التفكير السليم
من أحسن ما قرأت لداروين ما كتب عن نفسه بقلمه، فإنه يذكر — مثلًا — أنه اتبع قاعدة لم يخالفها، هي تدوين جميع المشاهدات التي مرت به، والتي تكون ضد آرائه، أو تخالف استنتاجاته، وكان يحتفظ بها كي يراجع نفسه وينقح أو يغير أو يصحح ما يكون قد وصل إليه.
والعادة المألوفة عند الكاتب العادي أنه يجمع من المشاهدات ما يؤيد رأيه أو نظريته، بل إن العين والعقل ليشيحان عن كل شيء يخالف عقائدنا في آرائنا واستعراضاتنا، ولكن الحذر العلمي عند داروين كان يحمله على أن يدون الحقائق أو المشاهدات التي تناقض فروضه ونظرياته.
وبهذا الحذر استطاع أن يخرج مؤلفاته التي غيرت وجه أوربا الثقافي.
وما أجدرنا جميعًا بأن نأخذ بهذه القاعدة التي أخذ بها داروين نفسه، فنصحح آراءنا، ونبدد أوهامنا المتسلطة في معاملتنا الخاصة لمن نختلط بهم، وفي تفكيرنا العام في السياسة والاقتصاد والأخلاق.
فقد ننشأ في ظروفنا العائلية على أن أحد الأشخاص الذين نعرفهم هو رجل سيئ، وينمو هذا الرأي ويتجمد كأنه عقيدة، فإذا تأملنا سلوكه وأحصينا أعماله وجدنا العكس، وقد نتوهم أسوأ الأوهام عن زميل لنا في المكتب أو المصنع؛ لأننا قد تركنا القيل والقال يتسلطان علينا، ولكن لعل ما قيل عنه كان افتراء، ولعل القليل من معاينة أخلاقه يعيد إلينا اتزاننا كما يعيد إلينا مكانته الحقة.
ثم نحن نعيش بالكثير من موروث العقائد التي غرست فينا الحقد على بعض الطوائف أو بعض المذاهب أو الأديان، مع أن القليل من التأمل والمعاينة — على أسلوب داروين — قد يغير هذه العقائد الموروثة، ويجعلنا نقف من هذه الطوائف والأديان أو المذاهب موقف الحب بدلًا من موقف البغض.
وهكذا الشأن في السياسة والأخلاق، فإني كثيرًا ما أسمع — مثلًا — عن الاستهتار في المرأة الأوربية، وأنها لا تعرف العفة التي نعرفها والشرف الذي نمارسه، وكأن هؤلاء الناعين عليها أخلاقها ينسون أنها هي الأم التي تربي شبابًا يتسلطون على العالم كله بذكائهم ورجولتهم، وأن كل ما نزعمه من استهتار في أخلاقها لا يزيد على القول بأن أخلاقها هذه تخالف أخلاق فتياتنا ونسائنا، وأن الأخلاق عادات لا أكثر كما وصفها أرسطو طاليس، وأن هناك مجالًا للبحث والمقارنة عن الأخلاق الفاضلة للمرأة هل هي ما نجد في مصر أو ما نجد في أوربا؟
يجب أن تكون عقولنا مفتوحة نتقبل الرأي الذي ينقض رأينا، والعقيدة التي تنقض عقيدتنا، ونبحث الجميع بالمنطق العلمي حتى نأخذ بالأحسن والأصح، وبذلك نربي أنفسنا كما ربى داروين نفسه.