الأمراض النفسية ثلاثة أنواع
المفروض عند من يقرءون الكتب السكولوجية أن الأمراض النفسية نوعان؛ هما النيوروز؛ أي: الكرب العاطفي، والسيكوز؛ أي: الجنون المطلق.
ولكن هناك نوعًا آخر هو السيكوباثية، وهو يكاد يستقل بأعراضه عن النوعين السابقين، وإن كان هناك اتصال من حيث التزعزع النفسي.
ولا نستطيع أن نترجم هذه الكلمات الثلاث، وليس من مصلحة الدارسين للسيكولوجية أن يترجموها؛ لأن الترجمة هنا تقطع بين الطالب المصري أو العربي وبين كلمات هذا العلم، وهي — أي: هذه الكلمات — ليست إنجليزية أو فرنسية أو ألمانية، وإنما هي كلمات سيكولوجية يشترك فيها جميع الطلبة والباحثين مهما تختلف لغاتهم. وإليك التفسير:
فالنيوروز هو مرض نفسي يكاد يصيبنا جميعًا في وقت ما من حياتنا، وهو جنون العاطفة حين نحس غضبًا لا يطلق، أو حزنًا لا نتحمله، أو خوفًا لا نتمالك أنفسنا منه، أو كربًا كأنه جبل على رءوسنا، أو همًّا لا يتركنا، ونحن جميعنا — بالطبع — نخاف ونضيق ببعض الظروف، ونغضب ونحمل همًّا أو همين في بعض الفترات من حياتنا، بل ربما من يومنا. وليس في هذا شيء، ولكن إذا تملكنا الخوف أو الكرب أو الهم وأصبحنا نجتر العاطفة اجترارًا ولا نعرف كيف نتخلص منها، بل لا نعرف لماذا نحن نخاف أو نغضب أو نتشكك أو نحقد أو نغار أو نحسد، وأن هذه العواطف تمنعنا من العمل وتأدية أعمالنا على الوجه النافع لنا، فإننا في هذه الأحوال جميعها نعد مرضى.
فالشخص النيوروزي هو شخص عادي لا يختلف عنا نحن العاديين السويين إلا من حيث أن عاطفته قوية جدًّا، بل جامحة، وأنها هي التي تملكه بدلًا من أن يملكها هو، وهو بذلك في ضيق وكرب، وهو نفسه يعرف أنه مريض أو متعب نفسيًّا؛ أي إنه على وجدان (دراية) بنفسه وبالمجتمع الذي يعيش فيه، ولكنه يعجز عن التخلص من هذه العواطف.
والمرض الثاني هو السيكوز، وهذا ما نسميه باللغة العامية جنونًا؛ فإن السيكوزي كان قبل أن ينتهي إلى حال الجنون هذه في نيوروز؛ أي: تسلط العاطفة الذي لا يطاق؛ كان يخاف كثيرًا، أو يتشكك كثيرًا، أو يغار أو يحقد أو يحسد، فلما اشتد به الكرب، وكادت تخنقه العاطفة، وهو لا يجد لها علاجًا بل لا يفهم لها أصلًا، عمد إلى خياله فاخترع الخبز الذي يحلم به النائم، وبذلك حل مشكلته بنفسه، ولكن الحل جنوني.
ونحن وقت النوم حين نحلم نكون في جنون؛ أي: سيكوز، ولكن سرعان ما نفيق منه عند اليقظة، فقد نطير فوق القاهرة، أو ندخل الجنة، أو نعود إلى الطفولة مع أمنا التي مضى على وفاتها عشر سنوات، أو نقتني مليون جنيه، كل هذا نراه في الأحلام ونرتاح إلى الإحساس اللذيذ الذي تحدثه هذه الخيالات الجميلة، وهي — أي: هذه الخيالات — تفريج وقتي يفكك العقد والمركبات، ويحلل العواطف السيئة التي تنتابنا وقت اليقظة والعمل والكسب في النهار. والأحلام هنا مفيدة، ولكن السيكوزي يحيا حياته كلها نهارًا وليلًا في الأحلام، وينشئ لنفسه عالمًا آخر يرتاح إليه ويفكك به عواطفه الطاغية التي كانت تجعله نيوروزيًّا، وهو بهذا السيكوز ينفصل عن المجتمع.
النيوروزي قد جنَت عاطفته وطغت عليه، ولكنه لا يزال يحتفظ بوجدانه؛ أي: تعقله، وهو ضائق مكروب لا يطيق ما هو فيه.
ولكن السيكوزي قد جن عقله، امتلأ بالخيالات والأحلام التي فصلت بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه، وقد زال عنه الوجدان؛ أي: لا يدري بنفسه.
ومن السهل أن نحلل النيوروزي ونفكك العاطفة الطاغية، ولكن من الشاق أن نحلل السيكوزي؛ لأن الأول على وجدان بما يفعل معه، وهو يساعدنا، أما الثاني فقد هجر الواقع إلى الخيال واستقر عليه؛ إذ لم يكن يطيق هذا الواقع الذي كان يطبق عليه ويجعل عاطفته تطغى.
ونحن حين نرى النيوروزي والسيكوزي نشفق عليهما كثيرًا، ونحس أنهما لا يستحقان كل هذا البلاء، ولكن هناك نوعًا ثالثًا من الأمراض النفسية قد يكون خفيفًا جدًّا حتى لا نلحظه، وقد يتفاقم حتى يؤدي إلى الاغتيال أو الفسق أو الغدر أو السرقة، وهو السيكوباثية.
والسيكوباثي هو المجرم على وجه عام، وهو يختلف عن النيوروزي من حيث إن هذا الثاني مسكين قد تغلبت عليه عاطفة ملحة مثل الغضب، فهو لا يتمالك من أن يضرب خصمه أو يقتله في نزوة الغضب، ولكنه يعود فيهدأ ويندم ويبكي على ما اقترف، ويطلب الصفح ويحاول التوبة، ولكن السيكوباثي يقتل وهو بارد في غير هياج، وهو لا يندم.
وإذا ضبط فإنه لا يفكر في التوبة، وإنما يفكر في احتيالات جديدة لكي لا يضبط مرة أخرى.
والسيكوباثي نهَّاب خطَّاف، يزوِّر ويختلس ويزيِّف النقد أو يفسق بالصبيان أو بالفتيات إذا آتته الفرصة، وهو على وجدان بما يفعل، يدبر في تعقل ويتخلص في تعقل، وقد يكون متعلمًا فيستغل ما تعلمه في تحقيق أهدافه الإجرامية، وجنونه هو جنون الأنانية المسرفة، فإنه يلومك ويكرهك لأنك لم تترك له فرصة كي يسرقك، أو هو يحقد عليك لأنك ضبطته.
وفي الأغلب يكون هذا السيكوباثي «المجرم» قد قضى طفولته وهو مدلل، قد تعود في السنين الأولى من عمره أن تلبى جميع طلباته، فإذا وجد رفضًا رفس بقدميه وصرخ حتى ينال طلبته، ويرسخ فيه هذا الأسلوب إلى سن الثلاثين بل السبعين، أو هو يكون قد اضطهد أيام طفولته فنشأ على عادات أخرى من المكر والغدر والاحتيال كي ينال طلبته.
وكلاهما — المدلل والمضطهد — سيئ، ولكني أعتقد أن الطفل المدلل أسوأ من الطفل المضطهد، وأنه حري بأن يكون في المستقبل مجرمًا أكثر من الطفل المضطهد.
وليس من الضروري أن يصل السيكوباثي إلى السجن بجرائمه؛ لأنه في أغلب الأحيان يكون ذكيًّا يعرف كيف يتقي المسئوليات، وأحيانًا يجد من ثرائه الموروث — مهما يكن قليلًا — ما يتيح له العطل الدائم الذي يستغله في الأذى، وهو لذلك يكره الخدمة والإنتاج، كما يكره المجتمع، بل يكره النظام والإنصاف.
هو طاغية على أهله وعلى مجتمعه، وهو ظالم لهما، ولكنه مظلوم؛ لأنه لم يحصل على تربية سديدة من أبويه اللذين دللاه أو اضطهداه.