الغلو هو طابع الشخصية البارزة
يكثر الكلام عن الشخصية، ولكن من العسير تعيين معناها، بل إن هذا المعنى قد يحتاج إلى مجلد. وكلمة الشخصية تحتوي ألوانًا كثيرة من السلوك الذي يتدرج من الرشاقة الاجتماعية والعناية بالهندام، واللغة إلى تحمل المسئوليات الجسيمة التي تخلق في الضعيف قوة.
هناك شيء يعرفه كل منا في الشخصية البارزة، هو الغلو؛ ذلك أن الشخصية البارزة لا تكاد تعرف الاعتدال أو التوسط، وليس من ينكر أن للاعتدال مزاياه، ولكن كلامنا هنا ينصب على الشخصية. وهناك بلا شك تناقض بين ميزات الشخصية وميزات الاعتدال؛ فنحن — مثلًا — نستطيع أن نبين فضائل الاعتدال، ولكن المعتدل الذي يتجنب الغلو يبقى فاترًا لا يفور ولا يغلي، ولذلك لا نعزو إليه الشخصية البارزة التي تنأى عن الاعتدال وفضائله، ولكنها تبرز بما فيها من غلو أو غلواء.
اعتبر الإسكندر المقدوني أو محمد الفاتح أو تيمورلنك أو نابليون، فنحن هنا إزاء شخصيات قوية جدًّا، ولكنها بعيدة عن الاعتدال؛ لأن قوتها تنحصر في الغلو. واعتبر في عصرنا أولئك الذين لا نذكرهم إلا وتمثل لنا شخصيات ضخمة تملأ التاريخ؛ اعتبر سعد زغلول، أو محمد عبده، أو قاسم أمين، فإننا نجد هنا غلوًّا أيضًا في ناحية معينة؛ دينية أو اجتماعية أو سياسية، وحين نقرأ تاريخهم نجد أن خصومهم قد عابوا عليهم هذا الغلو.
ونحن نعزو إلى المتنبي شخصية لا نعزو مثلها لأي شاعر آخر، فإذا تعقبنا الأسباب وجدنا أن غلوه هو السبب.
والغلو ينبع من الإرادة ولا يصدر عن العقل، بل إن العقل أحرى بأن يبعث الشكوك ويوازي بين الكفتين ويدعو إلى الاعتدال، ولكن الإرادة عندما تحتد تصير غلوًّا، وعندئذ نجد الشخصية. ولذلك نحن نجد الشخصيات البارزة في أولئك الذين يتطلب منهم ميدان أعمالهم إرادة أكثر مما يتطلب عقلًا؛ كأولئك القادة للجيوش والثائرين، أما الفيلسوف الذي يعمل بعقله دون إرادته فلا نكاد نعزو إليه شخصية ما.
وأحيانًا نصف أحد الناس بأنه يمتاز بشخصية لأنه يهدف إلى هدف واحد لا يحيد عنه، فإذا كان تاجرًا فهو لا يفكر في غير التجارة، يحفل رأسه على الدوام بالمشاريع المالية، وهذا الهدف الواحد يحمله على الغلو، فيمثل أمامنا على شخصية بارزة، حتى ولو كان هذا الهدف مخطئًا أو ليس له خطر، وحين يجنح الكاتب إلى فكرة معينة ويثابر على الدفاع عنها، فإن هذه الفكرة — ولو أنها ذهنية وليست إرادية — تكسبه غلوًّا؛ كما نرى — مثلًا — في قاسم أمين ومحمد عبده، ولكن يجب ألا ننسى أن المثابرة والدفاع يعودان إلى الإرادة.
ولكن يجب ألا يكون سبيلك إلى الغلو مفتعلًا؛ لأنه — عندئذ — يبدو مصطنعًا لا أصل له؛ لأننا إنما نغلو حين نتحمس، ولكن هذه الحماسة لا تنشأ في نفوسنا ولا تدفعنا إلى الغلو إلا إذا كنا نحب العمل الذي نمارسه، بحيث يطغى حبه على شخصيتنا، ويوجهها إلى هدف لا نحيد عنه.
وبكلمة أخرى نقول إن من يرغب في شخصية بارزة يحتاج قبل كل شيء إلى أن يمارس العمل الذي يهواه عن رغبة واستعداد، وهذه الرغبة تحول دون التفاته إلى مشاغل أخرى، فيتعين له الهدف الذي يجعل كل طاقته تنصب على بلوغه، وهو لأنه يرغب ويهوى سيتحمس، فتكون الإرادة النارية التي تؤدي إلى العزيمة والصبر والثبات والطموح، وكل هذه تؤدي إلى الغلو، إلى الشخصية البارزة.