أطفال في سن الخمسين
أعظم ما يدل على أن الإنسان ناضج، وأنه قد بلغ سن الرشد النفسي، أن يكون قد تخلص من عادات الطفولة السيئة، وأنه قد مرن على التغير بحيث يرضى بأن يتكيف للوسط الجديد، فيبدل عاداته الذهنية والنفسية والجسمية عادات أخرى تتفق ومصلحته ومصلحة المجتمع الذي يعيش فيه.
ونحن نتسامح مع أطفالنا في رجوع واستجابات نفسية كثيرة؛ لأننا نعتقد أنهم عندما يبلغون الشباب سيقلعون عنها بباعث من أنفسهم، وهذا هو ما يحدث بالفعل، ولكن هناك من التسامح المسرف ما يجعل هذه الرجوع والاستجابات ثابتة، وذلك — مثلًا — حين ندلل الطفل فلا نزجره بتاتًا عن أي خطأ يقع منه، وحين ينشأ فلا يجد من يزجره من أب أو معلم أو زميل أو رئيس، فتثبت فيه العادات الطفولية، ويندفع المسكين بعواطف قهرية لا يعرف كيف يضبطها حتى حين بلغ العشرين أو الخمسين من العمر.
تصور طفلًا تركه أبواه يعاند وهو في الثانية أو الثالثة من العمر، ويصر على عناده بشأن هذا اللون من الطعام أو تلك القطعة من الحلوى، أو على أن يخرج من البيت أو يبقى فيه، فإن هذا التصرف لا يلفتنا كثيرًا؛ لأننا نعتقد أن عادات الطفولة هذه سوف تتغير، ولكننا نفاجأ بعد سبع أو ثماني سنوات حين نجد أن هذا الطفل يعصي أبويه في الذهاب إلى المدرسة، ويصر على الإضراب عن الدراسة إلا إذا اشتريا له حذاء جديدًا أو بذلة جديدة، ثم هو قد يبلغ الرجولة فإذا خاصم أحدًا استحالت خصومته إلى عناد بحيث يقضي كل أيامه وهو يجتر هذه الخصومة ويتحدث عنها، ويتورط في قضايا بسببها.
أو تصور — مثلًا — هذا الطراز الآخر، فقد عرفت رجلًا يبلغ الخمسين ومع ذلك عمد في يوم شم النسيم الماضي إلى دعوة سبعة أو ثمانية من أصدقائه كي يقضوا معه هذا العيد في قصف وطرب، فلما كان صباح هذا اليوم بكر إليه الأصدقاء، ولكن ما كان أعظم دهشتهم حين وجدوا باب مسكنه مقفلًا بقفل ضخم والبيت فارغ، فقد سافر داعيهم هو وعائلته إلى بلدة أخرى.
وهذه النكتة العملية يضحك منها طفل، وهي تتسق وألعابه ونكاته، ولكن الرجل الناضج يشمئز من هذا السلوك؛ لأن كلمة الوعد هي كلمة الشرف، ولأنه لا يرضى لأصدقائه هذا الفوت لعيد سنوي جميل.
وهذا الطفل كان أيام طفولته يؤدي هذه الألعاب فيجد التسامح المسرف، فلا نصيحة ولا توبيخ ولا عقوبة، وها هو ذا قد شب فبقي فيه هذا المزاج السخيف يؤذي به أصدقاءه حتى وهو في الخمسين من عمره.
وشبيه بهذا السلوك ما يفعله طفل أو طفلة في سن الثلاثين أو الأربعين حين يرسل إليك تلغرافًا يوم أول أبريل عن نعي فلان من أصدقائك أو أقاربك.
وكلنا يعرف تلك الشخصية الأنانية، رجل في الخمسين أو الستين من العمر، لا يزال ينظر إلى الدنيا وإلى زملائه وأعضاء عائلته وإلى وطنه بتلك الأنانية الاقتنائية؛ إذ يريد أن يقتني ويخطف وينهب، وشعاره في الحياة: أنا وحدي.
وعندما نتأمل هذا الإنسان نجد أنه آذى نفسه أذى عظيمًا، وأن عواطفه جفت، فلست تجد له صديقًا، بل لست تجد له من أسرته من يحب أن يجالسه فضلًا عن أن يصادقه؛ إذ هو قد برهن في تصرفاته المختلفة على أنه خلو من العطف والحنان والشرف؛ لأن جميع هذه الفضائل اجتماعية وهو في صميمه انفرادي أناني، بل إنه يحتقر الثقافة ويأبى أن ينفق قروشًا على شراء كتاب؛ لأن الثقافة في صميمها اجتماعية، وإذا لم يكن الإنسان مهتمًا، بل مهمومًا بالمجتمع، فإنه لا يثقف ذهنه ولا يبالي كيف كان يفكر الفراعنة أو الإغريق، أو ماذا يكتب الألمان والإنجليز في عصرنا.
أعرف واحدًا من هؤلاء الأنانيين … رأيته يوم الفجيعة، يوم الفظيعة، يوم دنشواي يضحك، وهو يقرأ وصف الجلد والشنق للمساكين الذين سطا عليهم الاستعمار البريطاني، وذلك في سنة ١٩٠٦.
وقد بقي بعد ذلك يضحك ويسخر من الحركات الوطنية، ويصف تشرشل الاستعماري بأنه رجل عظيم، بل أعظم رجل في العالم.
ومعظم ما تراه من شقاء في العلاقات يرجع إلى أن الابن البكر قد دُلل كثيرًا، وتُرك لأنانيته بلا تنقيح أو إصلاح، فنشأ اقتنائيًّا صائلًا يخطف ويسرق أمه وأخوته كما لو كان طفلًا في الثالثة من العمر. وأحيانًا أتأمل هؤلاء الأطفال الكبار في تصرفاتهم الصغيرة على المائدة أو وقت المخالفة في الحديث، فأجد أخلاق الأطفال واضحة، فهم يأكلون بنهم يشبه الخطف، وهم يصخبون في الجدال حتى يضربوا الأرض بأقدامهم، وهم يضحكون عندما يسمعون بنكبة وقعت بأحد الناس، كأن النكبة نكتة، وهم يعيرون المعيوهين بعاهاتهم، فالأحول عندهم «أعور»، والأصم أو من به صمم أطرش … إلخ.
وقلَّ أن ينجح الأناني في الحياة؛ لأنه في الأغلب يتطوح في أنانيته الاقتنائية إلى السرقة التي تسلمه إلى السجن، والارتقاء الذاتي يحتاج إلى صفات اجتماعية كثيرة؛ لأننا في النهاية لا نرتقي لأنفسنا وإنما نرتقي للمجتمع؛ إذ نحن ننشد من هذا الارتقاء شرفًا ووجاهة ومقامًا، وهذه الغايات تثير في أنفسنا عواطف اجتماعية حسنة.
وكلنا إلى حد ما أطفال ولو بلغنا السبعين من العمر، فإننا حين نغضب ونثور تطفح أفواهنا على الرغم منا بكلمات «يابن الكلب» وأمثال ذلك، وهذه الكلمات من آثار الطفولة، بل إن عواطف الطفولة تثار أيضًا؛ لأننا في مثل هذه الظروف قد نهب إلى ضرب الخصم أو ركله.
وهناك الكاتب المهاتر الذي تستخدمه الأحزاب في سب خصومها وهو يكتب كلمات مثل «يا ابن الكلب» ولكن بلغة فصحى، ويجد من الحزب الذي يستخدمه أعظم المكافآت؛ لأن هذا الحزب يعالج السياسة بأسلوب الأطفال، وقد رأينا أمثلة عديدة على ذلك في مصر.
بل هناك العلماء الذين يخترعون القنبلة الذرية أو الهيدروجينية لمحو أمة كاملة وهم فرحون كالأطفال بقنبلتهم أو لعبتهم، إذ هي صاروخ عظيم يقعقع، ولا يبالون قتل الأطفال والأمهات والمسنين والشباب والفتيات؛ لأنهم — أي: هؤلاء العلماء — لم ينضجوا.
أيها الآباء، لا تتركوا الأنانية تغمر أطفالكم، ولا تتيحوا لهم أن يكونوا أطفالًا في سن الخمسين.