكاتب الرجعي الذي يشيد بالتاريخ الماضي ويكتب على الأسلاف إنما يفعل ذلك هروبًا من مشكلات العصر الحاضر.
وهو لا يختلف في ذلك عن المراهق الذي يلجأ إلى الخمر.
وذلك الكاتب المتعصب الذي يكره من يختلفون عنه في الدين، قد يكنُّ حزازة شخصية ضد أحد المتدينين بهذا الدين الذي يكره.
ولعلك لا تنسى أن اختباراتنا الشخصية الصغيرة، وربما الدنيئة، قد تحدث لنا مركبات أدبية عظيمة.
ثم اذكر الكاتب السباب الذي يكنُّ نقصًا كأنه شوكة في نفسه، فهو لا ينقطع عن الإيذاء وتحري العيوب، كأنه من حيث لا يدري يريد أن يقول إنه هو على الرغم من عيبه أعلى من غيره.
ومهمة السيكولوجية أن تترك المظهر وتغوص إلى الجوهر.
ولكن يجب على القارئ لأحد المؤلفين ألا يستهين بفلسفته أو أدبه أو اتجاهاته؛ لأنه قد اهتدى إلى البؤرة القذرة التي صدر عنها، إذ هي قد تكون بمثابة التربة التي نشمئز من سمادها العفن، ولكننا نعجب بروعة الشجرة التي نبتت منها، ونحن لا نستطيع أن نفكر إذا كان كياننا راسخًا مطمئنًّا؛ أي يجب أن نتقلقل بعض الشيء حتى نفكر ونتنبه.
والتغير السيكولوجي يؤدي إلى تغير عام في الشخصية؛ فالرجل الفقير الخائف المتشائم يتغير عقب نجاحه المالي، فعينان تبرقان وشفتان تبتسمان، وهو يقعد منتصبًا، كما يرفع رأسه عندما يمشي، بل هو حتى عندما ينام يبدو وجهه متهللًا، بل إن خطه يتغير ويتخذ وضعًا عموديًّا جريئًا بدلًا من الوضع المنحني المنزلق السابق.