هل يمكن أن نزيد ذكاءنا؟
-
العبقريين الأفذاذ الذين يبتكرون ويجددون.
-
والأذكياء الملحوظين في التمييز واليقظة الذهنية.
-
والعاديين الذين لا يلفتون النظر بذكاء أو ببلادة.
-
والبلداء الذين يقصرون عن الفهم مع التكرار.
وإذا فرضنا أن درجة الرجل العادي مئة، فإن العبقري قد يصل إلى ١٨٠، كما ينخفض الأبله إلى ٦٠ و٥٠، ويتدرج الآخرون بينهما.
-
ما هي علامات الذكاء؟
-
وهل نستطيع نحن العاديين أن نرتفع إلى ذكاء بارز؟
-
وماذا يجب أن نفعل أو نسلك حتى نصل إلى هذه المرتبة؟
فأما علامات الذكاء فكثيرة، ولكن الأهم فيها أن الرجل الذكي يمتاز باهتمامات حيوية، تراه عند مشكلة ما يلتفت إلى الأصول دون الفروع، فهو — مثلًا — عندما يقرأ الجريدة تجذبه الأنباء العالمية التي تؤثر في العالم أو تغيره دون الالتفات إلى الأخبار الصغيرة الاجتماعية، وهو يمتاز لهذا السبب بآفاق رحبة في تفكيره، وهو يشتري الجريدة أو يقرأ الكتاب كي يزيد فهمًا وليس ليزيد تسلية، وهو في حديثه يتناول موضوعات كبيرة القيمة.
ثم هناك علامات أخرى للرجل الذكي تكاد تكون أخلاقية، ولكن أساسها ذهنى؛ ذلك أنه لا يفهم النجاح على أنه نجاح الحرفة وإنما نجاح الحياة، وهذا يدل على أن نظرته كلية وليست جزئية؛ فهو يحاول أن ينجح في حرفته وعائلته ومجتمعه وثقافته وثرائه، لا يقنع بالنجاح في واحد من هذه الأشياء، فذكاؤه هو ذكاء الحياة كلها وليس ذكاء جزء منها.
ويمتاز الرجل الذكي بتعدد الاهتمامات؛ فهو إذا كان طبيبًا لم يقتصر على الطب؛ إذ هو يعالج الأدب أيضًا، وهو إذا كان تاجرًا لم يبخل على نفسه بساعات يقضيها في الاهتمام بأشياء أخرى غير التجارة، ومرجع هذا أنه يستطلع كثيرًا ولا يستطيع أن يحجز نفسه في حواجز وسدود.
وعندي أن أعظم ميزة للرجل الذكي أنه موضوعي في الأكثر وليس ذاتيًّا إلا في الأقل، وهو يعالج المشكلات التي تصادفه معالجة علمية حتى ولو لم يكن يدري العلوم؛ أي إنه يتجرد من ذاتيته ويصير وجدانيًّا يزن الأشياء بالقيم التي لا تمت إلى إحساسه وعاطفته.
هذه العلامات البارزة للأذكياء، فهل نستطيع أن نأخذ بها ونتعودها؟
قبل أن نصل إلى هذه النقطة نحتاج إلى أن نذكر أشياء عن الذكاء: ماهيته وأصله، وهل هو موروث أو مكتسب، وما تأثير التربية فيه … إلخ.
ليس شك في أن مكان الذكاء هو المخ، فالمخ يفرز الأفكار كما تفرز المرارة الصفراء، وهناك في كل رأس بشري عشرة آلاف مليون خلية تقوم بهذه المهمة، ولكن الذكاء لا يتوقف على كثرة هذه الخلايا؛ لأن كثيرًا من الأذكياء يتصفون برءوس صغيرة، كما أن بعض المغفلين والبله يتصفون برءوس كبيرة، ولكن الأغلب — وهذا ظن — أن الذكي يمتاز بشرايين سالكة حسنة تغذو المخ، في حين أن الأبله قد ترجع بلاهته إلى انسداد هذه الشرايي، وأنا أعتمد في هذا التدليل على ما يحدث للمسنين، فإن نسيانهم وخرفهم يعزيان إلى هذا الانسداد الذي يؤدي إلى قلة الدم الذي يغذو خلايا المخ.
والرأي العام في الأوساط السيكلوجية أن الذكاء موروث مثل القامة أو اللون، ولكن هذا الرأي قد تزعزع بعض الشيء وقد أصبحنا نؤمن بالوسط وأثره في زيادة الذكاء، ومعنى هذا الوسط هنا هو التربية الأبوية والمدرسة ومصادفات الحياة وعادات الطفولة التي تثبت أو تهيئ للمستقبل، ونحن هنا إزاء الذكاء كما كنا إزاء الإجرام قبل خمسين سنة، فقد كان الرأي — وقتئذ — أن المجرم مولود وأننا مهما ربيناه وأصلحناه لن يصلح، ولكن الرأي الحديث أن الإجرام يعود إلى الوسط، أو على الأقل نحو ٩٧ أو ٩٨ في المئة من المجرمين قد أجرموا للوسط السيئ الذي عاشوا فيه.
وليس الشأن كذلك في الذكاء، ولكن الإيمان بأن الوسط يزيد الذكاء أو ينقصه قد أصبح يجد القبول والتفكير؛ أي: لا يجد ذلك الرفض الذي كان يجده قبل عشر سنوات.
وهناك مركبات أو عقد سيكلوجية تزيد الذكاء أو تنقصه، والذي يحدث هذه المركبات هو الوسط.
فمركب النقص — مثلًا — يحرك العواطف إلى نواحٍ مختلفة من النشاط والانتباه الذهني، وقد يؤدي هذا المركب إلى الحسد أو الغيرة أو الخوف أو الريبة، ولكل هذه آثار في توجيه الذكاء وتنبهه.
ولكن إذا كان هذا المركب طاغيًا كما نرى في الزنوج في الولايات المتحدة، فإنه يحدث بلادة ذهنية، كأن هذا الناقص يقول لنفسه: ما الفائدة من الانتباه؟ إن هناك محظورات تعين لي فكري يجب ألا أتجاوزها.
وهذا هو أيضًا شأن المرأة الشرقية التي تحد التقاليد من نشاطها الذهني في المجتمع أو الثقافة مثلًا، وأحيانًا تؤدي العاهة أو الشوهة في الوجه أو الجسم إلى تفوق ذهني؛ لأنها تحث على الانتباه واليقظة.
وكثير ممن نسميهم بلداء قد ترجع بلادتهم إلى عقد نفسية، أو عادات قد أحدثها وسط سيئ من زوجة أب قد اضطهدت الطفل، أو زوجة قد أحالها الزوج إلى قطة مطيعة لا تفكر ولا تسأل ولا تستطلع، بل هنا قد ينحرف التفكير إلى مجارٍ سيئة.
والطفل المدلل يكون في العادة ذكيًّا؛ لأنه متحرر من القيود الأخلاقية والعقد النفسية، ولكنه من الناحية الاجتماعية يعد مجرمًا أو قريبًا من المجرم، أما الطفل المضطهد فينقص ذكاؤه للعقد النفسية التي يحتشد بها صدره، وهو قد يزيد لنفس هذه العقد؛ لأنه وجد اتجاهًا آخر أوحى به وسط حسن.
وعلى ذلك أنا أعد المركبات أو العقد النفسية التي ننشأ بها من أيام الطفولة هي السبب الأكبر لتفاوت الذكاء بين الناس، وليس هو الاختلاف في الخلايا المخية؛ لأننا متقاربون في عدد هذه الخلايا، والانسداد الشرياني قبل الشيخوخة قليل، وبالطبع هناك حالات شاذة لا تدخل في حسابنا هنا.
وعلى كل شاب ألا يتهم نفسه بالغباوة أو البلادة، وأن يذكر أن رأسه لا يختلف عن رأس أرسطو طاليس أو نيوتن أو أينشتين، وإنما ميزة هؤلاء أنهم نشئوا بمركباتٍ وجَّهتهم وجهات معينة.
ونصيحتي للقارئ أن يقرأ الكتب الحسنة التي يهدف منها إلى التعلم وليس إلى التسلية، فإن هذه الكتب تبسط له آفاقا متراحبة تزيده شوقًا إلى الاستطلاع والمعرفة، ومعنى هذا أن اهتماماته تكثر وتتعدد، فيشتغل ذهنه كثيرًا ويجد المجال للتدريب والتفكير في الاجتماع والسياسة والأدب والفن.
وبهذا التوسع تزيد ثروته من الكلمات التي تحمل المعاني للثقافة العامة، فيزيد تفكيره، وعليه أن يتريث في قراءته، وأن يقرأ مع القلم؛ أي: ينتقد على الهوامش، وهو حين يفعل ذلك يحس كأنه قد اشترك مع المؤلف في التأليف.
ولكن القراءة ليست الميدان الوحيد لزيادة الذكاء وتدريبه، فإن الحوادث التي تصدمنا كل يوم تغيرنا بمقدار ما نستجيب لها بنقد أو بتسليم، وباستطلاع أو بجمود، ثم تتكرر هذه الاستجابات فتصير عادات.
ومن أحسن العادات لزيادة الذكاء أو تدريبه أن نستطلع وننتقد، وأن نصادف المشكلات بالتجرد من عواطفنا، فننظر النظر الوجداني التعقلي بدلًا من النظر العاطفي الذاتي، وهذه العادة وحدها هى ٩٩ في المئة من الذكاء، إن لم تكن هي كل الذكاء.
ومن أحسن العادات أيضًا لتدريب الذكاء أن نحتضن الفكرة كما تحتضن الدجاجة بيضها، فلا نرتجل، ولكن نفكر في الموضوع ثم نتركه كما لو كنا قد نسيناه، حتى إذا انحدر إلى كامنتنا؛ أي: العقل الكامن، وبقي ليلة أو أسبوعًا، أخذ ينمو في أذهاننا من حيث لا ندري، ثم يختمر كما لو كان جسما حيًّا، ثم تتكاثر حوله الأفكار ويثب إلينا ناضجًا.
ونستطيع أن نرتب هذا الاختمار ونصل به إلى النضج في موضوع أدبي — مثلًا — بأن نعمد إلى الموضوع عند أول لقائنا به، فنضع عناصره، ثم نتركها يومًا أو أكثر، ثم نعود إلى كتابتها تفصيلًا.
وأيما مشكلة يمكن أن تعالج بهذا الأسلوب أيضًا: تفكير ابتدائي، ثم طرح للموضوع، ثم عودة إليه.