جريمة في الظلام
ليس فيما سنرويه هنا شيء من الخيال، فإن هذه الجريمة التي سنذكر تفاصيلها قد وقعت، وما سيقرءه القارئ هنا من تفاصيل قد استقاها الكاتب من المجرم الذي ارتكبها، وما كنا لنجيز لأنفسنا ذكرها لولا أنه قد مات منذ سنوات، ونحن لا نذكر هذه الجريمة بشيء من التفصيل إلا لنستخرج العبرة السيكلوجية في تربية الآباء للأبناء.
نشأ «محمود» على العدوان؛ لأن أبويه قد ربياه، أو بالأحرى أساء كل منهما إليه في التربية، بأن جعلا التدليل وسيلة إرضائه، فكان إذا اعتدى لم يجد منهما عقابًا أو ردعًا؛ ذلك لأنه كان وحيدهما أو في مقام الوحيد، ولذلك أصبح العدوان أسلوب حياته، فهو حين كان يشتهي شيئًا أو يرغب في تحقيق غاية كان يعمد إلى الغضب والقهر حتى لو كان في مستطاعه أن يحصل على غايته بالتراضي والمساومة، ونحن البشر نحتوي طائفة من العواطف؛ منها العدوان والرحمة والحب والكراهية والخوف والأمل، وأيما عاطفة من هذه العواطف تتغلب علينا تعين لنا سلوكنا في الحياة، وتقرر لنا الأسلوب الذي نعيش به، فنجد السعادة بالتعاون الاجتماعي أو الشقاء بالانفراد؛ لأنها — أي العاطفة — تطغى علينا فلا ننبعث إلى النشاط إلا عن سبيلها. وهناك — بالطبع — العاديون من الناس الذين يجمعون جملة عواطف تتنازع نفوسهم، فيجدون في هذا التنازع مجالًا للتعقل، ولذلك يسلكون سلوك التعقل أو ما يقاربه.
ولكن «محمود» وجد التدليل المفرط في طفولته وصباه، ووجد أن عدوانه يغفر له، فتمادى فيه.
وهنا نقطة نحب أن يقف عندها القارئ، هي أن العدوان هو الصفة الغالبة في الشهوة الجنسية، ونقول الشهوة لا الحب؛ لأن منابع الحب اجتماعية، بل أموية؛ أي إنها تعود إلى الأم؛ أي: حب الطفل لأمه، وهذا الحب هو حنان ورفق وتلطف وإعجاب، أما الشهوة الجنسية فعدوان، بل إن هذا العدوان يجد من تظاهر المرأة بالتألم، أو من ألمها الصادق، ما يثير ويبعث اللذة في الرجل، وأحيانًا تزيد عاطفة العدوان حتى تصير جنونًا يحمل صاحبه على إيلام المرأة وجرحها.
وقد وجدت أنا في أحلام كثيرة أن الشاب عندما يغتاظ من شاب آخر يحلم أنه فسق به، فالشهوة الجنسية هنا قد أثيرت — على شذوذها — بالخصومة والعدوان؛ إذ هي تمثلهما.
والشهوة الجنسية إذا أصبحت مؤذية صريحة تسمى «سادية»، وهي إذا أصبحت تألمية؛ أي إن صاحبها يحب أن يتألم، سميت «مازوكية»، وعلى الرغم من التناقض بينهما هناك ارتباط خفي، بل إن هذا الارتباط نراه في بعض الناس الذين يقسون على غيرهم في المعاملة؛ لأنهم يقسون على أنفسهم.
وهذه المقدمة الموجزة قد احتجت إليها كي أوضح للقارئ الجريمة التي أكتب هذا المقال عنها، فإن «محمود» الذي دلل في طفولته وصباه نشأ على العدوان، ثم أصبحت الشهوة الجنسية عنده رمزًا للعدوان.
وقد تزوج في سن مبكرة، للتدليل أيضًا، فشرع يضرب زوجته منذ الشهر الأول من الزواج، ولم يكن هذا الضرب سوى «سادية» مستترة؛ لأنه كان عقب هذا الضرب، وبعد أن يسمع الصراخ والتأوهات يعمد إلى إشباع الشهوة الجنسية، ويعود الصلح والاسترخاء مكان الخصومة والتوتر، ولكن إلى حين.
وليس هناك مجتمع متمدن أو شبه متمدن يطيق الرجل المدلل؛ وخاصة إذا كان هذا التدليل قد اتخذ صورة العدوان، ولذلك أصبح «محمود» انفراديًّا، بل كثيرًا ما كانت تحتويه الغرفة التي يبيت فيها أيامًا لا يخرج منها؛ لأنه لم يكن يجد الأنسة من صديق أو قريب، وكانت تلذ له هذه الوحدة؛ لأنه كان يجد في خواطر اليقظة وهو منفرد بالغرفة انتصارات رخيصة على أولئك الذين اعتدى عليهم فصدوا عدوانه، وقد قص على ابنه بعد وفاته أنهم في البيت كانوا يسمعون وهو يتكلم في غرفته بكلمات السباب يبصقها في الهواء على عدو خيالي، وأنهم كانوا قد ألفوا منه هذه الحال فلم يكونوا ينبهونه.
وحدث ذات مرة — وهنا الجريمة — أنه تشاجر مع حميه؛ أي: والد زوجته، وهذا حادث يحدث في بعض العائلات، والصلح قريب إذا كان المتشاجران قد نشأ كلاهما على تربية اجتماعية تحمل معاني التراضي والمسالمة، ولكن «محمود» لم يحصل على هذه التربية؛ لأن شعاره في الحياة هو العدوان، والعدوان فقط، ولذلك عمد إلى الانتقام من حميه بأسلوب عجيب، هو اغتصاب زوجته؛ أي: حماته.
وهنا المعاني المترابطة: العدوان، الاغتصاب، الشهوة الجنسية، السادية، الانتقام، كلها يتصل بعضها ببعض.
ويجب أن نذكر هنا أنه لم يحاول الوصول إلى حماته بالاحتيال أو الرفق، لا لأنه كان يقدر الخيبة، بل لأنه كان يجد في الاغتصاب لذة سادية لا تعدلها لذة أخرى، هي لذة العدوان: أسلوب حياته.
وفي ليلة سوداء مشئومة دعا حماته المسكينة إلى منزله، وهيأ؛ أي: جعل زوجته تهيئ لها؛ أي لأمها، وليمة فاخرة، وتعشى الجميع وناموا معًا في غرفة واحدة.
وقد كان هو يقص هذه القصة، ولم يكن يقصها إلا وتبدو على نفسه ووجهه أمارات الانتعاش بالانتقام، بل كان يضحك كثيرًا عندما كان يصف البحة التي أصابت زوجته وهي تجره عن جسد أمها وهو في طغيانه الجنسي، وكانت بحة الزوجة من أثر الصدمة النفسية.
وتمت هذه الجريمة في الظلام، وأسدل الستار عليها؛ لأن كل فرد عرف بتفاصيلها من العائلة اضطر إلى التزام الصمت؛ لأن هذه الفضيحة تمس الجميع.
وكل ما أبغيه من هذه القصة المؤلمة أن أقول إن هذه الجريمة إنما نبتت أيام الطفولة، حين دلل «محمود» أبواه، وحين كانا يتسامحان في عدوانه ويخضعان له ويلبيان جميع طلباته.
وهذه الجريمة هي واحدة من عشرات من الجرائم العدوانية التي ارتكبها، وهي تحتاج إلى كتاب، وقد قضى «محمود» هذا — وهذا بالطبع ليس اسمه — نحو سبعين سنة لم يكسب فيها قرشًا يعرف جيبه، وإنما عاش ومات وليس له من أسلوب للكسب سوى العدوان الظاهر؛ كالاغتصاب والخطف، أو العدوان الخفي كالسرقة، ولذلك سرق أمه وزوجته وأخوته، وضرب أمه وزوجته وأخوته، وكان ذئبًا يعقر وينهش كل من يعرفه.
أيها الآباء، لا تدللوا الأبناء، ولكن أيضًا لا تضطهدوهم؛ لأن الاضطهاد يفسد الأبناء كالتدليل سواء، وإنما عاملوهم كما لو كنتم معلمين أغرابًا وكانوا هم أطفالًا أغرابًا، علموهم بالعدل والحب.
احذروا الجريمة والانتحار والجنون في أبنائكم بتجنب التدليل والاضطهاد.