هل تورث العبقرية؟
إن للأفكار أزياء كما للثياب، وصحيح أن بعض المفكرين الممتازين يرتفعون على هذه الأزياء ولا يبالون، كما أن بعض النساء الحكيمات يرتفعن عن حماقة التغيرات المتوالية في الأزياء. ولكن هؤلاء قلة، والانحراف عن الزي المألوف في التفكير أو العيش يلقي الاستهجان البالغ من العامة، بل من الخاصة أحيانًا.
وقد جاء وقت كان فيه الإيمان بالوراثة زيًّا تفكيريًّا مألوفًا؛ فأبناء الأذكياء يجب أن يكونوا أذكياء، وأبناء المغفلين يجب أن يكونوا مغفلين.
ولا يمكن أن يعيش باطل بين الجمهور إلا إذا كان على شيء ولو قليل من الحق، وقد كان هذا القول بالوراثة على شيء من الحق، ولكنه لم يكن كل الحق.
ذلك أن أثر الوراثة لا يمكن أن ينكر في الصفات الجسمية بين الآباء والأبناء، كما نرى في تقاسيم الوجه وفي طول القامة وقصرها، وفي الاستعداد لبعض الأمراض، كذلك نرى هذا الأثر واضحًا في بعض الاتجاهات النفسية.
ولكن يجب أن نصر هنا على كلمة «بعض»؛ لأن جميع الأدلة تثبت أن الاختلاف بين الأفراد في النجاح والخيبة، وفي المكانة الاجتماعية، والاتجاه الثقافي، وفي الأخلاق من حيث التزام الفصائل والجنوح إلى الرذائل، كل هذا إنما يرجع في أكثر الحالات — وليس في قليل منها — إلى الوسط لا إلى الوراثة.
وهنا نذكر جالتون صاحب كتاب «العبقرية الوراثية»، فإن هذا الرجل هو ابن خالة داروين صاحب نظرية التطور، وقد أخرج داروين كتابه في أصل الأنواع سنة ١٨٥٩، وكانت أهم قاعدة أو سنة طبيعية بنى عليها نظريته هي «تنازع البقاء»؛ أي إن القوي في الطبيعة يغلب الضعيف، فيبقى القوي ويتناسل ويموت الضعيف وينقرض، ولم يلتفت داروين إلى الوسط، وقد اعترف بعد ذلك بأنه أهمل هذه الناحية من بحثه في أسباب التطور.
وقد انتقل الإيمان بالوراثة من داروين إلى لومبروزو العالم الإيطالي الذي قال بأن الإجرام وراثي، وأن للمجرمين سمات معينة في الوجه والكف والذراعين، وما دام المجرم قد ولد بهذه السمات فلا صلاح له؛ إذ إنه قد ورثها، فهو مجرم بالوراثة.
ونجد مثل هذا الإيمان عند الأديب الكبير هنريك أبسن في درامته «الأشباح»، حين يخرج لنا على المسرح شابًّا عاهرًا يهجم على الخادمة، وهو — أي المؤلف — يعزو عهره إلى أن أباه كان أيضًا عاهرًا، وأن أمه حاولت التخلص منه بالطلاق، ولكن القسيس أبى عليها ذلك، ونصح لها بالإبقاء على الحياة الزوجية. وكان هذا القسيس مخطئًا كما يتضح من ثمرة الزواج، وهي ثمرة فاسدة تمثلت في هذا الشاب العاهر.
إلى هذا الحد وصل الإيمان بالوراثة: ابن المجرم مجرم بالطبع، وابن السكير الزاني سكير زانٍ بالطبع، وكأن التربية والتعليم ومصادفات العيش وعِبر الحوادث وحاجات الفقير وسلطة الثري والفرصة المتاحة والحرمان من الاستماع، كل هذا لا قيمة له في تغيير الأفراد وزيادة الذكاء أو نقصه.
بل ماذا أقول؟ إن زيادة الذكاء كانت إلى وقت قريب مشكلة من المشكلات السيكلوجية، حتى إن نحو مئة من علماء التربية في الولايات المتحدة، ومثلهم من أبناء الأقطار الأخرى، كانوا يبحثونها ويناقشونها في حدة، بل في خصومة؛ ففريق يقول بأن الذكاء موروث لا يزيد، وآخرون يقولون بل هو يزيد قليلًا بالتربية الحسنة والوسط الملائم.
ثم جاءت السيكلوجية الجديدة تضرب بالوراثة عرض الحائط، وتقول إن الدافع إلى الإجرام هو مركبات (أي: عقد نفسية) أوجدها وسط معين، وأن الجريمة هي ثمرة الوسط لا غير.
ولكن هذا الإيمان بالوراثة وجد ظروفًا قوية تدعو إلى التعلق به، بل الاعتماد عليه، فإن الإمبراطورية البريطانية لم تكن لتعيش لولا هذا الإيمان بالوراثة «نحن الإنجليز ممتازون بالذكاء والكفاية والأخلاق، أما الشعوب الأخرى التي نستعمرها؛ مثل الهنود والمصريين والإفريقيين والجاويين والصينيين، فمنحطة ناقصة في الذكاء والكفاية والأخلاق، ولذلك نحن نستعمرها رحمة بها، وهذا الاستعمار هو عبء الرجل الأبيض، يحمله على ظهره كي ينشر الحضارة بين المتوحشين من السود والسمر والصفر، وأولئك الذين يكافحون الاستعمار جهلة لا يدرون الفروق الوراثية بين الشعب الإنجليزي المجيد وبين الشعوب الأخرى الدنيئة».
وبعد، فرجائي إلى القارئ بعد كل هذا الذي كتبت ألا يعتقد أني لا أؤمن بالوراثة، أو أني أنكرها، لكني وصلت إلى إيمان جديد، وهو أن التفاوت في الكفايات بين الناس بالوراثة ليس كبير الشأن، وأن الذكاء يمكن تربيته وتنميته، وأن للوسط أثرًا كبيرًا في تعيين الاتجاه الأخلاقي والمزاج النفسي والكفاية الحرفية، بل في درجة الذكاء.