الأحلام والحرمان
يعرف المبتدئون في دراسة السيكلوجية أن الحلم يحقق رغبة أو شهوة وقت النوم لا نستطيع تحقيقها وقت اليقظة، ومثال الجوع أو العطش يوضح ذلك؛ فإن هناك المرضى الذين يحرم عليهم الطبيب الطعام أو الشراب إلا بمقادير، فهم يجوعون ويعطشون، فإذا أخذتهم سنة من النوم امتلأت رءوسهم بالأحلام التي يأكلون فيها ويشربون.
وهذا أيضًا شأن الشبان المحرومين من الانفراج الجنسي، فإنهم وقت النوم يجدون ما يشتهون وقت اليقظة.
ولكن أحيانًا نجد طفلًا أو صبيًّا دون السابعة أو الثامنة يصرخ وقت نومه، وقد يستعصي علينا فهم سر هذا الصراخ؛ إذ ليس هو شهوة الطفل أو رغبته، ولكن عندما نذكر أن أمه كانت تضربه ثم تمنعه من الصراخ نعرف أن هذا الصراخ في النوم يمثل رغبة كانت مكظومة وهو يضرب وقت الصحو.
وإلى حد ما يمكن تفسير الكابوس بأنه هو أيضًا شهوة مكظومة، وكان يجب أن يصرخ، ولكنه كان يصمت، فلما نام تفككت الروابط الاجتماعية والأخلاقية التي كانت تلزمه الصمت، وتمثل الخوف في هيئة كابوس، فصرخ.
والرجل الذي يتحدث وهو نائم إنما يعبر عن رغبات مكظومة كان يخجل أو يخشى أو يسخر من البوح بها وهو يقظ.
وإلى هنا نعرف هذا الشيء المألوف في الأحلام، وهو أنها تعبر عن شهوات ورغبات نكظمها ولا نبوح بها لأي سبب وقت اليقظة؛ لأننا مقيدون بروابط اجتماعية وأخلاقية، والنوم يفكك هذه الروابط.
ولكن هناك عوامل أخرى تبدو كأنها تخالف الرغبة أو الشهوة المكظومة، ولكنها عند التحليل تعود إلى هذا المصدر؛ ذلك أننا لا نختلف في صحونا مما نحن في نومنا إلا من حيث الكتم والكظم، لكن شخصيتنا هي هي لا تتغير، ونحن في اليقظة أمام الناس نلبس ملابسنا ونستتر كأننا قد ولدنا بالملابس، فإذا دخلنا غرفتنا خلعنا هذه الملابس ولا نبالي أن نكون عرايا، وهكذا النوم؛ فإننا نخلع فيه قيودنا الاجتماعية ونرضى بالعري التام لا للجسم ولكن للنفس.
فإذا كنا نعالج مشكلة خاصة فإننا في اليقظة نعالجها مع القيود، وفي النوم نعالجها بلا قيود، بل نعود إلى أساليبنا القديمة في المعالجة؛ أي: نعود إلى العاطفة دون العقل.
ولذلك نستطيع أن نمنع الكابوس بأن نتحدث مع الصبي أو الرجل قبيل نومه عن موضوع هذا الكابوس ونناقشه فيه بالتعقل، فإذا نام بقيت أساليب التعقل في نومه، ومنعت العاطفة من التسلط، فيمتنع الكابوس.
والحلم في صميمه اختراع، أو محاولة بدائية لحل مشكلة أو تخيل لذيذ؛ ولذلك فإن الرجل الأبله أو المغفل لا يحلم؛ لأنه قد يعجز عن الاختراع الذي يحتاج إلى التخيل.
وكذلك الرجل الشجاع الذي تعود الصراحة والتعقل ومجابهة الصعوبات لا يحلم بالكابوس؛ لأنه لا يخاف؛ أي: ليس عنده خوف مكظوم يخفيه في النهار فيثب في الليل وقت النوم.
والرموز كثيرة في الأحلام، ولكنها أحيانًا رموز مادية لرغبة غير مادية؛ وذلك لأننا وقت الحلم نرتد إلى الأساليب القديمة المنقرضة في التعبير عن المعنى، فهذا شاب — مثلًا — يخشى الرسوب في الامتحان، فهو يرى في الحلم أنه يسقط من السقف أو الشرفة، وهنا لا يعبر الحلم عن رغبته؛ إذ هو لا يريد أن يرسب، ولكنه يعبر عن خوفه الذي لا يطيق التصريح به وقت اليقظة، فهو قد حمل همه الذي يشغله مكظومًا في اليقظة إلى النوم، واستمر هذا الهم حيًّا حتى في الحلم، وحالته هنا سيئة يحتاج فيها إلى الإيحاء بالنجاح.
وهناك شاب يحلم أنه يطير فوق القاهرة، والحلم لذيذ، وهو رمز إلى العلو والتفوق والخفة والسهولة، وكل هذه صفات الارتقاء الذي ينشده.
ويرى فرويد أن هذا الحلم جنسي؛ أي إن الشاب قد تسامى بالشهوة الجنسية وأحالها إلى طيران، ويرى أدلر أنه طموح وتشوف، والمعنيان يتقاربان، وكلاهما سار يدل على حال نفسية حسنة.
ونستطيع إلى حد ما أن نتسلط على أحلامنا ونحلم كما نريد، كما لو أخذنا قبيل النوم في الاستسلام للخواطر السارة: سياحة جميلة في البحر المتوسط أو النيل، أو التنزه على جبال الألب، أو السير بين الحقول على مجرى الماء والخراف ترعى شطوطه، أو الحديث إلى حبيبة جميلة، أو نكتة نذكرها ونضحك منها، أو ذكرى نجاحنا السابق، أو نحو ذلك، فإن هذه الخواطر تبقى إلى النوم، والنفس تخلط بها، ثم تستحيل إلى أحلام ننساق في سياقها السار.
وبالطبع إذا كانت هناك حوادث شاغلة مقلقة فإنها بلا شك تعود وتأخذ مكان هذه الأحلام السارة، ولكن من الحسن لمن يخشون الكابوس أن يستخطروا هذه الخواطر السارة قبل النوم، فإنها لن تضر إذا لم تمنعه.
ولكل إنسان أسلوبه في أحلامه، كما أن له أسلوبه في المشي أو الكتابة أو الكلام أو المعاملة، وكلاهما — أسلوب اليقظة وأسلوب الحلم — يتناسقان؛ لأنهما يهدفان إلى هدف واحد، وما دام للإنسان شخصية واحدة فإنه لن يتغير في أحلام نومه مما هو في تفكير يقظته، ونعني هنا بكلمة التغير أنه لن تكون له أهداف أخرى في حلمه غير أهدافه في يقظته، ولكنه يتغير في الوسيلة؛ إذ هو في اليقظة يعتمد على عقله، أو على شيء من العقل، أما في النوم فإنه يعتمد على العواطف التي تدفعها الرغبة أو الشهوة.
قلنا إن أسلوب اليقظة وأسلوب الحلم يتناسقان؛ وذلك لأن لكل إنسان شخصية متناسقة تسلك وتهدف من حيث ندري أو لا ندري إلى هدف أو أهداف معينة بأخلاق وعادات معينة، ومن هنا ما يحدث لكثير من الناس، وهو أن ما يجده أحدنا في حلمه قد يعود فيجد أنه وقع له في يقظته.
وعلة ذلك واضحة: لأننا في الحلم نشتهي ما حرمناه ونفرج عما كنا نكظمه، وهذا الاشتهاء يبقى ويحيا في يقظتنا حتى حين ننكر ذلك بضغط الأخلاق الاجتماعية؛ ولذلك كثيرًا ما تتحقق الأحلام لأننا نرغب في تحقيقها من حيث لا ندري، كأحدنا يحلم أنه ينتحر، ثم ينتحر، أو هو يحلم بأنه قد نال درجة ارتقى إليها ثم ينالها؛ لأنه في يقظته قد دأب في بلوغها بشتى الوسائل.
وأفكارنا الكامنة التي لا ندري بها تظهر في أحلامنا، وهي توجهنا في يقظتنا؛ أي: تعود فتحقق أحلامنا.
ومن هنا اعتقد بعض الناس بأن الأحلام تتحقق في المستقبل.
وحين تكون المشكلة التي تشغلنا في النهار بعيدة عن الشهوات والعواطف فإننا أحيانًا نحلها في النوم بأحسن مما نحلها في اليقظة، كأن تكون — مثلًا — مسألة في الحساب أو الهندسة، فإننا وقت اليقظة قد نتقيد بمشاغل تمنعنا من الحل، أما في النوم فإننا ننطلق في حرية تامة إلى الحل.
وإلى حد ما نستطيع أن نسمي الحلم جنونًا وقتيًّا، ومعنى هذا أن المجنون يكون في حلم دائم لا يتقيد بالواقع، وهو يستسلم لتخيلاته؛ أي: أحلامه، كأنه لا يرانا ولا يسمعنا ولا يبالي من حوله من الناس والأشياء، ونحن في الحلم نكون كذلك ولكن لوقت معين.
عرفت شابًّا كان قد تزعزع وأوشك على الجنون، فكان أول ما شكا منه لي أنه يريد أن يصرخ، ولكنه لا يستطيع ذلك للاعتبارات الاجتماعية والأخلاقية.
هذا الشاب قد امتلأت نفسه بالمخاوف فهو يريد أن يصرخ.
وهو عندما ينام سيطرأ عليه الكابوس فيصرخ ويرتاح بعض الشيء؛ لأن الكظم سيفرج بعض الوقت، إذ هو يشتهي الصراخ ولكنه يكتمه مع أنه لا يطيق الكتم.
ولكن العلاج الناجع أن نحلل هذه المخاوف ونوضحها له، وهي في الأغلب مخاوف طفلية سخيفة رسبت في نفسه، فإذا كشفنا عنها ونفضناها استطاع أن يتعقلها وأن يتخلص منها.
وأحيانًا يكون التحليل متعبًا طويلًا؛ لأنه هو يخفي ويجهد ليخفي أشياء كثيرة.
وخير ما أفعله مع هذا الشاب هو أن أجعله يكتب تاريخ حياته منذ ولد كما يذكر أو يظن أنه يذكر؛ لأن ذاكرتنا انتخابية، فنحن نختار منها ما يشغلنا إلى اليوم، أو ما له أثر في عواطفنا وميولنا إلى اليوم؛ ولذلك فإنه حتى حين يخترع حادثة يظن أنها حدثت فإن لهذا الاختراع دلالته، والحادثة المخترعة هنا لا تختلف عن الحلم.
ثم هو حين يعبر بالكلمات عن الحوادث الماضية، وعن مخاوف الطفولة، إنما يرفع هذه الحوادث إلى منطق العقل؛ لأن اللغة منطق، والكلمة الإغريقية لعلم المنطق تعني اللغة، والترجمة العربية تعني ذلك أيضًا، وترتيب الكلمات في ذكرى العلة أو تعليلها أو وضعها هو في النهاية تقليل وترشيد.
ولذلك كثيرًا ما يشفى المريض من أزمته النفسية بمجرد كتابة تاريخ حياته.