الأسباب السيكلوجية للجريمة
حوالي سنة ١٩٠٩ كنت في باريس، وكانت قد وقعت جريمة فظيعة ارتاع لها الجمهور واشتغلت بها الصحف، هي أن أحد المجرمين فسق بصبية لم تتجاوز العاشرة، ثم قتلها، أو هو قتلها وفسق بها بعد ذلك، وحكمت عليه المحكمة بالإعدام، ولكن رئيس الجمهورية خفف العقوبة إلى السجن المؤبد؛ لأنه كان يكره عقوبة الإعدام كمبدأ عام.
وهاج الرأي العام وألح في ضرورة الإعدام، ومضت أسابيع وليس للجرائد من موضوع سوى هذا المجرم وهذه الجريمة، وفي ذلك الوقت كان لومبروزو العالم الإيطالي يستمتع بشهرة عالمية، وكان يبحث الجريمة والعبقرية والجنون، ويعللها جميعها بالوراثة، وبعلامات معينة في الرأس والوجه والقامة واليد … إلخ.
وكان الإيمان بالوراثة على أقواه، وكأن كل إنسان كان مقدرًا له قبل أن يولد أن يكون فاضلًا أو رذلًا، ذكيًّا أو غبيًّا، مجرمًا أو مستقيمًا بمحض الوراثة، وأن الوسط لا قيمة له بتاتًا في التوجيه الأخلاقي أو التغيير الوراثي.
وعمد أحد الفرنسيين إلى استشارة لومبروزو بشان هذا المجرم الفاسق الذي هاج الرأي العام الفرنسي، وأرسل إلى هذا العالم الإيطالي صورة يد قال إنها يد المجرم، وطلب من لومبروزو أن يوضح العلامات التي تدل على إجرامه، ولم يتأخر لومبروزو في الإجابة على هذا الطلب؛ فإنه بعث برده وبه بيان واضح يدل على أن هذه اليد هي يد مجرم فظيع يتسم بعلامات الإجرام الوراثي!
ولما حصل هذا الفرنسي على هذا الرد أرسله إلى الجرائد التي نشرت صورة اليد وبيان لومبروزو، ولكن هذا الفرنسي كان ماكرًا خبيثًا، فإنه لم يكن قد أرسل صورة يد هذا المجرم، وإنما كانت الصورة ليد الكاتب العظيم فكتور هيجو.
وقد خف الإيمان بالوراثة في السنين الأخيرة وضعف دعاة القدر الوراثي؛ لأن الوراثة «قدر» يقدر لنا قبل أن نولد.
وكان أعظم من دعا إلى الوراثة عالم ألماني يدعى فيسمان، فإنه ألف كتابًا حوالي سنة ١٨٩٥ أسماه «الجسيم الجرثومي»، قال فيه إن خلايا التناسل التي تعيش في بيضتي المرأة وخصيتي الرجل إنما تعيش مستقلة عن جسم المرأة وجسم الرجل، فهي تغتذي من الدم حقًّا، ولكنها لا تتأثر بما يحدث للمرأة أو للرجل في حياتيهما.
وعلى الرغم من أن هذا القول يخالف البديهيات في المنطق، فإن العالم الأوربي آمن به؛ لأن فيسمان كان من العلماء التجريبيين الذين يعملون بالمكرسكوب ويعتمدون على المشاهدة؛ ولذلك ساد هذا الرأي، وأصبحت الوراثة قدرًا مقدورًا، فأنا وأنت نولد بمقادير معينة لنا من الذكاء ومتانة القلب وطول العمر والاتجاه الإجرامي والاستقامة الأخلاقية، ومهما فعلنا واجتهدنا فإننا لن نتغير.
وإذن يعد الإجرام وراثة أو صفات وراثية لا يمكن تغييرها، وما دام لا يمكن تغييرها فليس هناك أي معنى لأن نصلح المجرم أو نعوده عادات اجتماعية حسنة؛ لأن وراثته سوف تنزع به فيعود إلى الإجرام وينسى ما تعلمه وتعوده.
ولم يصب عالم البحث، بل عالم الخير والشرف، بمثل ما أصيب به من هذا المذهب الجامد الذي كان يجعل الدعوة إلى الرقي أو الإصلاح عاطلة أو عقيمة.
وكانت نظرية دراوين باعثًا قويًّا على القول بأن الجريمة إنما هي ردة؛ أي: ارتداد إلى السلف من أولئك الوحوش التي كنا ننتمي إليها قبل ملايين السنين؛ فالمجرم إنما يمثل سلفًا عاش قبل مليون سنة، حين كان الفتك والاغتصاب والقتل من الطبيعة الحيوانية التي لا تصلح عندما تثب في أحد المجرمين في عصرنا.
الوراثة التي نرثها من آبائنا وأسلافنا أم الوسط الذي نعيش فيه؟ أيها يعمل لتكويننا المزاجي الأخلاقي؟
هذا هو السؤال الذي يحتاج إلى الإجابة عليه جميع المشتغلين بالإصلاح الاجتماعي؛ إذ لو كانت الوراثة هي كل شيء فليست هناك أية منفعة من الإصلاحات الاجتماعية، أما إذا كان الوسط قادرًا على تغيير الوراثة؛ أي: قادرًا على أن يجعل الحي يتطور ويرقى، فإن الدعوة إلى إصلاح المجرم أو تعليم الفضائل لأفراد الشعب تجد ما يبررها.
والإجابة التي يجمع عليها جميع الباحثين في عصرنا تختلف كل الاختلاف مما كان يذهب إليه لومبروزو، وهي أن الإجرام اجتماعي وليس وراثيًّا.
وصحيح أن بين بعض المجرمين تشوهات موروثة في الوجه أو الجسم، ولكن قيمة هذه التشوهات اجتماعية، بمعنى أنها تجلب لحاملها الاحتقار أو الكراهة فيحدث هذا رجعًا (رد فعل) سيئًا في نفسه يثير الغيظ الذي قد يؤدي إلى الجريمة، ولو أنه لم يكن قد وجد هذا الاحتقار أو هذه الكراهة لما أجرم.
وقد أنارتنا السيكلوجية الحديثة بشأن الإجرام عن السلوك البشري، من حيث اتجاهها إلى درس السنين الأربع أو الخمس الأولى من العمر أيام الطفولة، حين ينطبع الطفل بكل ما يرى أو يسمع أو يتعود؛ ففي هذه السنين ينشأ المجرم لأنه تعود استجابات ورجوعًا معينة من أبويه أو أعضاء عائلته؛ كالعناد لأنه كان مدللًا، أو كالمكر لأنه كان يعيش مع زوجة أبيه، فكان يحتاج إلى الخبث والاحتيال.
فالمجرم في هذا النظر هو شخص قد بلغ العشرين أو الأربعين من العمر الزمني، ولكنه قد وقف عند الاستجابات السيكلوجية لطفل في سن الخامسة، يغضب ويعاند ويبطش ويحطم ويسرق ويحتال ويكره تأدية الواجبات.
وقد كان ديدرو يقول إن جميع الأطفال مجرمون، ولكن يمنعهم من الإجرام عجزهم عن التنفيذ، ونستطيع أن نقول نحن: إن جميع المجرمين أطفال من حيث التزامهم أساليب الأطفال في السلوك؛ لأن قوتهم قوة الرجال البالغين في حين دوافعهم هي دوافع الأطفال، فمكافحة الجريمة يتطلب حماية الأطفال من الوسط السيئ أيام الطفولة وتدريبهم، بحيث يأخذون في النمو حتى ينخلعوا من أساليب الطفولة.
ولكن من الإسراف أن نعزو جميع الجرائم إلى الاستجابات والرجوع أيام الطفولة، فإن هناك ظروفًا اجتماعية أخرى تؤدي إلى الجريمة، والبرهان على ذلك أن معظم المجرمين ينتسبون إلى طبقة الفقراء، وليس هؤلاء على اختلاف وراثي أو عائلي من أبناء الطبقة الثرية، وإجرامهم لذلك يعزى في كثير من الحالات إلى فقرهم. فإذا نظرنا إلى العدوان — مثلًا — باعتباره جريمة مقصودة لذاتها، وليس وسيلة للسرقة، وجدنا أن له أسبابًا سيكلوجية أخرى غير عادات الطفولة؛ فإن الخائف القلق يعمد إلى العدوان، إذ يجد فيه وسيلة إلى الاطمئنان؛ كأن المنطق النفسي يقول: إذا أنا هزمت الخصم بالضرب فإني أطمئن.
اعتبر الزوج الذي يحس نقصًا جنسيًّا فيضرب زوجته، كأنه يريد أن يطمئن على سلطته بإيذاء زوجته؛ لأن هذا الإيذاء يخفي عجزه الجنسي، ويوهمه القوة من حيث يحس الضعف.
أو اعتبر الأب المحرج، الذي أحرجه فقره وعجزه عن أن يعول أبناءه، فإنه يضربهم؛ لأن الضرب هنا تفريج للحنق القائم في نفسه.
وخيبة التلميذ في الامتحان تجعله عدوانيًّا في البيت.
بل أحيانًا يؤدي الحرج إلى الإيذاء النفسي؛ فالرجل ينتحر لأنه محرج بإفلاس أو بفضيحة، وهو إذا لم يقتل أو يؤذي نفسه فقد يقتل أو يؤذي غيره.